في ربيع عام 1964، حين بدأ القتال في فيتنام يتصاعد، اجتمع عشرات الأميركيين للمشاركة في لعبة. كانوا من أبرز الرجال النافذين في واشنطن: مدير الاستخبارات المركزية، رئيس هيئة الأركان في الجيش، مستشار الأمن القومي، رئيس القيادة الجوية الاستراتيجية. شارك أيضاً كبار المسؤولين من وزارة الخارجية وسلاح البحرية.

انقسم اللاعبون إلى فريق أحمر وآخر أزرق وكانوا يمثّلون القوى العظمى في الحرب الباردة. شاركت الفِرَق من غرف منفصلة في البنتاغون ولعب المشاركون أدوارهم في المواجهة الحاصلة في جنوب شرق آسيا وكأنهم موجودون في مركز قيادة محايد. تلقى الخبراء في مركز القيادة الأوامر من كل فريق وصمّموا نماذج عن تحركات الفريقين، الأزرق والأحمر، وأصدروا تقارير استخبارية مزيفة رداً عليها. عكست تلك التقارير مسار الصراع المتفاقم، لكن امتنعت الاستخبارات عمداً عن طرح توقعات غير مؤكدة عن المعارك. بعد أيام من تجربة سيناريوهات مختلفة، توصل المشاركون في لعبة الحرب إلى استنتاج مفاده أن المدنيين في الولايات المتحدة وفي بقية بلدان العالم سيحتجّون بقوة على أي قصف هجومي أميركي.

Ad

زادت الحاجة إلى توقع ديناميات الصراع في حين مرر الكونغرس الأميركي {قرار خليج تونكين} في أغسطس 1964، وهو القرار الذي يعلن الحرب على شمال فيتنام. لذا بدأت لعبة حربية جديدة وكانت تهدف إلى توقع الوضع في جنوب شرق آسيا بعد ستة أشهر. بعد استبعاد أي اعتداء نووي أميركي، واجهت الفِرَق ورطة فعلية، فقد تصدى الفيتناميون الشماليون لأي تحرك أميركي رغم سقوط القتلى وتدمير البنى التحتية. توقعت الألعاب نشوء أزمة سياسية في الولايات المتحدة من دون إيجاد مسار منطقي يضمن انتصاراً عسكرياً أميركياً. للمرة الثانية خلال سنة واحدة، أثبتت ألعاب الحرب قدرتها على توقع الأحداث بدقة، لكن تبين في الوقت نفسه أنها بلا جدوى لأن الحكومة أصرّت على السماح بوقوع المأساة على أرض الواقع.

توقع بكمنستر فولر عواقب التدخل الأميركي في فيتنام من دون الحاجة إلى أي محاكاة عسكرية. كان فولر مهندساً ومعمارياً ومخترعاً صنع نفسه بنفسه وكان يتمتع ببصيرة ثاقبة، وقد امتدت اهتماماته من الرياضيات إلى الفلسفة. وُلد فولر في ماساتشوستس في عام 1895 وقد كرّس حياته لجعل «العالم يعمل من أجل الإنسانية خلال أقصر وقت ممكن، وذلك عبر إقامة تعاون عفوي ومن دون إيذاء البيئة أو الناس».

حين خرج صراع فيتنام عن السيطرة، وجد فولر حلاً للأزمة. كانت فكرته بسيطة: بدل خوض ألعاب حربية سرية داخل البنتاغون، يجب أن تستضيف الولايات المتحدة لعبة للسلام العالمي علناً. استكمل هذا المفهوم اقتراحه ببناء {جيوسكوب} داخل {الجناح الأميركي من المعرض العالمي لعام 1964}. تكشف خارطة العالم التي تتخذ شكل رسوم متحركة جميع موارد الكوكب، فضلاً عن النشاطات البشرية والطبيعية، بدءاً من انتشار الجنود وصولاً إلى تيارات المحيطات. على هذه الخارطة، سيتلقى جميع قادة العالم والمواطنين من جميع البلدان دعوة لإطلاق السلام علناً. اعتبر هذه اللعبة العالمية نظاماً سياسياً وبديلاً ديمقراطياً جداً للتصويت حيث يتوصل الناس جماعياً إلى حلول محتملة لمشاكل مشتركة.

