لكن كما يظهر مراسل نيويورك تايمز الحائز جائزة بولتزر تيم واينر بصراحة في كتابه One Man Against the World:The Tragedy of Richard Nixon (رجل واحد ضد العالم: مأساة ريتشارد نيكسون)، كان هذا الرئيس الراحل حالة شاذة، وكادت أعماله تدمر البلد. لا يقوم إرثه الأبرز على الانفتاح على الصين الشيوعية، بل نمط سوء استعماله السلطة الرئاسية وما زالت الولايات المتحدة تحاول التعافي منه.يفتقر معظم الكتب التي أعدت عن نيكسون إلى نظرة واضحة عن عهده. ولكن بما أن نيكسون تنصت على مكاتبه ومكاتب الآخرين (بطريقة غير مشروعة)، وبما أن مساعديه دوّنوا ملاحظات شاملة عن المحادثات التي كانت تدور، نملك فيضاً من المستندات عما حدث خلال عهد إدارته. نتيجة لذلك، من السهل أن نضيع في تفصيل رئاسة نيكسون. تجاهل وينر هذه التفاصيل المتضاربة، مركزاً على الخيوط التي تروي حقاً قصة نيكسون. وتشمل هذه بعض المواد التي لم تُرفع عنها السرية إلا السنة الماضية.تفادى وينر أيضاً شرك التركيز على خلفية الرئيس، صاباً كل اهتمامه على كيفية تجلي شخصيته (طموح، قسوة، غريزة سياسية، وغرابة) خلال سنواته الباكرة.مناورات نيكسونينطلق هذا الكتاب من مرحلة ما قبل الانتخابات الرئاسية عام 1968. يعلن الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون الذي فقدت إدارته شعبيتها بسبب مستنقع حرب فيتنام، أنه لن يترشح مجدداً لسدة الرئاسة.كان نائب الرئيس هوبرت هامفري المرشح الديمقراطي الأبرز، إلا أن ولاءه لجونسون والكراهية التي حمّله إياها اليسار المناهض للحرب كبلاه. أدرك نيكسون الجمهوري أن خطوات نحو إحلال السلام في فيتنام ستبدد فرصه بالفوز.نتيجة لذلك، اقترف نيكسون ما يمكن اعتباره عمل خيانة: فيما سعى جونسون لحمل الأطراف في فيتنام على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، اتصل نيكسون سراً برئيس جنوب فيتنام الفاسد الذي بدا أشبه بلعبة يمكن التحكم بها بسهولة، وجعل حكومة جنوب فيتنام تعارض أي مفاوضات سلام خلال عهد جونسون.ظنت هذه الحكومة أنها ستحظى بصفقة أفضل مع تولي نيكسون، الذي يعارض الشيوعية بشراسة، زمام السلطة. لكن جونسون اكتشف مناورات نيكسون من خلال برقيات واتصالات هاتفية تم اعتراضها من الفيتناميين الجنوبيين، إلا أنه امتنع عن نشر هذه المعلومات، بما أنها أتت من التجسس على حلفاء الولايات المتحدة.خسر هامفري الانتخابات، وتعلم الجمهوريون الدروس من سلوك نيكسون: أولاً، حصل نيكسون بمناورته هذه على هامش فوز، وثانياً، نجا بفعلته. ولا شك في أن نيكسون لم ينسَ هذه الدروس، وفق وينر.ما إن تسلم نيكسون سدة الرئاسة حتى صمم على الفوز في حرب فيتنام، أو على الأقل النجاح في إخراج الولايات المتحدة من هذه الحرب {بسلام وشرف}. ولتحقيق هذه الغاية، أمر بعملية قصف غير مسبوقة لدولتي لاوس وكامبوديا المحايدتين، حيث يملك الفيتناميون الشماليون قواعد. فجاءت عملية القصف هذه في نطاق لم نرَ له مثيلا خلال الحرب العالمية الثانية، ولا حتى خلال قصف اليابان الذري.لم يطلع نيكسون وزراءه على ما يحدث، ولم يستشر إلا ثلاثة من مساعديه الذين يثق بهم. حتى هؤلاء الثلاثة ما كانوا مطلعين على كامل أسراره. صحيح أنه أنكر، إلا أنه باع مناصب السفراء إلى المساهمين الأكبر في حملته الإنتخابية. ولعل السفير اليوناني أحد أبرز الأمثلة على ذلك.سوء استغلالمع اقتراب انتخابات عام 1972، أمر نيكسون بتنفيذ قصف سري مكثف للمراكز السكنية في شمال فيتنام بغية كسر هذا البلد. لتهدئة المشاعر المناهضة للحرب في الولايات المتحدة، حاول نيكسون إضفاء طابع فيتنامي على الحرب، جاعلاً الفيتناميين الجنوبيين يُقاتلون بدل الجنود الأميركيين. ولكن عندما أعربت جنوب فيتنام عن عدم رغبتها في القتال، كذب نيكسون على الأميركيين الذين كانوا يشاهدونه عبر التلفزيون حين أخبرهم أن هذه العملية نجحت.يظهر وينر بطرق عدة كيف بدّى نيكسون حظوظه السياسية على مصالح الأمة. على سبيل المثال، قرر تقديم الدعم الأميركي لباكستان خلال حرب هذا البلد ضد الهند، لأن حاكم باكستان الفاسد والعنيف ساعد نيكسون في ترتيب زيارته إلى الصين الشيوعية، ولأن نيكسون كره شخصياً الهنود.بالإضافة إلى ذلك، أساء نيكسون استغلال مكتب التحقيقات الفدرالي، وكالة الاستخبارات المركزية، ودائرة الإيرادات الداخلية بغية سحق خصومه وقمع أي تحركات ضده. ولعل أسوأ مثل على انتهاكات نيكسون شعوره تجاه ما دُعي الأغلبية الصامتة، أي الشعب الذي صوت له ليصل إلى سدة الرئاسة والذي دعمه خلال عهده الرئاسي: {الشعب الأميركي غبي، المواطنون الأميركيون في منتصف العمر أغبياء}.يزخر One Man Against the World بالجواهر. لكن جزأه الأفضل على الأرجح هو تحديد تأثيرات نيكسون الملتوية في هذا البلد. فيمكننا أن نحمله مسؤولية مشاعر اللامبالاة والسخرية الرائجة، غياب الاحترام لمنصب الرئيس، وعدم الثقة بالحكومة. لكن يجب ألا ننسى أيضاً الرؤساء الذي أتوا بعد نيكسون. فيبدو أن الدرس الذي تعلموه من فضيحة واترغيت لم يكن ما يجب تفاديه، بل ما يمكنهم اقترافه من دون مواجهة أي عقاب.
توابل - ثقافات
هفوات نيكسون... إرثه الملطخ ما زال يخيّم على الأمة
26-07-2015