تلقفت طيورُ لاكِيْلا، ذوات الجسوم النسورِ، والرؤوس العظام بلا لحم عليها او جلد، نفير البوق الحجر، جاثمة على أعشاشها فوق قمة الهضبة الحمراء. منذ ثمانين عاماً لم ينفخ بوّاق في البوق الحجر معلّقاً إلى غصن من شجرة لا كالشجر، ابتناها النحاتون تصميماً من عظام شتى لحموها قطعاً بالسيور الجلد، ونصبوها إلى الجهة الشرقية من بوابة المَعبد الكبير، في الساحة، وسط مساكن قبيلة زِيْنَافيري المنيعة، المهيبة، في أقاليم الجن.

أدارت الطيور رؤوسها الفارغة المحاجر، لا عيون فيها، صوب مهبّ النفير لم تبعثره الريح كاقتدار الريح على التقويض. دَاخَل النفيرُ الريحَ، ذلك الصباح، على الأرض الرمل ممتدّة كسماء، علِق بزغبها الخفيِّ، فوزَّعته الريح قطرة قطرة من الصوت على الجهات، حيث حلّت وارتحلت بالنقوش النافرة للصوت كارتحالها بالنقوش المتقوّضة، الفوضى- نقوش الرمال.

سبع مرات نفخ البوَّاق في الأسطوانة النحت من حجر ذي مسامّ، ثم أعاده معلقاً إلى غصن في الهيكل المصمَّم شجرةً من عظام. نهض الصخب واقفاً على أقدامه الذهبية مُذْ تزاحمت المعابر في مدينة جنِّ زيْنافيري بالملبين النداء النذير. جموع هبّت قفزاً على سيقانها، ثم تراصّت، بعد بعثرة، في انتظام. جمهراتٌ جاورت جمهرات على نحو محسوب في علو الخطط أنجزها عقل المحاربين جيلا عن جيل، فطنةً عن فطنة، دُربةً عن دُربةٍ، واختباراً عن اختبار. سريعاً كانت فرق المحاربين على اهبة بأسلحتها العظام في أيديها، والخوذ الحجر على الرؤوس، مستقبلة بوجوهها، صفوفاً أنصاف حلقات، هيكل الإله الأكبر كُوْياسي، الذي لم يتوقف مصممو هيئته، منذ النشوء الأول لقبائل الجن، عن التبديل فيه.

Ad

كُلُّ حكيم، أو قائد، أو منجّم، أو سيّد من أسياد السلالات، له الحق في إملاء إضافة إلى الشكل استزادةً، أو إملاءِ إنقاصٍ يتولى المصممون تنفيذه بلا اعتراض. هو هيكل ضخم من مجموع عظام المخلوقات شتى، جناً، وحيوانات، وطيوراً، جرى رصّها قطعة إلى قطعة، في حساب حاذق لسقوط الظلال من بعضها على بعض، ولعبور شعاعات الشمس من خلل فراغاتها على الساحة المحيطة بالمعبد. وقد تراكم الهيكل الإله علواً، واتساعاً، على نحوٍ يُرى، من كل جهة فيه، مخلوق متداخل من هيئات محيّرة في انتسابها إلى كائن بعينه. والجموع المحاربون الذين لبوا نداء البوق النذير، قادمين قفزاً على سيقانهم- سيقان الجراد، شخصوا تحديقاً إلى الهيكل الإله يرى كلٌّ فيه، بالخيال النحات في باطنيْ عينيه الحجريتين، صورة الحقيقة التي تلهمه الولاء عنيفاً للإرث في إقليم زينافيري.

بعد برهات من إِحكام الفِرق صفوفها منتظمةً، متهيئةً، متأهبة، شقّ الغبار العاصف قميصه عن قائد المحاربين ماياكي ممتطياً جنّياً ضخماً يقود الريح خلفه بأرسان السرعة قفزاً على اربع- ساقيه ويديه معاً كدابّة. لجم الجنيّ المطيّة سرعته غوصاً بقدميه في الرمل. انتصب واقفاً فنزل ماياكي عن ظهره.

