لم تمر احتفالات فرنسا بـ»يوم الباستيل»، أي في ذكرى الثورة الفرنسية التي رفعت شعار «حرية، مساواة، اخوة»، على خير كما بدا في وقت مبكر من مساء أمس الأول، فقد كان ليل الخميس- الجمعة يحمل في طياته هجوماً إرهابياً بربرياً، استهدف الأبرياء على الكورنيش البحري في مدينة نيس جنوب شرق البلاد الواقعة على البحر الأبيض المتوسط وتبعد 30 كيلومتراً من الحدود الإيطالية، وذلك بعد 8 أشهر من هجمات باريس التي نفذها مسلحون وانتحاريون ينتمون إلى «داعش» وأسفرت عن مقتل 130 شخصاً.

وأدى الهجوم المروع، الذي قام به تونسي يدعى محمد لحويج بوهلال ويبلغ من العمر 31 عاماً، إلى مقتل 84 شخصاً، بينهم 10 أطفال، فيما لايزال 18 جريحاً في حال «حرجة جداً»، فضلا عن 100 جريح آخرين، بينهم 50 طفلا تتراوح إصاباتهم بين المتوسطة والطفيفة.

Ad

وقام المهاجم، الذي كان معروفاً لدى الشرطة بارتكابه جرائم عادية، ولكن لم يكن مدرجاً على قوائم الإرهاب أو ملاحقاً من قبل الاستخبارات بصفته متشدداً إسلامياً، بقيادة شاحنته وحمولتها 25 طناً، بخط متعرج على طول أكثر من كيلومترين، مخترقاً الحشود التي انتهت من مشاهدة عرض الألعاب النارية في إطار احتفالات يوم «الباستيل» في شارع «برومناد ديزانغليه» (ممشى الإنكليز) المطل على البحر نحو الساعة العاشرة والنصف مساء (20:30 بتوقيت غرينتش).

وتبادل الإرهابي المهاجم، الذي استهدف المارة على الطريق والرصيف، إطلاق النار مع الشرطة، التي نجحت في تصفيته، ووجدت قنبلة غير معدة للانفجار وأسلحة مزيفة داخل الشاحنة التي لم تكن تحمل لوحة معدنية، ويبدو أنها مستأجرة.

وشقت الشاحنة المسرعة طريقها بين أسر وأصدقاء كانوا يستمعون إلى الموسيقى أو يتمشون على الشاطئ باتجاه فندق نغرسكو العتيق. وقال عضو البرلمان إريك سيوتي: «كان مشهدا مرعبا». وقال جاك الذي يدير مطعم «لو كويني» على الشاطئ: «الناس كانوا يتساقطون مثل مجسمات البولينغ».

وقال أحد المارة ويدعى فرانك سيدولي قد بدت عليه الصدمة: «شاهدت الناس وهم يسقطون... ثم توقفت الشاحنة... كنا على بعد خمسة أمتار فقط. كانت هناك امرأة فقدت ابنها. كان ابنها ينزف على الأرض».

وكان داميان ألومون الصحافي بجريدة «نيس ماتان» المحلية يشاهد عرض الألعاب النارية التقليدي على البحر، عندما دهست الشاحنة الحشود مع انتهاء العرض. وبعد أن احتمى في أحد المقاهي كتب عندما خرج عائدا إلى المتنزه: «جثث كل خمسة أمتار.. أشلاء.. دماء.. آهات»، وأضاف: «كان العاملون بالشاطئ أول من ظهروا في المشهد. جلبوا مياها للجرحى ومناشف وضعوها على من لم يكن هناك رجاء فيهم». وحين بزغ فجر أمس كانت الأرصفة مخضبة بالدماء الجافة، بينما تناثرت عربات الأطفال المهشمة والحطام على المتنزه المطل على البحر.

وقالت امرأة إنها وغيرها فروا في حالة من الرعب، وأضافت: «كانت الشاحنة تتحرك بشكل متعرج على طول الشارع. هرعنا إلى فندق واختبأنا في المراحيض نحن وكثيرون».

قال روبرت هولواي مراسل «فرانس برس»، الذي كان في المكان «اضطررت الى تغطية وجهي لتفادي الحطام المتناثر»، وروى كيف رأى الشاحنة تدهس العديد من الأشخاص، «كانت على بعد نحو مئة متر مني، كانت لدي بضع ثوان لكي ابتعد» عن طريقها. وروى شهود عدة كيف كان الناس يقفزون على جوانب الكورنيش هرباً من الشاحنة.

وقالت ماري، وهي شرطية في متحف «فيلا ماسينا» القريب حيث كانت تنظم سهرة بمناسبة عيد 14 يوليو: «رأينا المئات يدخلون مسرعين للاحتماء. كان بينهم اطفال، وكان الناس يتعثرون ويقعون ويدوسون على بعضهم».

وروى شاهد أنه ظن في بادئ الأمر أن السائق «فقد السيطرة» على الشاحنة. وقال الشاهد واسمه نادر إنه حاول مع رجل اخر «التحدث الى السائق لحمله على التوقف»، مشيرا إلى انه نجا هو نفسه من الموت، إذ توقفت الشاحنة «امامه مباشرة بعدما دهست أناسا كثيرين». واضاف انه رأى المهاجم يشهر سلاحا ويطلق النار على الشرطيين الذين قتلوه.

