تقول الكاتبة صوفيا لين بول لصديقتها الإنكليزية، في الرسالة السابعة، إنها عندما قدمت أول مرة إلى القاهرة، ظلت فكرتها عنها مشوشة فترة طويلة، وأن القاهرة بالنسبة لها كانت تبدو لها محض «سرداب من المنازل الخربة»، مدينة ذات هندسة غاية في الغرابة، مظهرها العام عتيق وموغل في القدم، تقول إنها دهشت حينما قيل لي إن القاهرة وقتها 1842 كانت تبدو أقل كآبة منذ بضع سنوات قليلة فقط. 

Ad

لا تريد الكاتبة أن تسخر من مدينة القاهرة، بل على العكس، تحاول أن تتحدث عن عظمة الدور الذي لعبته القاهرة في التاريخ، بغض النظر عن مدى تدهور حالتها الآن، تقول: «تفخر القاهرة باسم «أم الدنيا» وغيره من الألقاب الطنانة، وفي الواقع وعلى الرغم من تدهور حالها كثيراً منذ اكتشاف طريق «رأس الرجاء الصالح» إلى الهند، وخصوصاً في السنوات الماضية، فإنها لاتزال من أهم مدن الشرق، وهي إجمالاً مدينة عربية الطابع، توجد داخل أسوارها أجمل النماذج للعمارة العربية، المنازل الخاصة عادة، متوسطة الاتساع، الجزء الأسفل منها من الحجر، يعلوه بناء من الطوب، وبعضها لا تعدو أن تكون أكواخاً». 

تستكمل الكاتبة أوصاف القاهرة لصديقتها في هذه الرسالة، تقول إن الطرقات غير مرصوفة وضيقة جداً، يبلغ اتساعها غالباً ما بين خمسة وعشرة أقدام وأحياناً يكون عرضها أقل من أربعة أقدام، إلا أن هناك بعض الطرقات، عرضها أربعون أو خمسون قدماً ولكن لمسافات فقط، تقول:

«دعيني أصف لك الآن الطرقات بأسمائها المختلفة، هناك الشارع، أو الطريق العام، وهو عادة غير محدد، سواء من حيث اتجاهه أو عرضه، في أغلب أجزائه نجد أن عرضه لا يتسع بما يكفي لمرور جملين محملين جنباً إلى جنب، وهذا يسبب متاعب كثيرة للمارة بالرغم من ندرة مرور العربات، وإذا ثقلت الأحمال على الحمير، توضع فوق ظهور الجمال، وكلاهما يستخدم لإمداد سكان القاهرة بماء النيل الذي ينقل في قرب، الجمل يحمل قربتين والحمار يحمل قربة واحدة من جلد الماعز تربط حول الرقبة، كثيراً ما تعطل هذه الحيوانات الحركة في الشوارع الرئيسية التي غالباً ما تكتظ بالمارة المترجلين والراكبين. المنظر العام يتسم بالفوضى وشدة الزحام خصوصاً حينما تتقابل مجموعتان من الجمال في مكان لا يسمح إلا بمرور واحد، وهذه ظاهرة كثيراً ما تتكرر، وغالباً ما تستخدم الحمير في الانتقال من مكان الى آخر، إذ إنها تناسب طرقات القاهرة كما أنه من السهل استئجارها في أي وقت».

ترسم الكاتبة لوحة زيتية واضحة المعالم للشوارع والبيوت والميادين، لشكل الناس في الشوارع الذي لم تكن هناك كاميرات لتصورها، ولا تعكس رسومات الأجانب في مصر خلال القرن التاسع عشر كل جوانب الحياة الاجتماعية في مصر، مثلما تحاول الكاتبة البريطانية أن تفعله في كتابها «حريم محمد علي».

من بين ما تميز في وصفه أوضاع المصريين في الشوارع، بعضهم يركبون الحمير، لأن خطوتها أسرع وأسلس والجلوس عليها مريح خصوصاً «فوق بردعة عريضة زاهية الألوان»، تقول الكاتبة لافتة النظر إلى واحد من بقايا أزمنة العبودية القديمة: «من المعتاد أن يعدو خادم إلى جانب الحمار وأن يكد الخادم نفسه بالصياح المستمر ليفسح الطريق أمام سيده، وعلى الرغم من الخادم أو الخادمين اللذين يبذلان أقصى جهدهما لإفساح الطريق أمامه فكثيراً ما يضطر إلى الرجوع من حيث أتى، ولهذا من النادر أن يرى موكب من الخيالة في شوارع القاهرة الرئيسية، كما أن هناك بعض الطرقات الضيقة لا يستطيع شخص يمتطي جواداً أن يمر فيها إطلاقاً، ومن المعتاد أن يتبادل أشخاص من الطبقتين العليا والوسطى التحية في الطريق دون سابق معرفة وكثيراً ما كان أخي يتلقى التحية الإسلامية، أذكر هذا فقط لأبيّن خطأ الرأي الذي يدّعي أن أبناء الشرق يمكنهم بنظرة واحدة الكشف عن الأوروبي المتخفي في إزار شرقي». 