للجن السادة مطاياهم من الجنّ الضخام تمشي على أربع إن اقتضى الانتقال، أو على الساقين إن اقتضى. الجنُّ السادة، والعاديون، والجنُّ المطايا، كلهم متشابهون في نشأة أعضائهم، إلا بتمايز في ضخامة المطايا عن غيرها، لذا تُتخذ كالدواب لنقل راكبيها. ماياكي وصل بمطيته الأسرع من شعاع على هضبة طيور لاكيلا المقدّسة، حين اكتملت أهبة الفِرق المحاربين تلقاء بلا مرشد، يعرف الواحد، بخصِّيصة الخطط عن خيال المحارب فيه، أين موضعه وموقعه.

تمشّى قائد المحاربين مستعرضاً جمهراته في سلاحها وخوذها، فتمشّى الجنيّ المطيّة من خلفه كحرَسيَّ. قلَّب عينيه الحجريتين الرماديتين في محجريهما تقليبَ الرضا.

عيون الجن عيون حجر في محاجرها، رمادية، كتيمة كأعين التماثيل لا بريق فيها، أو حدقات. لا أجفان لعيونها. محدّقة ابداً من الرؤوس الصغار، المستطيلة الوجوه. ذكورهم جُرْدٌ لا ينبت شعر على جلودهم. وهم يتخذون من شعور رؤوسهم الرمادية على زرقة جدائل طويلة، حرّة على جهات الوجوه. عجاف هزيلون، ذكوراً وإناثاً، كهياكل عظام عليها جلود خشنة، رمادية، بنقوش من خطوط ونقاط بيض وصفر تولد معهم، هي -في زعمهم- تدوينٌ من أقدارهم في حياة سابقة على الحياة الراهنة. والجن، جملة، ذوو أيدٍ ضخام، مفرطة في ضخامة راحاتها وأصابعها، لا تتناسب مع جسومهم العجاف. هي أيدٍ كلما تضاءلت، وانكمشت، وتصاغرت، دلّهم أمرها على شيخوخة واحدهم. أنوفهم مطموسة، مَسحاء، مستوية مع صفحات الوجوه، لا دليل عليها إلا ثقبان في الوجه الواحد، فوق الفم ينتفخ جلد الخدّين حولهما شهيقاً وزفيراً.

أسنانهم ضخام في الأفواه. يولدون بأسنان ضخام، في سياق من الاستنسال قائم بقوانينه- قوانين نشوء الجن. كلّ زوجين يستحصلان، مطلع اختيار الواحد شريكه، كرة حجراً تتسع ملء يدين من أيديهما. في الكرة الحجر ثقب عميق حتى مركزها، توضع فيه ذبابة مختارة من مجمّع استنسال الذباب، القائم سلطة بذاته، في جناح من قصر السلطان كاشاجو- سلطان إقليم زينافيري. شعراء يتولون، خلفاً عن سلف، إدارة المجمّع حيث يُحتفظ بالذباب، على أنواع بلا حصر في قوارير من خزف مغلقة. هم الشعراء يهبون كل زوجين ذبابة، بعد درس عن سيرة سلالتيهما، وطباعيهما، ومقدار طاقتيهما على استحضار صور مغالية في غرابتها-صور رؤىً.

قبل وضع الذبابة المُختارة في ثقب الكرة الحجر، تحتفظ الأنثى بها أربعين يوماً من أيام الجن في راحة يدها اليسرى مطبقة عليها، لا تفتحها قط، بل تنفخ عليها من وقت إلى وقت. بعد الثمانين يوماً هي دورة الريح بالرمال حلقة من حول هضبة طيور لاكيلا، وإرساؤها النقوش متماوجة بإتقان على الرمال في العراء المحيط بالمعبد.

بعد الثمانين من أيام الجنّ، تنشقُّ الكرة الحجر عن وليد كخادرة الفراشة، لكن مكتمل الشكل على صِغرٍ في الهيئة، بأسنان كبيرة، وعينين حجريتين، ورجلين كرجلي الجرادة تماماً: فخذان صُلبتان من عظم عليه جلد خشن مُعرّق، وساقان قصَبتان، منشاريتان، تنتهيان برسغيْ عظمتين صغيرتين هما قَدَما الكائن الجنّ.