كتب فولر: {الهدف من اللعبة استكشاف الطرق التي تسمح لأي شخص من العائلة البشرية بالاستمتاع بالأرض كلها من دون أن يتدخل البشر بحياة غيرهم ومن دون أن يتفوق البعض على حساب الآخرين. للفوز بهذه {اللعبة العالمية}، يجب أن يكون الجميع مستعدين من الناحية الجسدية. يجب أن يفوز الجميع}.

أصر فولر على أن الألعاب العالمية توفر علاجاً للحروب لأنها مضادة لألعاب الحرب ولنظرية {لا غالب ولا مغلوب}، وهي تطرح نظاماً تُصمَّم فيه الصراعات رياضياً لتحديد أفضل استراتيجية منطقية لتحقيق الفوز. استوحى فولر هذه الفكرة من {كابيتول هيل}. فهو أبلغ اللجنة الفرعية للعلاقات الحكومية الدولية في مجلس الشيوخ في عام 1969 بأن {جميع البلدان النافذة تستعمل نظرية الألعاب اليوم ضمن برامج الاستكشاف المحوسبة لاستباق اندلاع حروب عالمية ثالثة ورابعة وخامسة بطريقة علمية}. وقال إن نظرية ألعاب الحرب التي تؤكد على ضرورة أن يموت أحد الطرفين في النهاية، بسبب الحرب أو الجوع، باطلة}. لكن رفضت الحكومة الأميركية خطة فولر. فاعتبرت مؤسسة {راند} التي يمولها البنتاغون كتاباته وشهادته في مجلس الشيوخ {مجرّد رؤية فاشلة عن لعبة محوسبة غير مدروسة} من شأنها أن {تؤخر أي تقدم حقيقي في هذا المجال}.

لكن كان مبرراً أن يتعامل فولر ومؤسسة {راند} بحذر شديد لأن خلافهما لم يكن يتعلق يوماً بنظرية {لا غالب ولا مغلوب} كما ادعى الطرفان. منذ سنوات الحرب الباردة، زاد الاختلاف بين ألعاب الحرب وألعاب السلام، وقد تداخلت هذه الابتكارات اليوم في قطاع الألعاب المحوسبة. توقع المخترع المستقل أن تسمح ألعاب الحرب التي يتعدد مستخدموها والتي تستعمل شبكة موحدة حول العالم باللعب من أجل السلام.

فصائل إرهابية

في الوقت نفسه، زادت الاضطرابات في العالم. استُبدل بالمواجهة النووية بين قوتين عظمتين عنف غير متوقع ترتكبه فصائل إرهابية كثيرة، بدءاً من {طالبان} وصولاً إلى {داعش}. يكشف عجز الجيش الأميركي عن لعب دور قوة مضادة، رغم إنفاق تريليونات الدولارات، حدود التفكير التقليدي على مستوى الاستراتيجيات والتكتيكات. في عامَي 2014 و2015، قاد {المجلس الأطلسي} (منظمة معنية بالشؤون الدولية) ألعاباً حربية مع {داعش} وقد استنتج أن هذه المنظمة الإرهابية تستطيع التصدي للقوات الأميركية. يبدو السلام العالمي بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى. أصبح ابتكار ق لتخفيف حدة الصراعات عن طريق الألعاب ملحّاً جداً. سيتطلب النجاح كل الحكمة التي يمكن استخلاصها من ألعاب الحرب مع مرور الوقت. كذلك سيحتاج إلى عاملٍ كانت ألعاب الحرب الشائعة في عام 1964 تفتقر إليه: الرغبة في الاستفادة من الدروس التي تقدمها الألعاب.

