جرت في نهر السياسة المصرية الكثير من المياه منذ تلك اللحظة التي وقع فيها الصدام بين جمال عبد الناصر وجماعة «الإخوان المسلمين» سنة 1954، وهي المواجهة التي خرجت منها الأخيرة منهكة مهيضة الجناح، بعدما نجح عبد الناصر في توجيه ضربة قاصمة للتنظيم إثر فشل محاولة اغتياله من أعضاء الجماعة، فانطلاقا من عام 1955 ثبت عبدالناصر أقدامه مع تبلور مشروعه حول القومية العربية وسياسات عدم الانحياز والحياد الإيجابي، ودعم حركات التحرر العربية والإفريقية، وتبنيه لمشروعات بنية تحتية، والبدء في عملية تصنيع ضخمة، ما أكسبه شعبية طاغية بين المصريين والعرب، وجعله أحد أهم قادة العالم الثالث مع نهاية الخمسينيات.

Ad

وبينما أصبح عبدالناصر مطمئنا لسيطرته على أمور السلطة مستندا لدعم شعبي هائل، كانت جماعة «الإخوان» تعاني التشرذم والانسحاق أمام الآلة الأمنية لنظام عبدالناصر من ناحية، ولعدم وجود قبول شعبي كاف لتحقيق أهداف الجماعة في الانقضاض على الحكم من ناحية أخرى، لذلك كان طبيعيا أن يفرج عبد الناصر عن قيادات الجماعة وكوادرها تباعا بعد سنة 1956، فالرجل ظن أنه لم يعد مهددا من أي قوة سياسية في مصر نظرا للتأييد الشعبي الجارف، لكنه كان مخطئا، فبينما خرج المرشد العام للجماعة حسن الهضيبي، خرج سيد قطب من السجن بعفو صحي هو الآخر سنة 1964، ولم يكن في همه بعد أن وضع بذرة مشروعه التكفيري إلا الانتقام لجماعة «الإخوان» والمشروع الإسلامي بصفة عامة، ليبدأ معه فصل جديد من فصول المواجهة مع نظام عبدالناصر.

ويرصد المؤرخ المصري عبدالعظيم رمضان في كتابه «الإخوان المسلمون والتنظيم السري»، حالة الإخوان بعد الخروج من السجون قائلا: «خرج الإخوان المسلمون من كهوف السجون عاجزين تماما عن استيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية التي حدثت أثناء محنتهم، أو فهم التحول الذي طرأ على القوى الوطنية والديمقراطية من موقف المعارضة والمقاومة للثورة في أزمة فبراير-مارس 1954، إلى موقف التأييد والمساندة في عام 1964، وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا إدراك مغزى التغيير الاجتماعي الكبير الذي وقع أثناء وجودهم في السجون متمثلا في تحرير جماهير غفيرة من الفلاحين والعمال بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم، وإنما خرجوا تملأهم فكرة واحدة هي الانتقام لما جرى للجماعة سنة 1954».

لكن جماعة «الإخوان» كانت مفككة الأوصال بعد سنوات السجن الطويلة التي لم تخل من شتى صنوف التعذيب، كانت في حاجة إلى قائد يتولى زمام المبادرة ويعيد ترتيب الصفوف، يعمل على إعادة التأصيل لأفكار الجماعة ويعطيها المشروعية الفكرية لإعطاء نوع من أنواع التماسك النفسي للإخوان من الداخل، كانت الرغبة ملحة في إعطاء تفسيرات معقولة للمحنة التي تعرضت لها الجماعة، كانوا يظنون أنهم على الحق وداعبهم الأمل في الوصول إلى سدة الحكم مرات، فلماذا فشلوا ولماذا انقلب السحر على الساحر فقتل البنا بسلاح الإرهاب الذي خلقه، ثم دخل الإخوان أفواجا إلى السجون.

وسط تيه الإخوان ظهر سيد قطب، وتقدم الصفوف ليتولى قيادة الدفة، أعطى الجماعة التأصيل الفكري القائم على حصر نقاء الإيمان في عناصر الجماعة، متهما المجتمع كله بالجاهلية وهي أفكار كانت تعني في التفسير النهائي تكفير المجتمع بأكمله، وكانت أفكار قطب أشبه ما تكون بفكرة نقاء اليهود على أساس ديني، هو يطرح الفكرة ذاتها على الصعيد الإسلامي ويحصرها في جماعة «الإخوان».