طوارئ واحتياطي وحداد

وأعلن الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في خطاب قبل الفجر، إنه سيستدعى أفراد الاحتياطي في الجيش والشرطة في اجراء نادر، وذلك لتسلم الأعباء من القوات التي أنهكتها حال الطوارئ التي بدأت بعد هجمات باريس. وقال إن حال الطوارئ ستمدد إلى 3 أشهر، وذلك بعد ان أعلن قبل الهجوم بساعات قليلة انه سيرفع الطوارئ بنهاية الشهر الجاري، مضيفاً أنه «لا يمكن انكار الطابع الإرهابي» للاعتداء، ومشددا على ان بلاده ستواصل انخراطها في الحرب على الإرهاب.

وفي وقت لاحق اعلن رئيس الوزراء مانويل فالس الحداد الوطني ثلاثة ايام من السبت الى الاثنين. ودعا فالس الفرنسيين الى «رص الصفوف» في مواجهة «حرب يشنها علينا الإرهاب»، متحدثاً من باحة قصر الإليزيه بعد اجتماع أزمة ترأسه هولاند.

وقال فالس إن «فرنسا لن ترضخ للتهديد الإرهابي. الزمن تغير، وسيترتب على فرنسا التعايش مع الإرهاب. علينا أن نرص الصفوف ونكون متضامنين ونتحلى ببرودة أعصاب جماعيا».

واضاف: «ارادوا ضرب وحدة الامة الفرنسية، وبالتالي فإن الرد الوحيد المناسب والمسؤول من فرنسا سيكون ذلك الذي يبقى وفيا لروح 14 يوليو، أي فرنسا موحدة ومجتمعة حول قيمها. سنقف كتلة واحدة، هذا المطلب الوحيد المجدي اليوم».

وزار هولاند وأركان إدارته أمس نيس، للتضامن مع السكان.

موجة إدانات عالمية للهجوم الوحشي

أثار هجوم «نيس» الإجرامي موجة من الإدانات في العالم بأسره، وتلقت فرنسا سيلاً من رسائل التضامن من قادة العالم.

ودان الرئيس الأميركي باراك أوباما بحزم الهجوم، مؤكداً: «أننا متضامنون مع فرنسا، أقدم حليف لنا»، مضيفاً: «في هذا الرابع عشر من يوليو، نستذكر القيم الديمقراطية، التي جعلت من فرنسا مصدر إلهام للعالم أجمع».

ونددت الدول الـ15 الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، في بيان مشترك بـ»الاعتداء الإرهابي الوحشي والجبان».

وندد عدد كبير من الدول العربية بالهجوم منها الكويت والسعودية والإمارات ومصر وتونس والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية، واكدت دعمها لفرنسا، ودعا جامع الأزهر إلى «توحيد الجهود للقضاء على الإرهاب وتخليص العالم من شروره».

وعبر الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبداللطيف الزياني عن «تضامن دول مجلس التعاون مع الجمهورية الفرنسية، إزاء هذا الحادث الإجرامي الجبان، الذي تجرد مرتكبوه من كل القيم الأخلاقية والإنسانية، ولم يتورعوا عن مهاجمة مدنيين أبرياء دون وازع من ضمير أو أخلاق».

أما إيران فقد استغلت الهجوم للقول، إن أي سياسة تقوم على «الكيل بمكيالين في مكافحة الإرهاب ستمنى بالفشل».

استنفار وإجراءات أمنية مشددة في دول أوروبية

أثار هجوم نيس الإرهابي، ردود فعل أمنية في دول اوروبية بعضها مجاور لفرنسا.

وأعلن رئيس الوزراء البلجيكي شارل ميشال ان السلطات البلجيكية «ستكيف» تدابيرها الامنية آخذة في حسبانها وسيلة تنفيذ اعتداء نيس، ولاسيما مع اقتراب موعد احتفالات العيد الوطني البلجيكي في 21 يوليو.

وتنظم عادة في هذه المناسبة حفلات شعبية وعرض عسكري في بروكسل بحضور العائلة المالكة وألعاب نارية ضخمة بوسط العاصمة التي شهدت اعتداء إرهابيا مزدوجا في 22 مارس أوقع 32 قتيلا واكثر من 300 جريح. وشددت الشرطة الاتحادية الألمانية الرقابة على الحدود مع فرنسا، خصوصا في مدينة بوتسدام حيث سرى التشديد على المعابر الحدودية في الطرق السريعة وشوارع أخرى وفي المطارات والقطارات، وذلك بالتنسيق مع السلطات الفرنسية.

بدورها، شددت السلطات الايطالية اجراءات الأمن على حدودها مع فرنسا، إذ تبعد نيس 30 كيلومترا فقط عن الحدود الايطالية.

وقال انجلينو الفانو وزير داخلية ايطاليا إن الاجراءات شملت ثلاث نقاط عبور ومحطة سكك حديدية، مؤكدا أن قوات الأمن الايطالية تعمل بكل طاقتها. ودعت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي أمس الى اجتماع طارئ للحكومة، في حين أعلن رئيس بلدية لندن صادق خان «استعراض الاجراءات الأمنية» في العاصمة.

وقالت متحدثة باسم ماي إن الشرطة البريطانية تعيد النظر في الخطط الأمنية للمناسبات العامة الكبرى على مدار الأيام السبعة القادمة.