ألعاب الحرب قديمة بقدر عالم الألعاب كله وهي بدائية بقدر الحرب نفسها. طرحت أشهر الألعاب القديمة في الصين واليونان، مثل {ويتشي} و}بيتيا}، نماذج عن تحركات تكتيكية للجنود. ويُعتبر الشطرنج أهم لعبة استراتيجية وهو الذي مهّد مباشرةً لنشوء تجارب المحاكاة التي أجراها البنتاغون خلال الحرب الباردة.

حمل {الشطرنج} في الأصل شكلاً هندياً قديماً. وشملت اللعبة مجسمات لجنود المشاة والعربات والأحصنة والفيلة، وتشرف عليها قطع تمثّل الوزير الأول والملك. تطلّب الفوز تدمير الجيش الخصم أو القبض على الملك، كما كان يحصل في المعارك الحقيقية حينها. سرعان ما فقدت اللعبة جزءاً من طابعها العسكري ظاهرياً حين انتشرت في بلاد فارس والصين وأوروبا، لكن بدا وكأنّ العسكريين لا يمكن أن يلتهوا بالملكات والأساقفة. وفرت اللعبة تدريباً عقلياً للقادة، بدءاً من ويليام الفاتح وصولاً إلى تيمورلنك.

في القرن السابع عشر، فكر خبراء الاستراتيجيات العسكرية في أوروبا بطرق  تجعل الشطرنج أقرب إلى القتال الحقيقي كي توفر اللعبة تدريباً أكثر فاعلية. في البداية، كان الهدف يتعلق بتوسيع ساحة المعركة وجعل الجيوش أكثر تنوعاً من خلال توفير مجسمات تمثّل الفرسان والمدفعيات وجنود المشاة. وفي القرن الثامن عشر، بدأت مربعات ألعاب الألواح تمثل أنواعاً مختلفة من الساحات: حصل ذلك عبر تنويع الألوان أو عبر تحويل الشبكة إلى خارطة للمناطق. كُتبت القواعد لتغيير سرعة تقدّم الجنود، بحسب طريقة تنقلهم (على الأحصنة أو سيراً على الأقدام)، وبحسب حاجتهم إلى عبور المروج أو تسلق الجبال. كان اللاعبون مسؤولين عن إجراءات لوجستية بسيطة مثل التأكد من وجود خطوط لإمداد الجنود بالطعام.

كانت تلك البداية بكل بساطة! حصل التحول الكامل من الشطرنج إلى ألعاب الحرب في القرن التاسع عشر، حين حدد ملازم بروسي اسمه جورج فون ريسويتز جوانب لعبة اخترعها والده. كانت لعبة ريسويتز الأب تشمل مجسمات جنود يشاركون في قتال مزيف حيث تقرر مكعبات النرد نتائج الكمائن والمعارك. استبدل الملازم الشاب بساحة المعركة التي ابتكرها والده خارطة طبوغرافية مسطحة حيث يمكن تحريك المجسمات التي تمثل الشركات والوحدات بالوتيرة التي تسمح بها ساحة المعركة. كما يحصل في الحروب الحقيقية، لا يعرف أي من الطرفين تفاصيل الصراع بالكامل. يلعب كل فريق على لوح منفصل ويستطيع حَكَم التقدم والرجوع عليه. اشتقّت القواعد من تجربة ساحات المعركة وهي تفرض إلى أي حد يسمح الحَكَم لكل فريق بمعرفة وضع الخصم. وجّهت تلك القواعد نتائج القتال أيضاً عبر مكعبات النرد. عُرفت اللعبة باسم kriegsspiel ({المناورات}).