لكن هذه الأفكار رغم غرابتها إلا أنها أعطت الفرصة للإخوان من أجل الانغماس أكثر في فكر التكفير وانتهاج الإرهاب على قواعد أكثر منهجية قائمة على ليّ عنق النصوص الدينية لخدمة مشروع الجماعة، وإعطاء مكانة أعلى لأعضاء الجماعة باعتبارهم الفئة المؤمنة، فمن هو سيد قطب الذي أسس لفكرة التكفير وجاهلية المجتمعات الإسلامية المعاصرة، والذي أوحت كتاباته بأفكار التكفير لكل الجماعات التي انتهجت العنف والإرهاب على مدار نصف قرن.

حياة قلقة

ولد سيد قطب في عام 1906 م بقرية «موشا» بأسيوط (جنوب القاهرة)، في أسرة متوسطة الحال، وكان والده قطب إبراهيم مهوسا بتثبيت صورته ضمن أعيان القرية ففقد معظم ثروته وراء هذا الحلم، وعلى عادة أهل الريف في مطلع القرن العشرين، تزوج قطب بأكثر من امرأة، أنجب من الأولى ابنه الأكبر محمد قطب، وأنجب من الأخرى سيد وشقيقتيه حميدة وأمينة، وكانت إحداهما تكبره بثلاث سنوات، والأخرى تصغره بثلاث سنوات أيضاً.

حاول قطب الأب أن يصدر انطباعا أنه من أعيان قريته، فعمل على تحويل منزله إلى مركز لاستقبال الفقراء والبسطاء والأعيان في المواسم والأعياد الدينية خاصة طوال شهر رمضان الكريم، فضلا عن توليه أولاده وبناته بالرعاية وتوفير كل السبل لتعليمهم بشكل جيد، لكن حجم إنفاق قطب أدى إلى مروره بأزمة مالية أدت إلى بيعه ممتلكات الأسرة من الأراضي الزراعية تباعا.

في تلك الأثناء، ارتبط سيد قطب، وفقا لسيرة حياته التي سجلها في كتاب «طفل من القرية»، بأسرة أمه التي وصفها بأنها كانت «أعرق» من أسرة والده، خاصة أن اثنين من أخواله كانا ممن تلقيا التعليم في الأزهر الشريف، وهو ما جعل الفتى سيد أكثر تعلقا بأسرة أمه، وبدأت تراود الأسرة فكرة أن يستكمل سيد قطب تعليمه في الأزهر الشريف، وبدأت عملية إعداده لهذه المهمة، لكن انقساما ضرب العائلة حول وجهة سيد، إلا أن الأب حسم الأمر بتقديم أوراق سيد في مدرسة ابتدائية لأنها أرقى من التعليم التقليدي في الكتاب، فضلا عن أن المدارس كانت تهتم وقتها بتحفيظ القرآن.

ومع مضي عامين على سيد قطب في المدرسة، وقعت حادثة غيرت مجرى حياته، إذ أعلنت المدرسة الاستغناء عن شيخ الكتاب لأنه لم يكن يحمل شهادة تعليمية، ولم يكن يعرف شيئاً عن الحساب، وتم تعيين أحد الفقهاء المتعلمين في وظيفته، لكن هذه الخطوة أطلقت شائعة أن الحكومة تريد محو تحفيظ القرآن الكريم، وأكد قطب أن شيخ الكتاب هو من غذى هذه الشائعة انتقاما من المدرسة وترويجا لكتابه الذي سيعود للتعليم فيه.

وهي الشائعة التي كان لها مفعول السحر في سحب أولياء الأمور أبناءهم من المدرسة وإلحاقهم بالكتاب من جديد، وكان من ضمن هؤلاء سيد قطب، لكنه لم يستطع التأقلم مع نظام التدريس والطلبة المخالطين له وطلب من والده إعادته إلى المدرسة ووعده بحفظ القرآن كاملاً، ليعود إلى المدرسة الأولية، وفي نهاية السنة الرابعة كان قد أتم حفظ القرآن، وانتهى من الدراسة الابتدائية في العاشرة من عمره.

وعندما بلغ سيد 13 عاما قامت ثورة 1919 ضد الاحتلال الإنكليزي، وهي مناسبة تفجر فيها الشعور الوطني للمصريين للمرة الأولى منذ عهود، وتوالت المقالات والمنشورات الحماسية وخرجت إلى النور قصائد عصماء تمجد التضحية في سبيل الوطن، وفي هذه الأجواء عرف سيد قطب طريقه إلى دنيا الأدب، فبدأ في كتابة الأشعار وإلقائها في منتديات عائلته، ما أكسبه شهرة في مجتمعه الريفي.