 

طاقية وطربوش

 

اهتمت الكاتبة البريطانية بملابس المصريين في الشوارع من كل الطبقات ومن الجنسين والأطفال أيضاً، وكانت معنية أن ترى مصر بعيون أنثوية، بدت وكأنها عين ثالثة على المجتمع المصري من مئتي عام، حيث الحياة لاتزال في الطور الأول من النهضة التي تركها حكم محمد علي على المصريين، وقد جاء حكم أسرته ـ من بعده ـ بكثير من التطوير والتحديث، في حقيقة الأمر، ما يجعل الصورة التي رسمتها الكاتبة عن مصر والمصريين تستبق إنجازات أبناء محمد علي في تحديث مصر، فقد دخل قطار السكة الحديد مصر وتأسست «محطة مصر» نحو 1850، أي بعد تأسيسه في لندن بعشرة أعوام، كما افتتحت قناة السويس بعد زيارة الكاتبة بربع قرن تقريباً.

تقول الكاتبة واصفة حال المصريين من ملابسهم: «الذي لا شك فيه أن الشخص الأجنبي بأفكاره وتخيلاته عن أبهة الشرق وفخامته، سوف يفاجأ بمنظر كثير من الناس وملابسهم الرثة في شوارع القاهرة، اللون الأزرق هو الغالب على ملابسهم، إذ إن الجلباب الواسع المصنوع من القطن أو التيل الذي يرتديه الرجال والنساء من الطبقة الدنيا يصبغ بالنيلة، وهي من إنتاج البلد، وكثيراً ما يرتدي الرجال وخصوصاً الخدم، صدرية من الحرير أو الجوخ تحت الجلباب الأزرق، وقد يبلغ الفقر ببعضهم فلا يمتلكون حتى عمامة مُهلهلة، ولباس رأسهم الوحيد، طاقية ضيقة من جوخ أبيض أو بني أو طربوش عتيق وكثيرون منهم حُفاة القدمين».

تحاول أن تفرق بين ملابس المصريين حين تشير إلى أن ملابس المسيحيين واليهود، تتميز بعمامة سوداء اللون أو زرقاء أو سمراء، أما ملابس النساء من الطبقة الراقية فتبدو غريبة جداً بالنسبة للأجانب من الأوروبيين، وهي تفرد لها لحسن الحظ مساحة وصف كبيرة:

«عند الخروج يختفي الفستان الفاخر الذي يلبس في البيت تحت خمار فضفاض من الحرير يدعى «الثوب» وغطاء حريري واسع أسود اللون يسمى «الحَبرة» يكاد يلتف حول الجسد كله، ويستعاض عنه في حالة غير المتزوجات بغطاء حريري أبيض، أما البرقع، فمن القماش الرقيق الأبيض وهو ضيق العرض، ويصل من العينين إلى قرب القدمين، ومن الصعب على النساء، وهن مكبلات بهذه الطريقة أن يتحركن بسهولة، ولهذا قلما نراهن في الطرقات المزدحمة مترجّلات، حيث تؤجر لاستخدامهن حمير مدربة مزودة ببرادع عالية وعريضة مغطاة بسجاد تجلس فوقه السيدة، ورجلاها تتدليان على جانبي الحمار، ويرعاها خادمان على الناحيتين، وكثيراً ما يرى موكب طويل من الممتطيات من السيدات والجواري على هذا النحو، أي حريم بأكمله، بالزي نفسه، الواحدة وراء الأخرى، وكل المارة يفسحون لهنَّ الطريق باحترام زائد، وترتدي نساء الطبقة الدنيا برقعا أسود اللون – أراه أكثر جمالاً من الأبيض – مزيناً في بعض الأحيان بعملات ذهبية وخرز، أو يجذبن طرف خمار الرأس على الوجه بحيث لا تظهر سوى عين واحدة». 

