يقول الناقد الفني كمال رمزي إن ثمة أفلاماً كثيرة استعرضت المدينة و{أرى أنها ارتبطت بتيار {الواقعية} في السينما المصرية حتى لو لم يعرف قديماً بهذا الاسم، فرغم مشكلات مجتمعات أخرى كالريف أو الطبقات المهمشة، يبقى التناول السينمائي لحياة المدينة محملاً بمجموعة قضايا ومشكلات تحتاج إلى حل، وأعتقد  أن فيلم {العزيمة} في ثلاثينيات القرن الماضي أولى محاولات طرح البيئة المدنية عبر رؤية سينمائية عبَّرت بحق عمَّا يواجه العلاقات الإنسانية من تحديات داخل هذا المجتمع المفتوح.

Ad

ويؤكد رمزي أن ثمة تطوراً واضحاً أصاب شكل {المدينة} في  السينما المصرية: {من حيث السمات والملامح، نرصد توحش الزحف العشوائي إلى المدن، والمباني الخرسانية التي غيَّرت كثيراً من بيئات تناولتها أفلام سابقة على أنها {المدينة}، كما في {الثلاثية} و{قنديل أم هاشم}، علاوة على انتشار الجهل والأمية في الحضر أيضاً، في الوقت الذي رمزت فيه المدينة إلى {الثقافة والوعي} لاحتوائها على مراكز الفنون والمسارح والمعاهد الفنية والموسيقية والجامعات، والتي لم تكن تتوافر في مصر سوى في قلب المدن}.

فروقات

ويتابع رمزي: {على مستوى  المحتوى الفني، ظلَّت المدينة تتطور من كونها حلماً يرواد الفلاح المصري حيث أحلام الثروة والحياة الحديثة، مروراً بالهجرة إليها والتأثير فيها عبر نقل أخلاقيات المجتمع الزراعي إليها، وصولاً إلى موضوعات تناقش {ضعف العلاقات الاجتماعية} و{التفكك الأسري والإدمان}، وهي الأنماط التي لازمت تجسيد المدينة سينمائياً.

أما على مستوى الفروقات في التقنيات وأساليب صناعة الأعمال التي تتحدَّث عن المدينة، فكان الكثير من المخرجين بداية من محمد كريم مروراً بصلاح أبو سيف وهنري بركات وكمال الشيخ وتوفيق صالح ويوسف شاهين وحتى بشير الديك، حريصين على مواكبة الطابع السريع للمدينة عبر  حبكات  تجنَّبت البطء والإسهاب والتطويل، وعرضت الأحداث بإيقاع سريع}.

أبعاد المكان

المخرج إبراهيم البطوط يرى أن كثيراً من المخرجين وصانعي الأفلام  سردوا علاقتهم بالمدن، وركزوا على أبعاد {المكان} وكل ما يحيط به من ظروف وقضايا وأشخاص، وتعرَّضت هذه الفكرة للتبدل والتحول لأسباب عدة تأتي في مقدمها {التطورات المجتمعية}، وأحد أهم وظائف الفن هي التعبير عن الواقع.

ويتابع أن {السينما المصرية عرضت حياة المدن بأشكال شتى بداية من كونها {جزءاً منفصلاً} تماماً عن حياة معظم الناس عندما كانت تعرف بـ{البندر} وتظهر كمجرد شيء مختلف عن القرى والنجوع، مروراً بفترة تجسيدها {قبلة للمغتربين}، وتضم الكثير من الوافدين الراغبين في التعايش بما يواجهونه من مصاعب أو مفاسد أحياناً، وصولاً إلى الصورة الناضجة عن المدينة بشكلها الحالي من دون أية مبالغات أو صور خيالية.

ويوضح أن الأعمال الفنية كافة التي تناولت شكل المدينة والمواطنين فيها طرحت أسئلة أكثر مما قدمت إجابات، فلطالما كانت المدينة مادة فنية مثيرة للجدل أو محلاً للمقارنة مع الريف أو انعكاساً لعقليات مختلفة في مجتمع أرحب، ومهما واجهت من أعراض تطور عبر الزمن ووسط الظروف المجتمعية والتاريخية المتباينة، فإن ثمة {نقاطاً مشتركة} بين الكثير من هذه الأعمال: ظهورها كمنبر للتعليم، ووجود المدارس والجامعات فيها، كونها مجتمعاً معقداً وقضاياه ليست سلسة كالقرية، الازدحام السكاني، والصراعات التي لا تهدأ.

ويذكر هنا أمثلة عدة من بينها أفلام متباينة في طرحها  تعكس  ما تعرضت له المدينة من تغيرات: {العزيمة، أفواه وأرانب، قاع المدينة، عودة مواطن}. وحديثاً {في شقة مصر الجديدة}.

 ثراء سينمائي

تشير الناقدة الفنية خيرية البشلاوي إلى أن البيئة الحديثة في المدينة شكَّلت مصدر ثراء سينمائي لما فيها من تعدد وتنوع، فهي ليست نمطاً أو شخصية أو مهنة أو فترة، وإنما تضمّ كل ما سبق، وعبَّرت في مراحلها كافة عن الكيان المصري. كذلك مرَّت بكثير من مراحل التجول، ولكنها ظلَّت تشترك في ظهورها كمجتمع حديث صناعي أو سياحي، يمتاز دوماً بالسرعة وتنوع الخصائص النفسية والاجتماعية لأفرادها، علاوة على تباين مستوياتهم الاقتصادية.

و{أشير هنا إلى زاوية الثنائيات السينمائية، فكانت دوماً المدينة المقابل للريف، ففي الأخير حرص الناس بشكل مقدس على {قيمة الأرض}، وارتبطوا بها ولم يملكوا التفريط فيها. أما في المدينة فكان التخلص من الثوابت المجتمعية، ولم تعد الأرض ذات القمية، وظهر الانفجار السكاني، والسعي وراء العائد التجاري أو الصناعي، وهي كلها أشكال عالجتها أعمال حضرت فيها المدينة بقوة بكل ما فيها من قسوة وتوحش.

وتشير البشلاوي إلى أن الفروقات بين الأعمال حول {المدينة}، يعبِّر عنها تقسيم فني بين أعمال {جادة} وأخرى {سطحية للغاية}، فالمعالجات التي عبرت عن المدينة قديماً تختلف تماماً عن الحالية. وذلك بدايةً من فيلم {العزيمة} الذي يعتبر وثيقة سينمائية عالجت مشاكل الشباب في الواقع المصري الحديث في المدينة، وتعرَّضت لأحلام الكفاح والطموح، مروراً بفيلم {خرج ولم يعد}، وهو عمل متماسك استطاع أن يلقي الضوء على ما اعتبره {مستودع الضجيج} و{مصدر قتل الأحلام} في المدينة، حينما تحوَّل الإنسان إلى رقم في طابور، وصولاً إلى الزمن الذي نعيشه الذي قلما تجد فيه عملاً حقيقياً يعبر عن المدينة من دون الحشو المتكرر من مشاهد العنف والسرقات والخلل المجتمعي، والتركيز على ذلك فقط في إخلال واضح بباقي مكونات المدينة وتفاعلاتها.