وبعد سنتين من ثورة 1919 انتقل قطب إلى القاهرة، وكان الانتقال هربا من تراجع القدرة المادية للأسرة، فوالده الذي باع الكثير من أملاكه، كان يعاني ضائقة مالية، وهو نفس حال أخواله، لذلك طالبته أمه بالسفر إلى القاهرة والعمل لتوفير احتياجات الأسرة حتى لا تسقط في هوة الفقر.

استقر سيد قطب في القاهرة، عند خاله الذي يعمل بالتدريس والصحافة، حيث التحق بمدرسة للمعلمين، وما كاد ينهي دراسته حتى انخرط في عملية البحث عن وظيفة لسد احتياجات الأسرة التي بدأت معركة مصيرية مع الفقر، فبعد أن تخرج في مدرسة المعلمين اضطر أن يعمل مدرساً ابتدائياً حتى يستعين بمرتبه في استكمال دراسته العليا، دون أن يحمل أسرته أي مصاريف إضافية، فضلا عن استقطاع جزء من دخله لإرساله إلى والده.

بالتزامن مع العمل، واصل قطب دراسته في كلية «دار العلوم»، وتخرج في سنة 1933، وكان عمره 27 عاماً، وفي نفس عام التخرج كون سيد قطب مع رفاق الدفعة «جماعة دار العلوم»، كان هدفها الدفاع عن اللغة العربية، ثم عُين موظفًا، غير أن مرتبه لم يتجاوز 6 جنيهات، وهو مبلغ غير كاف للإنفاق على نفسه وتحمل أعباء أسرته، لذلك انتقل إلى العمل في وزارة المعارف (التربية والتعليم في وقتنا هذا)، منذ مطلع الأربعينيات لكنه استقال من عمله عام 1952، نظرا لخلافاته مع رجال الوزارة.

في تلك الأثناء، مر سيد قطب بعدة تجارب عاطفية فاشلة، ما تكاد الواحدة منها تبدأ إلا لتنتهي نهاية حزينة، ما عبر عنه قطب في روايته «أشواك»، في وقت بدأت تستهويه الكتابات الأدبية، فتقرب من عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد، ولازم صالونه الأدبي، وتعلم منه الكثير في مجال النقد الأدبي، لكنه سرعان ما اختلف مع العقاد لتنتهي العلاقة بينهما بخصام.

وهو ما تكرر مع عميد الأدب العربي، طه حسين، إذ أعجب به سيد قطب إلى المنتهى في البداية، بل أهدى إليه كتابه «طفل من القرية» الذي يعد محاولة لمضاهاة رائعة طه حسين «الأيام»، وكتب قطب في الإهداء: «إلى صاحب كتاب الأيام. إلى الدكتور طه حسين بك، إنها يا سيدي كأيامك، عاشها طفل في القرية، في بعضها من أيامك تشابه، وفي سائرها عنها اختلاف، اختلاف بمقدار ما يكون بين جيل وجيل، وقرية وقرية، وحياة وحياة»، لكن سرعان ما هاجم قطب طه حسين دفاعا عن العقاد.

الرجل الغامض

وفي هذه الفترة الملتهبة في تاريخ مصر، فترة الأربعينيات المليئة بالانقلابات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، اقترب سيد قطب من الإلحاد، بل إن الروائي الكبير سليمان فياض في مقالته المهمة «سيد قطب بين النقد الأدبي وجاهلية القرن العشرين» أكد أنه سمع بأذنه من قطب ذاته أنه ظل ملحدا 11 عاما، ثم خرج من حيرة الإلحاد إلى طمأنينة الإيمان، وإلى هذه الفترة المضطربة في حياة قطب تعود بعض أكثر آرائه تطرفا، والتي نشرها في مقال له بجريدة «الأهرام» عدد 10 يوليو 1938، بعنوان «خواطر المصيف.. الشواطئ الميتة»، والذي شجع فيه ظاهرة التعري على الشواطئ، وهي فكرة تكشف مدى التمرد الذي وصل إليه قطب في كتاباته، وإلى هذه الفترة ترجع الأفكار الأكثر غرابة لقطب والتي رسخته كأحد أهم نقاد أمراض المجتمع المصري، ما لفت إليه أنظار المخابرات الإنكليزية.