وبينما تتجول الكاتبة في شوارع القاهرة تلحظ بعين مدربة أن عدداً كبيراً من الأشخاص العميان يمشون في الشوارع، وعدداً أكبر ممن يضعون ضمادة فوق عين واحدة، لافتة إلى أنها قلما رأت امرأة بعلَّة في عينيها، كما تلحظ أن المحال التجارية، لا تعدو أن تكون محالاً صغيرة، تشغل عادة الجزء الأمامي من الطابق الأرضي لكل بيت يطل على شارع رئيسي، ومخزون البضاعة في أغلبها ضئيل جداً، والمنازل، باستثناء قليل منها، تتكون من طابقين أو ثلاثة، كما تلحظ أن النوافذ ذات المشربيات الخشبية تمتد إلى الخارج، مما يجعل الطرقات مظلمة، ولكنها في الوقت نفسه ظليلة ورطبة، وعلى جانبي الشوارع الرئيسية شوارع وأحياء جانبية. 

تقول واصفة شوارع القاهرة، بعدما أعادت الحملة الفرنسية «1798 ـ 1801» تنظيمها بنحو أربعين عاماً: 

«يختلف الدرب أو الطريق الجانبي عن الشارع، في كونه أضيق وأقصر، وغالباً ما يتراوح عرضه ما بين 6 و8 أقدام، وهو طريق عام له بوابتان عند طرفيه بهما بابان كبيران من الخشب، يغلقان دائماً بالليل، وبعض الدروب ليس بها سوى مساكن خاصة، وبعضها بها متاجر، والحارة أو الحي، منطقة محددة تتكون من طريق أو زقاق واحد أو أكثر وفي العادة لا يحتوي الحي الصغير إلا على مساكن خاصة، وله مدخل واحد بباب خشبي، يغلق ليلاً مثل باب الدرب». 

 

«خان الخليلي»

 

تحكي الكاتبة عن كل شيء يتعلق بالنساء واهتماماتهن، عن الأسواق التي تشبه مجموعة من طرقات قصيرة، أو شارع يضم على جانبيه دكاكين، غالباً تضم محلات لتجارة واحدة، وتشير إلى أن كثيراً من الأسواق مغطاة بحصر ممتدة على دعامات خشبية، وبعضها ذات أسقف خشبية، وأغلب الشوارع العامة الرئيسية وكثير من الطرقات الجانبية، تحوي كلها أو جزء كبير منها، سلسلة من الأسواق. 

تقول : «كثير من خانات القاهرة تشبه الأسواق التي ذكرتها إلا أنها عادة مجموعة من المتاجر والمخازن، تحيط بحوض مربع أو مستطيل، ويجدر بي أن أذكر «خان الخليلي» لأنه واحد من أهم أسواق القاهرة، ويقع في وسط المنطقة التي تكوّن المدينة الأصلية، شرقي الشارع الرئيسي بقليل، وهو يشغل موقع مقابر «الفاطميين»، وسوق «خان الخليلي» يتكون من مجموعة أزقة قصيرة ذات منعطفات عديدة وله أربعة منافذ من أحياء مختلفة، ويشغل الأتراك معظم دكاكين هذا الحي، ويتاجرون في الملابس الجاهزة وقطع الثياب الأخرى وأيضاً في كل أنواع الأسلحة وسجادات الصلاة الصغيرة، التي يستخدمها المسلمون علاوة على المستلزمات الأخرى، ويقام هناك (كما في أسواق أخرى عديدة بالقاهرة ) بيع بالمزاد العلني مرتين كل أسبوع، أيام (الاثنين) و(الخميس)، وحين يشتد الزحام بالخان يتعذر على المارة أن يشقوا طريقهم في بعض أجزائه، تبدأ المزايدة في الصباح الباكر وتبقى حتى صلاة الظهر، ويجوب السماسرة في السوق ذهاباً وإياباً يعرضون للبيع شتى البضائع من ملابس «قديمة وجديدة» وشيلان وأسلحة وتراجيل وغيرها، ويكثر في هذه المناسبات سقاة الماء يلبون طلبات الظمأى من قِرب يحملونها على ظهورهم ويسكبون الماء منها في أكواب من نحاس، كما يباع العناب والخبز المستدير المفلطح ومأكولات أخرى في كل أرجاء السوق، ويؤم الخان أيام المزاد كثير من المعتوهين الحقيقيين أو الذين يتظاهرون بالعته، وشحاذون بأعداد كبيرة تبعث رؤيتهم على الأسى».

حريم الباشا 

اقتربت الكاتبة من الهدف المنشود، واستطاعت بعد طول بحث ودراسة وتأن، أن تصل إلى «حريم الباشا»، وكانت أول صدمة تتلقاها، أنها علمت أن للباشا أربع زوجات، وتسخر من نفسها الكاتبة، لأنها كانت تظن أن لمحمد علي باشا زوجتين فقط، لكنها اكتشفت ـ خلال مقابلة مع إحدى زوجاته الأخريات «والدة حليم بك» في القلعة ـ أنه لاتزال هناك أخرى، ليكتمل العدد الى أربع زوجات، «كما هو مصرح به في الإسلام»، تقول الكاتبة الإنكليزية. 

