لا شك أن الحروب تبدل الأحوال، فقبل 12 شهراً كان بوتين الطبق الرئيس على مائدة قمة مجموعة الدول العشرين في بريزبن، فتقاطر القادة الغربيون الجائعون آنذاك للحصول على جزء من الرئيس الروسي عقب تدخله المسلح في أوكرانيا وضمه القرم غير المشروع.

Ad

حذّر باراك أوباما بوتين من أنه بات معزولاً دولياً، وأعلن ديفيد كاميرون أنه لا يثق بالقائد الروسي، أما ستيفن هاربر، رئيس الوزراء الكندي آنذاك، فقال لبوتين صراحةً: "اخرج من أوكرانيا".

لكن بوتين، في رد فعله العنيف تجاه فرض العقوبات، أعلن أن القادة الغربيين أطفؤوا أدمغتهم، وأنهم يزيدون الطين بلة بالضغط على موسكو، إلا أن الانتقاد تواصل بلا هوادة، فغادر اللقاء باكراً وكله غضب.

لننتقل بسرعة إلى قمة مجموعة الدول العشرين الأخيرة في تركيا، حيث يبدو أن الأوضاع قد انقلبت رأساً على عقب، فقد ظهر بوتين مع مجموعة ودية مرحِّبة، فراح يدردش بودّ مع أوباما ومستشارة الأمن القومي الأميركية سوزان رايس. كذلك أشارت التقارير إلى أنه عقد محادثات مثمرة مع كاميرون وقادة آخرين، وهكذا ما عاد بوتين منبوذاً أو مكروهاً، بل صار الرجل الذي يود الجميع لقاءه.

لا يُعتبر سبب هذا التبدل لغزاً، ففي ظل اعتداءات "داعش" الوحشية، وتفاقم أزمة اللاجئين، والرغبة اليائسة في إنهاء الحرب في سورية، توصل القادة الأوروبيون، بدعم من أوباما، إلى خلاصة قد لا تكون مريحة، إلا أنها لا تُعتبر جديدة بالكامل من الناحية التاريخية: يحتاجون إلى روسيا.

ففي كلمة ألقاها نيكولا ساركوزي، رئيس فرنسا السابق وربما التالي، عقب اعتداءات "داعش" الإرهابية في باريس، دعا إلى ائتلاف دولي جديد وشامل لمحاربة "داعش". أعلن: "علينا تعلم درس من عواقب الوضع في سورية، ونحتاج إلى الجميع كي نقضي على "داعش"، حتى الروس، فلا يمكننا إنشاء ائتلافين في سورية". على نحو مماثل، كرر فرانسوا هولاند دعوة سلفه إلى عمل عسكري دولي موحد بالتعاون مع الروس، عندما خاطب البرلمان الفرنسي قبل أيام، وتبنى كاميرون خطاً مماثلاً، فحض بوتين على تركيز النيران الروسية على أهداف "داعش" بدل الجيش السوري الحر الذي يحظى بدعم الغرب، وأخبره بأن بريطانيا مستعدة للتوصل إلى تسوية بشأن اتفاق إطار عمل للسلام ومرحلة انتقالية في سورية.

أما البيت الأبيض، فأعلن أن أوباما وبوتين اتفقا على الحاجة إلى "عملية انتقال سياسية تقودها وتحددها سورية بنفسها، قد تسبقها مفاوضات بين المعارضة السورية والنظام ووقف لإطلاق النار تكون الأمم المتحدة الوسيط فيهما".

يؤدي كل هذا إلى فائدة دبلوماسية ثلاثية الأوجه بالنسبة إلى بوتين: أولاً، نال إقرار الغرب بأن القوات العسكرية الروسية تحظى بدور شرعي تؤديه في سورية، وكل ذلك مقابل وعود مبهمة بالتعاون مع ائتلاف تقوده الولايات المتحدة وعدم إطلاق النار على "المقاتلين الأخيار". ولا شك أن هذا يشكل انقلاباً تاماً للموقف الأميركي السابق، الذي اعتبر تدخل موسكو غير مرحب به و"محكوماً عليه بالفشل".