وهنا يظهر رجل غامض في حياة قطب غير دفة الأحداث، كان هذا الرجل هو المستشرق ورجل المخابرات الإنكليزي هيوارث دن، فقد وصل إلى القاهرة في منتصف الثلاثينيات، ودرّس اللغة الإنكليزية في المدارس المصرية، واعتنق الإسلام وتزوج امرأة مصرية اسمها فاطمة، وتعاون في الأربعينيات مع المخابرات الإنكليزية، وبدأ يمد علاقته بالشخصيات المؤثرة في المشهد المصري، فتوثقت علاقته بمرشد الإخوان حسن البنا، ثم شارك في مفاوضات بين البريطانيين والبنا من أجل التعاون ضد قوى المحور (الألمان والإيطاليين) في الحرب العالمية الثانية.

في تلك الأثناء، تعرف دن على سيد قطب، وكان اهتمام المستشرق البريطاني منصبا على مقالات قطب ورؤيته الاجتماعية لحل مشاكل المجتمع المصري بحلول إسلامية، وهو ما جعله موضع اهتمام الإنكليز في إطار البحث عن بدائل قادرة على مواجهة خطر التمدد الشيوعي في العالم، وكانت المخابرات البريطانية ترى أنه يمكن استغلال الحركات الإسلامية كحائط صد أمام التقدم الشيوعي، خاصة أن العالم الإسلامي يقع على حافة العالم السوفياتي، ما يجعل إمكانيات الصدام بين العالمين قوية.

ويذهب الصحافي والباحث السعودي علي العميم في مقدمته للترجمة العربية لكتاب هيوارث دن {الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة}، إلى أن {دَن} هو من دبر لسيد قطب المنحة إلى الولايات المتحدة للاطلاع على التجربة الأميركية في الحرية والديمقراطية، وأن دن استغل نفوذه ونفوذ الاحتلال البريطاني من أجل تسهيل عملية إيفاد قطب إلى أميركا، عبر توفير إدراج اسمه في بعثة وزارة المعارف سنة 1948.

وللمفارقة كان قطب قد استقال من الوزارة في وقت سابق ولا يحق له التقدم بطلب الالتحاق بالبعثة المخصصة للعاملين في الوزارة، كما أنه تجاوز وقتذاك السن القانونية للابتعاث إلى الخارج، فقد كان وقتها في 42 من عمره، فضلا عن أن البعثة جاءت على غير المعتاد فلم تحدد لقطب أي مناهج يدرسها في أميركا أو جامعة يلتحق بها، بل ترك له حق التجول في أميركا بطولها وعرضها يفعل ما يشاء، ما يلقي بظلال على طبيعة دور رجل المخابرات البريطاني في تسهيل عملية سفر قطب، خاصة أن {دن} سافر في نفس الفترة إلى أميركا، وكان على علاقة بقطب بل واطلعه على مسودة كتابه عن التيارات الإسلامية في مصر.

سافر قطب إلى أميركا، ومكث هناك نحو ثلاث سنوات، ليعود إلى مصر في صيف 1951، وهو غير الرجل الذي سافر من قبل، عاد من أميركا محملا بانطباعات شديدة السلبية عن الحضارة الغربية، وأصيب بصدمة نفسية بما وصفه بـ{التردي الأخلاقي} والانهماك الغربي في الحياة المادية والاستهلاكية بصورة أفزعته، فعاد محملاً بكراهية للنظام الرأسمالي والغرب عموما، وبدأت فكرة جاهلية المجتمع المعاصر تختمر في ذهنه، وعبر عن احتقاره لأميركا في مقال {من الذى لا يحتقر أميركا ويحتقر معها آدمية الأميركان}.

وكتب قطب عن فترة ما بعد عودته من أميركا قائلاً: {استغرقت في صراع شديد بالقلم والخطابة والاجتماعات ضد الأوضاع الملكية القائمة والإقطاع والرأسمالية، وأصدرت كتابين في الموضوع غير مئات المقالات في صحف الحزب الوطني الجديد والحزب الاشتراكي ومجلة الدعوة ومجلة الرسالة وكل جريدة أو مجلة قبلت أن تنشر لي بلا انضمام لحزب معين}، لكنه فاجأ الجميع عندما قرر الانضمام إلى تنظيم {الإخوان المسلمين}.