تشابه مع الواقع

كان تشابه لعبة kriegsspiel مع أحداث الواقع كفيلاً بإبهار رئيس هيئة الأركان البروسي كارل فون موفلينغ حين عرض ريسويتز لعبته في عام 1824. طرح موفلينغ مقالة في مجلة الجيش البروسي الأسبوعية وهي تؤكد على أن لعبة kriegsspiel تقيم توازناً بين {مطالب اللعبة التافهة} و}جدّية الحرب}، ثم طلب توزيع الألواح على جميع الأفواج. بعد 13 سنة، ساهم خلف موفلينغ، هيلموت فون مولتك، في تسويق kriegsspiel كونه جعل اللعبة محورية لتدريب الضباط عبر جلب {الكلية الحربية} كلها إلى الحدود البروسية من وقت إلى آخر لتنفيذ عمليات غزو افتراضية ضد العدو.

في أوروبا، استُعملت لعبة kriegsspiel على نطاق واسع لتطوير استراتيجيات تسمح بخوض حرب ميدانية. نظراً إلى التقاليد البروسية، وأوهام الألمان بشأن عظمتهم الفائقة، تحركت ألمانيا بوتيرة مكثفة وطورت خزانة كاملة من الملفات للتخطيط للمعارك. حصلت واحدة من أبرز عمليات الغزو الواعدة لهولندا وبلجيكا بهدف سحق الجيش الفرنسي قبل أن يتمكن البريطانيون من تقديم المساعدة. توقعت اللعبة أن تفوز ألمانيا ضد فرنسا ما دامت تستطيع إعادة التزود بالذخائر سريعاً. لتحقيق هذه الغاية، بنت ألمانيا أولى الكتائب الميكانيكية للإمدادات في العالم وقد استُعملت في عام 1914. كان يمكن أن تنجح الخطة بشكل لامع لو أن اللاعبين اقتصروا على الجيوش الألمانية والفرنسية. لكن فشلت لعبة kriegsspiel الألمانية في تقبّل كبرياء المدنيين البلجيكيين الذين أثبتوا تأهبهم واستعدادهم للتخريب (حتى لو خرّبوا سكك الحديد الخاصة بهم)، ما أدى إلى إعاقة الزخم الألماني. الأسوأ من ذلك أن اللعبة استبعدت الدبلوماسية التي جرّت الولايات المتحدة، عن طريق تحالفاتها، إلى خوض الحرب ضد الرايخ الألماني.

أثبتت هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى الحاجة إلى ابتكار بُعد آخر في ألعاب الحرب، أي إنشاء محور اجتماعي سياسي. بحسب الظروف السائدة، كان يجب أن تحدد ألعاب الحرب التداعيات غير العسكرية للأعمال العسكرية وكان يجب أن تفعل ذلك على مقياس يتراوح بين الأوضاع المحلية والعالمية. ما كان يمكن أن تنجح اللعبة إلا إذا صُمّمت المحاور الثلاثة كلها بالشكل الصحيح. وكان المستوى المناسب من التعميم والانفتاح والشمولية يختلف بحسب الأوضاع والأهداف.

خاضت الجيوش الكبرى اللعبة على مستويات عدة في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين وقد حققت نتائج متفاوتة. نجحت ألمانيا في استعمال ألعاب الحرب لابتكار مفهوم {الحرب الخاطفة}، وشاركت اليابان في اللعبة لاختبار مناورات استعملتها قواتها البحرية لاحقاً لاحتلال مواقع في جزر المحيط الهادئ، ولعبت الولايات المتحدة لاختبار تكتيكات برمائية ميّزت سلاح مشاة البحرية. لكن كانت الألعاب التي تغوص في السياسة أكثر خداعاً. حتى إن الألعاب المجانية التي خاضتها ألمانيا في بداية الثلاثينيات (شمل المشاركون فيها دبلوماسيين وصناعيين وصحافيين) فشلت في حماية جمهورية فايمار من الانهيار الداخلي. في اليابان، نظّم {معهد بحوث الحرب الشاملة} ألعاباً سياسية عسكرية في عام 1941 وقد عكست المصالح السياسية والقوة العسكرية لعدد من الدول مثل الاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة. أصابت الألعاب حين توقعت الهزيمة اليابانية لإنكلترا في الشرق الأقصى، لكنها أخطأت حين توقعت انتصار ألمانيا على الاتحاد السوفياتي وقد استخفّت كثيراً بعزيمة الولايات المتحدة.