يمنح هذا الفهم الجديد بوتين الغطاء السياسي الذي يحتاج إليه في الوطن، بعد إقرار موسكو المتأخر أن قنبلة من صنع "داعش" أسقطت طائرة آيرباص الروسية فوق سيناء، علماً أن هذا الاعتداء قتل عدداً يفوق بنحو الضعف حصيلة الضحايا في اعتداءات باريس.

أعلن بوتين أن العمليات القتالية الروسية ستتكثف، ووفى بوعده في الحال، شاناً هجمات بصواريخ جوالة وحاملات قنابل طويلة المدى، وبات يتمتع اليوم بالحرية المطلقة، ومن المؤكد أنه سيستغلها. أعلن: "سنبحث عنهم "داعش" في كل مكان قد يختبئون فيه، وسنعثر عليهم في أي جزء من العالم وسنعاقبهم"، لكننا نشعر بالقلق من ألا يميز الرد الروسي الضخم بين المجاهدين والمدنيين.

ثانياً، أُرغم أوباما وكاميرون على القبول بأن الرئيس السوري بشار الأسد قد يبقى في منصبه، ربما خلال فترة مفاوضات السلام السورية المقترحة، التي قد تدوم ثمانية عشر شهراً وتخضع لإشراف الأمم المتحدة، كما أصر بوتين منذ البداية.

حتى وقت ليس ببعيد، كان القادة العرب والغربيون يطالبون برحيل الأسد الفوري، كذلك عرض كاميرون ضمانات علنية تؤكد أن مصالح روسيا الاستراتيجية في سورية، التي تشمل قواعدها الجوية والبحرية على البحر الأبيض المتوسط، ستُحترم بالكامل وستُحمى خلال أي تسوية، علماً أن هذا هدف مهم آخر من أهداف بوتين.

ثالثاً، يبدو أن بوتين نجح في الفوز بقبول ضمني بالوضع القائم راهناً في أوكرانيا، فقد تراجع القتال في شرق أوكرانيا كثيراً عقب اتفاقات مينسك، لكن روسيا ما زالت تحكم سيطرتها على القرم، ويبدو أن ضمها غير المشروع سيتحول، حسبما يظهر، إلى واقع مسلم به.

يذكر المسؤولون أن أوباما أثار مسألة أوكرانيا خلال محادثاته مع بوتين في لقاء مجموعة دول العشرين، لكن عودة القرم لم تكن مطروحة للنقاش، ونتيجة لذلك لا بد أن نستخلص أن مراهنة بوتين بانتهاكه الفادح للقانون الدولي أجدت نفعاً وأن كييف خسرت اليوم القرم بشكل نهائي.

من الخطأ الاعتقاد أن كل هذا يشكل إعادة تأهيل لفلاديمير بوتين، فما زالت روسيا خاضعة للعقوبات، وتواجه مشاكل اقتصادية متنامية تعود في جزء منها إلى تراجع أسعار النفط، كذلك يبقى بوتين شخصية مريبة جداً في نظر قادة الغرب، الذين يشعرون بالقلق حيال ما يخطط له تالياً، وخصوصاً في مرحلة ما بعد احتلال العراق وأفغانستان.

لكن تقييم الولايات المتحدة المتعالي عن أن بوتين خبير تكتيكي بارع، إلا أنه لا يتقن رسم الاستراتيجيات، يبدو اليوم خاطئاً على نحو ميئوس منه، فبدل أن يُضعفه تدخله في سورية، أعاد روسيا إلى موقعها على رأس الطاولة، فما عاد بوتين الوجبة الرئيسة، بل صار الطاهي الأكثر براعة في عالم الدبلوماسية.

سيمون تيزدال