كان التحول هائلا فلم يكن أحد يتوقع أن ينضم قطب إلى الإخوان المسلمين، خاصة أنه لم يقدم على هذه الخطوة في عز مجد الجماعة، عندما كان حسن البنا على قيد الحياة، والجماعة تعد أكبر قوة سياسية بعد حزب {الوفد} مباشرة، كما أن قطب رغم علاقته المتينة ببعض قيادات الإخوان فإنه أعلن تمسكه بعدم الانتماء الحزبي، فلماذا تأخر قطب في خطوته تلك، يقدم المستشرق ورجل المخابرات الإنكليزي هيوارث دن جزءا من الإجابة عبر صداقته لكل من البنا وقطب قائلاً: {كان حسن البنا إنسانا غيورا، فلم يستسغ منافسة سيد قطب له في مجال الإصلاحات الاجتماعية على أُسس إسلامية، كان يريد أن يكون هو الحبْر الأعظم، وألا يكون ثمة مسيلمة آخر في مصر}.

مذكرة اعتراف

يروي قطب ذاته قصة انضمامه للإخوان في مذكرة اعترافه التي كتبها بعد أحداث 1964، قائلًا:

{لم أعرف إلا القليل عن الإخوان المسلمين إلى أن سافرت إلى أميركا في ربيع 1948 في بعثة لوزارة المعارف (كما كان اسمها في ذلك الحين)، وقد قتل الشهيد حسن البنا وأنا هناك في عام 1949، وقد لفت نظري بشدة ما أبدته الصحف الأميركية وكذلك الإنكليزية التي كانت تصل إلى أميركا، من اهتمام بالغ بالإخوان ومن شماتة وراحة واضحة في حل جماعتهم وضربها وفي قتل مرشدها، ومن حديث عن خطر هذه الجماعة على مصالح الغرب في المنطقة وعلى ثقافة الغرب وحضارته فيها.

وصدرت كتب بهذا المعنى سنة 1950، أذكر منها كتابا لجيمس هيوارث دن بعنوان (التيارات السياسية والدينية في مصر الحديثة)، كل هذا لفت نظري إلى أهمية هذه الجماعة عند الصهيونية والاستعمار الغربي، في الوقت ذاته صدر لي كتاب (العدالة الاجتماعية في الإسلام) سنة 1949 مصدَّرا بإهداء هذه الجملة: إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يريدون هذا الدين جديدا كما بدأ، يجاهدون في سبيل الله لا يخافون لومة لائم}.

وتابع قطب: {ففهم الإخوان في مصر أنني أعنيهم بهذا الإهداء ولم يكن الأمر كذلك، ولكنهم من جانبهم تبنوا الكتاب واعتبروا صاحبه صديقا، وبدأوا يهتمون بأمره، فلما عدت في نهاية عام 1950، بدأ بعض شبابهم يزورونني ويتحدثون معي عن الكتاب، ولكن لم تكن لهم دار لأن الجماعة كانت لاتزال مصادرة، وظل الحال كذلك إلى أن قامت ثورة 23 يوليو سنة 1952، ومرة أخرى استغرقت كذلك في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو حتى فبراير سنة 1953 عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول هيئة التحرير ومنهج تكوينها وحول مسائل أخرى جارية في ذلك الحين، وفي الوقت نفسه كانت علاقاتي بجماعة الإخوان تتوثق باعتبارها - في نظري - حقلاً صالحا للعمل للإسلام على نطاق واسع في المنطقة كلها بحرية إحياء وبعث شاملة، وقد كانت نتيجة هذه الظروف مجتمعة انضمامي بالفعل سنة 1953 إلى جماعة الإخوان المسلمين}.

جاء انضمام سيد قطب إلى جماعة {الإخوان المسلمين}، في وقت كان هو يقترب أكثر من أفكار جاهلية المجتمع وتكفيره، كاشفا عن رؤيته المثالية القائمة على قراءة غير واقعية للتاريخ الإسلامي، في وقت كانت الجماعة تخوض مواجهتها الأولى ضد عبد الناصر، والتي انتصر فيها الأخير، لتفتح السجون أبوابها مشرعة أمام مئات الإخوان، وكان من بين هؤلاء سيد قطب ذاته، كان على الرجل الذي عاش في عالم الأفكار والتنظير أن ينزل إلى أرض الواقع ويصطدم بها، اكتشف قسوة الحياة داخل السجون، فانهارت المثاليات التي كان يحيط بها نفسه، وبدأ في اتخاذ مواقف أكثر حدة، لكنه وهو يخط كتبه الأخيرة والتي ضمنها الأفكار الأكثر تطرفا، كان يقترب هو وجماعته {الإخوان} من الاصطدام بزعامة عبد الناصر.

... يتبع