استعملت الولايات المتحدة ألعاب الحرب بأكبر فاعلية ممكنة خلال الحرب العالمية الثانية لأن الجيش الأميركي كان أكثر تنبّهاً إلى حدود قدراته. استكشفت الألعاب التي شارك فيها الأميركيون مشكلة مساحة الحرب التي برزت خلال الأربعينات، وأنتجت الألعاب قواعد دقيقة وعملية. لكن ارتبط العائق الوحيد بخيال الجيش العسكري الذي عجز عن تصوّر العمليات الانتحارية اليابانية. طُبّقت هذه المقاربة الاستكشافية خلال الحرب الباردة وقد تعززت بسبب ظروف التسلح النووي. لخّص عالِم الفيزياء هيرمان كان الذي يعمل في مؤسسة {راند} المشكلة الجوهرية التي واجهتها الجيوش الأميركية والسوفياتية معاً خلال الخمسينيات والستينيات. وحين شكّك المسؤولون العسكريون بخبرته، ردّ عليهم قائلاً: {كم حرباً نووية حاربتم مؤخراً؟}. كانت الحقبة النووية غير مسبوقة بأي شكل، وكان أي قرار خاطئ قادراً على إنهاء الحضارة البشرية. برزت حاجة مُلِحّة إلى استكشاف كل احتمال ممكن تزامناً مع الاعتراف باستحالة توقع بعض الاحتمالات. استعمل البنتاغون الألعاب لإجراء تجارب محاكاة لوفاة جوزيف ستالين المفاجئة ولأول ضربة سوفياتية في يوم التنصيب، وقد لعب مسؤولون عسكريون وحكوميون متوسطو الرتب الأدوار في هذه اللعبة. كانت هذه الألعاب المجانية تهدف إلى تطوير الحدس: بما أن النموذج الجيد يجب أن يأخذ بالاعتبار كل ما يحصل في العالم، لأن الحرب النووية اتخذت طابعاً عالمياً، كان يستحيل بناء نماذج جيدة. لذا اختار البنتاغون تجارب محاكاة غير مناسبة وأضعف مصداقيتها.

لكن أرادت الحكومة الأميركية والقادة العسكريون حتماً السيطرة على الحرب الباردة. فسعوا إلى الانتصار على الشيوعية. تعزز هذا الطموح بسبب التقدم الحاصل في مجال الحوسبة وتقدم نظرية الألعاب باعتبارها نموذجاً للألعاب غير المبنية على مبدأ {لا غالب ولا مغلوب}.

في عام 1960، استكشف الخبير الاقتصادي توماس شيلينغ من جامعة هارفارد هذا الاحتمال في كتاب بعنوان {استراتيجية الصراع} (The Strategy of Conflict). طرح كتابه الألعاب غير المبنية على مبدأ {لا غالب ولا مغلوب} من ابتكار فون نيومان ومورغنستيرن، فأثبت أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي يمكن أن يفوزا معاً في عصر {التدمير المؤكد المتبادل}، ومن دون المجازفة بالخسارة، شرط أن يمارسا ضبط النفس. كان هذا الحل ممتازاً، لكن لم تبرز أي طريقة واضحة لتطبيقه: ما من إطار لبناء الثقة أو إرادة سياسية لتحديد مصالح الخصوم. كان مستوى الغموض الذي جعل نظرية الألعاب قابلة للتطبيق كفيلاً بجعل أكثر الاستنتاجات إقناعاً غير مهمة عملياً. في هذا السياق، بدا الوضع أشبه بلعبة الشطرنج.

