مقولة تتردد دائما عندما لا يحقق العمل غايته التي يتغياها، بل يحقق العمل أغراضا وأهدافا لا تحقق مقصود صاحبه، بل نقيض هذا المقصود.

Ad

مجلس الدولة الفرنسي

وفي هذا السياق أتذكر دائما إنشاء مجلس الدولة في فرنسا، فقد أنشأ نابليون هذا المجلس لتحصين قراراته وقرارات الإدارة بوجه عام، وخلق ما عرف في فرنسا بالإدارة القاضية.

ذلك أن مجلس الدولة تناسى أصل نشأته، وأصبح بعد ذلك حصنا حصينا للحقوق وملاذا أمينا للحريات، بالأحكام العظيمة التي أصدرها، تشع على العالم كله نسيم الحرية وترسخ مبادئ المساواة وحماية حقوق الإنسان، الأمر الذي حذت دول كثيرة حذو فرنسا في إنشاء هذا القضاء الإداري المتخصص (مجلس الدولة)، وهو ما يجري السعى إليه في الكويت هذه الأيام.

ديغول ومجلس الدولة

وما زلت أذكر القصة الطريفة التي رواها لي أحد مستشاري مجلس الدولة الفرنسي، في حفل أقاموه لي ولزملائي الخمسة من مستشاري مجلس الدولة المصري في قصر Palais Royal Le في باريس، وهو القصر الذي اتخذه مجلس الدولة الفرنسي مقرا له، وكنا قد أوفدنا إليه في منحة ضمن برنامج التعاون القضائي بين البلدين.

والقصة الطريفة التي رواها لي المستشار بمجلس الدولة الفرنسي، في سياق الحديث عن هذا القصر، أن ديغول رئيس فرنسا وقتئذ، وزعيمها وقائدها العظيم، قد طلب زيارة المجلس، فأعدوا له حفلا في هذا القصر، يليق بقامته الرفيعة، وحضر في الموعد المحدد، ليصعد على المنصة، ليلقي كلمته، فلم يلق سوى جملة واحدة هي: "هنا في مجلس الدولة أستنشق نسيم الحرية". وغادر ديغول الحفل على الفور بعدما شد بقبضته على أيدي مستقبليه.

وكان سبب زيارة الرئيس ديغول للمجلس حكما قضائيا أصدره المجلس بإلغاء مرسوم Decret أصدره الرئيس ديغول بتعيين أحد المحاربين القدماء في مجلس محلي مخالفا للائحة أصدرها هذا المجلس، فلم يغضب ديغول، بل طلب زيارة المجلس ليلقي هذه الكلمة تعبيرا عن سعادته بهذا القضاء الشامخ، الذي أرسى بهذا الحكم مبادئ الشرعية والمشروعية، وخضوع الدولة للتشريع الذي تصدره وفقا للمقولة الفرنسية الشهيرةSoufre la loi que vous faites toi mêmeˆ، وهي تعني خضوع الحاكم قبل المحكومين للقانون الذي يضعه، أو تضعه أي سلطة، ولو كان يترأسها إداريا.

وإن القانون بمعناه الواسع، ولو كان لائحة أصدرها مجلس محلي، يجب أن يخضع لها كل مسؤول فيما يصدره من قرارات، ولو كان هذا المسؤول رئيس السلطة التنفيذية كلها ورئيس الدولة، كان هذا الحفل وهذه القصة التي رويت لي في عام 1967.

مدكور أبو العز

ولكن كانت لي قصة مختلفة مع محافظ أسوان، الفريق مدكور أبو العز، الذي عين محافظا بعد تركه قيادة القوات الجوية، والذي أعيد لقيادتها بعد نكسة 1967، ليصح البطل الأسطورة الذي أقض مضاجع اليهود الرابضين على ضفة القناة في حرب الاستنزاف التي خاضها مع الرئيس الراحل جمال عبدالناصر بعد هذه النكسة.

فقد كنت مستشارا للمحافظ ومفوضا للدولة في المحافظة، عندما قدم أحد المحامين بالمحافظة تظلما من قرار أصدره المحافظ بفصله من عضوية مجلس مدينة أسوان، وانتهيت من فحص التظلم إلى قبوله شكلا وإلغاء قرار المحافظ، لأن المتظلم قد اكتسب عضويته في مجلس المدينة بطريق الانتخاب لا بقرار أصدره المحافظ.