تعترف أن الذهاب إلى القلعة ليس أمراً مريحاً، لكنها تعتبر نفسها منتصرة لأنها استطاعت أن تقتحم حريم الباشا وأن تتعرف إليهن عن قرب لتكون أول إنكليزية تحظى بهذا الشرف من غير أبناء الملوك، وتصف المشهد الذي وصلت فيه إلى القلعة، تقول واصفة حيرتها في الدخول إلى القلعة:

«الباشا أوصى بإصلاح الشارع الآتي من ناحية «باب الوزير»، ونتيجة لذلك تعترض الطريق أكوام من الحجارة والأنقاض، لقد فضلت هذا الطريق لأنه غير مرصوف والتجربة علمتني أن أخشى مدخل البوابة الكبيرة المرصوف الزلق، خصوصاً وأنا ممتطية ظهر «الحمار العالي»، ومع اني كنت أخشى أن أتعثر في ركوبي على الأنقاض إلا أنه لم يفتني أن ألاحظ ضخامة حجم بعض الأحجار التي وقعت من حائط قديم وتشبه إلى حد كبير الحجارة المبعثرة حول الأهرامات وذلك يجعلني لا أشك في أنها من بعض ما نقله قراقوش عند بنائه القلعة. 

القصر المخصص في القلعة لحريم الباشا منيف وفخم، وهو أجمل بناء سكني خاص رأيته في مصر، نظامه الداخلي على النمط التركي المعتاد، بالطابق الأرضي قاعة استقبال واسعة مرصوفة بالرخام الأبيض المائل إلى الزرقة، كما تحيط بها أجنحة من غرف تنفتح فيها، وحجرات الطابق الأول على النمط نفسه، مررت بمصاحبة صديقتي مسز ليدر من المدخل الرئيسي إلى فناء مربع واسع، اجتزناه ووجدنا نفسينا في قاعة الاستقبال السفلى، صعدنا درجات سلم رخامي ضخم إلى قاعة الاستقبال العليا بالطابق الأول، وهنا تفجر أمام ناظرينا مشهد غاية في الروعة: هناك ثلاث نوافذ مواجهة لرأس السلم تشرف على القاهرة وعلى السهل من ورائها، كان في متناول بصرنا وتحت نظرنا المبهور، كافة المناطق المهمة في شمال وغرب القاهرة باختلافاتها الطريفة، منتهية من جهة الشمال ببساط الدلتا الأخضر وسهل الجيزة، كنت أتمنى أن أتلكأ بعض الوقت، ولكن الوصيفات المرافقات لنا، كن على عجل لاصطحابنا إلى حضرة السيد الأولى». 

تقول إنهم وجدوها جالسة في غرفة يكسوها السجاد ومحاطة بديوان، وفي معيتها ثلاث سيدات قابلتها ومن معها بكل احترام وترحاب، أدهشها تلطفها أنها عوملت بلطف، خصوصاً لأنها تعلم ما لهذه السيدة من سمعة في الكبر والغطرسة، صُدمت حينما تحدثت معها بكل بساطة عن الأولاد، كما أي امرأة عادية، وصدمت أكثر حين سألتها بكل جدية إن كان أحد أبنائي، البالغ من العمر ثلاثة عشر عاماً، متزوجاً»!!»، تقول إنها تصورت أنها تعني «خاطباً»، شرحت لها بأدب قائلة: «الصبي في إنكلترا لابد أن يصبح رجلاً قبل التفكير في الزواج أو في الخطبة».

تنتقل الكاتبة إلى درجة جمال الحريم في قصر الباشا فتصفه بأنه جمال محدود، وتقول: «لا يمكنني أن أقول سوى أن واحدة فقط كانت ملفتة جداً، وكذلك المصاغ الذي رأيته هناك لم يكن مما يستحق الذكر الخاص باستثناء عقود اللؤلؤ التي كانت ترتديها السيدة الأولى وسيدتان أخريان، إذ كانت تتكون من أكبر اللآلئ التي رأيتها في حياتي وتحيط بالعنق بإحكام، عند مغادرة هذا الحريم، اقتادتني الوصيفات بنوع من المراسم التي لم يسبق أن وصفتها، وهي أن يمسكن بالحبرة من طرفيها من خلفي وأنا أعبر قاعتي الاستقبال، إلى أن وصلت إلى ساتر الحريم، كانت هؤلاء الوصيفات يقلدن سيداتهن ويتبارين في إظهار الاهتمام اللائق بنا، كما أن جميع من في حريم القلعة تبدو على وجوههن السعادة التامة».