في الوقت الذي نشر فيه شيلينغ كتابه، اقتنى الجيش الأميركي حاسوباً مخصصاً لألعاب الحرب. تم تركيب جهاز محاكاة الحرب البحرية الإلكترونية في كلية الحرب البحرية بكلفة 10 ملايين دولار ولكنه لم يشمل أي نظرية عن الألعاب. بل كانت هذه الآلة أشبه بِحَكَم كهروميكانيكي وقد حللت البيانات واحتسبت عدد رميات النرد في الألعاب. حملت النسخ اللاحقة وظيفة مشابهة مع أن الحاسوب يستطيع لعب دور طرف واحد أو الطرفين معاً، ما يسمح بتسريع اللعبة بنسبة كبيرة. يمكن المشاركة في ألعاب كثيرة ويمكن التفكير بخيارات واسعة وتسجيل نتائج لا تُعَدّ ولا تُحصى.

لأغراض استراتيجية، كانت نظرية الألعاب مبهمة جداً وتجارب المحاكاة المحوسبة بالغة الدقة. بقيت أكثر تقنية دقيقة ومتعددة الجوانب أقدم طريقة شائعة الاستعمال: إنها ألعاب الحرب المجانية التي طرحها جوليوس فون فردي من فيرنوا في القرن التاسع عشر.

ألمح النائب العام روبرت ف. كينيدي في عام 1963 إلى الشكل الذي يمكن أن تتخذه ألعاب الحرب المجانية. بعد خوض لعبة سياسية عسكرية من تنظيم شيلينغ، استفسر كينيدي عن استكشاف لعبة لمعالجة اللامساواة العرقية في الجنوب: إنه حل بديل عن الجدل السياسي الذي تؤدي­­ فيه المصالح كلها دوراً يمهّد لإقرار الحقوق المدنية. تم التخلي عن هذه الفكرة بعد اغتيال الرئيس جون ف. كينيدي، لكن حصل اختراق في عام 1970، حين سافر لينكولن بلومفيلد، عالِم سياسي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى موسكو. كان بلومفيلد ضيفاً للحكومة السوفياتية وقد نظم تجربة محاكاة حيث يلعب المسؤولون السوفيات والأميركيون والإسرائيليون بطريقة غير رسمية لعبة حربية تحاكي صراع الشرق الأوسط بما يشبه حرب الأيام الستة. بدّل بلومفيلد أدوارهم عمداً: فلعب السوفيات المؤيدون للعرب دور إسرائيل، بينما لعب الإسرائيليون والأميركيون المعادون للسوفيات دور الاتحاد السوفياتي. وسط هذه الظروف المتبدلة، فاجأ {الإسرائيليون} السوفيات الجميع عبر تطوير سياسة اعتدال.

«الحياة الثانية»

حين انتقل التقدم في مجال الحوسبة من القطاع العسكري إلى المجال التجاري، تحولت ألعاب MUD من تفاعل مبني على النصوص إلى استكشاف للرسوم البيانية. كانت هذه البيئات الإلكترونية تدعو إلى تحقيق الاكتشافات والإنجازات. كان اللاعبون يستطيعون التعاون أو التنافس، فقد تمكنوا من الاختيار بين البناء المشترك أو قتل بعضهم. سرعان ما انفصلت هذه الأنماط من المشاركة الإلكترونية. أدت دوافع التعاون إلى نشوء عوالم افتراضية، منها {الحياة الثانية} (Second Life) التي تسكنها كائنات يسيطر عليها اللاعبون وهي تهتم بالمنزل وتقيم علاقات اجتماعية وتمارس علاقات جنسية افتراضية. في المقابل، أدى التنافس إلى نشوء {ألعاب إلكترونية متعددة اللاعبين} مثل EverQuest وWorld of Warcraft حيث يذهب اللاعبون للقتال وجمع الغنائم.

يبدو عدد المشاركين في العوالم الافتراضية وفي {الألعاب الإلكترونية متعددة اللاعبين} صادماً. في ذروة النجاح، استضافت {الحياة الثانية} 800 ألف مقيم، وهو عدد قريب من سكان سان فرانسيسكو، وشملت لعبة World of Warcraft عدداً سكانياً قياسياً بلغ 12 مليون نسمة. برز نوع شهير آخر من الألعاب التي تهدف إلى نشر السلام ويتمتع اللاعب فيها بقوى خارقة (باعت ألعاب رايت وحدها 180 مليون نسخة!).