وبعدها وفي حديث دار بيني وبين المحافظ في أحد اللقاءات برر لي رفضه للتظلم سالف الذكر، وبالرغم من قناعته برأيي الذي أسست عليه توصيتي للمحافظ بإلغاء القرار، بأنه محام يعرقل عمل مجلس المدينة ويثير المشاكل، وأنه أراد بعزله من عضوية المجلس المصلحة العامة، وأن عليه أن يلجأ إلى القضاء، وسوف تستمر القضية سنوات، ليعمل المجلس فيها بهدوء لإصلاح حال البلد.

المحكمة الدستورية

وقد أتت الرياح بما لا تشتهي السفن في إنشاء المحكمة العليا (الدستورية) في مصر بالقانون رقم 81 لسنة 1969 الذي صدر في اليوم ذاته الذي صدر فيه القانون رقم 83 لسنة 1969 بعزل 169 قاضيا، وعلى رأسهم المستشار عادل يونس رئيس محكمة النقض ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، وكنت قد وصفت هذا القانون، بقانون مذبحة القضاة، في جلسة لجنة الشؤون التشريعية بمجلس الشعب، عند حضوري اللجنة لتمثيل مجلس الدولة لدى مناقشة تعديل قانون مجلس الدولة في عام 1972، ثم أصبح هذا الوصف مقترنا بهذا القانون سيئ السمعة.

فقد كان يمكن أن يكون إنشاء المحكمة العليا في عام 1969 بالقرار بقانون رقم 81 لسنة 1969 الذي عهد إليها دون غيرها برقابة دستورية القوانين خالصا لوجه الدستور والشرعية الدستورية، وثمرة بيان الجمعية العمومية لقضاة مصر في 28 مارس سنة 1968 الذي انطلق من ناديهم، وهم يشاركون في بحث آثار نكسة 5 يونيو 1967 ليؤكد البيان مبدأ الشرعية وسيادة القانون في ظل رقابة السلطة القضائية، وعلى توطيد سلطته لتوفير ضمانة من ضمانات الشعب، أو ثمرة لبيان آخر أصدره الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في 30 مارس 1968 مؤكدا هذا المبدأ، لولا الظروف والملابسات التي أحاطت بإنشائها، حيث صدر قانون إنشائها في اليوم ذاته الذي انتهك فيه الدستور، وأهدر فيه مبدأ استقلال القضاء، واستبيحت حرماته، بالقرار بالقانون رقم 83 لسنة 1969 الذي أجرى مذبحة القضاء.

إلا أن الهدف من إنشاء هذه المحكمة كان في حقيقته الرغبة في إبعاد المحاكم عن رقابة دستورية القوانين، وإلزامها بتفسير المحكمة العليا لبعض القوانين التي تستدعي طبيعتها وأهميتها توحيد التفسير القضائي لنصوصها بسب نظرة الريبة والحذر من رجال القضاء الذين تجرؤوا على إصدار بيان 28 مارس سنة 1968.

ومثلما تناسى مجلس الدولة الفرنسي أصل نشأته، حيث نشأ امتدادا لمجلس الملك Conseil du Roi وامتيازاً للإدارة، فأصبح بحق مفخرة لقضاء المشروعية في العالم أجمع، تناست المحكمة العليا في مصر أصل نشأتها وانتصفت للشرعية الدستورية في حكم من بواكير أحكامها في عام 1971 الذي قضت فيه بعدم دستورية القانون الصادر عام 1963 الذي نص على اعتبار قرارات فصل الموظفين بغير الطريق التأديبي من أعمال السيادة، ليحجب مجلس الدولة عن ولايته في الطعن على هذه القرارات، وهو ما كشف عن بداية المراجعة الدستورية لقوانين هذه الحقبة.

ثم كان هذا السيل المنهمر من الأحكام التي أصدرتها المحكمة الدستورية في تحقيق مبدأ المساواة وحماية الحرية الشخصية وصيانة حق الملكية الخاصة، وتوفير الحماية لحق التقاضي، وحق المتهمين في محاكمة عادلة ومنصفة، مهدرة كل القوانين التي تعارض هذه المبادئ أو تصطدم بهذه الحقوق أو بغيرها مما كفله الدستور.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.