لم تكن هذه العوالم الافتراضية مجرّد خلفيات حيادية لأحداث {الحياة الثانية}. مثل لعبة SimCity وألعاب الحرب عموماً، من المنطقي أن تكون قوية ومتماسكة داخلياً. سيسقط الضحايا طبعاً ولكل فعل عواقبه، ويسود جو من التوتر بسبب محدودية الموارد وضغط الوقت مثلاً.

داخل هذه العوالم، يمكن أن يستكشف عدد من اللاعبين المتصلين بالشبكة عالمياً سيناريوهات متعددة.

مع زيادة عدد اللاعبين تزامناً مع تطور الألعاب العالمية، مهّدت نتائج تلك الألعاب لجذب شريحة أوسع من سكان العالم. في مرحلة معينة، إذا أصبحت الأعداد ضخمة بما يكفي، كانت لتنعكس اللعبة على الواقع أو تندمج معه لأن اللاعبين كانوا يجمعون ما يكفي من الخبرة لاستباق الأحداث وللعب دورهم في عالم الواقع بحكمة أكبر. كان يمكن تصدير جوانب كاملة من البنى التحتية الخاصة بالألعاب (كتلك التي تشمل منظمات غير حكومية وشركات) لأن العلاقات الأساسية تكون قد بُنيت مسبقاً. شكّلت الألعاب أيضاً منصة لإجراء استطلاعات وكسب معلومات غنية، فكشفت عن توجه الرأي العام للسياسيين.

أو كان يمكن المشاركة في لعبة لها هدف مباشر على مستوى الحكم. كان يمكن تحقيق إحدى أفكار فولر (أي أنّ اللعب قد يفيد كخيار بديل للتصويت) لأن نسبة كبيرة من الناس لعبت على احتمالات وطنية وعالمية. في أي قضية، يمكن طرح اقتراحات مختلفة من خلال اللعبة. ومع انهيار بعض الألعاب، تمكّن اللاعبون من الانضمام إلى ألعاب قابلة للصمود إلى أن يختاروا الاقتراح الأكثر رواجاً. ستكون تلك اللعبة أشبه باقتراع بديل حيث يعكس موقف الأغلبية داخل اللعبة قراراً ملزِماً من الناحية التشريعية أو الدبلوماسية. إذا وافق المواطنون منذ البداية، سيكون مفهوم اللعبة متماشياً بالكامل مع المبادئ الديمقراطية ويمكن أن يكسر الجمود الذي يضعف الديمقراطيات المعاصرة.

حين طرح فولر اللعبة العالمية كطريقة لتحديد كيفية تحقيق السلام العالمي، لم يكن طموحاً بما يكفي. يجب أن تجعل الألعاب من السلام جزءاً من قدراتها. تتسم اللعبة التي يربح فيها الجميع بدرجة من الواقعية ويُفترض أن تبني عالمنا المستقبلي.

حرب المدنيين

في عام 1953، صمم جندي سابق اسمه تشارلز روبرتس لعبة حربية بسيطة للمدنيين. نُفّذت التكتيكات على خارطة من المشاهد الخيالية. مثل لعبة kriegsspiel التي ابتكرها ريسويتز، استُعملت جداول لاحتساب عدد الضحايا وعدادات لتجسيد الكتائب. حققت هذه اللعبة ما يكفي من المبيعات كي يجد روبرتس شركة تتبناه: إنها شركة Avalon Hill التي أطلقت قطاع ألعاب الحرب الترفيهي.

بدأ ويل رايت يلعب ألعاب الحرب التي تطرحها شركة Avalon Hill حين كان مراهقاً خلال السبعينيات. وبعد عشر سنوات، حين أصبحت الحواسيب الشخصية شائعة الاستعمال، قرر برمجة لعبة خاصة به. لم تكن لعبةRaid on Bungling Bay تشغّل العقل بقدر ألعاب شركة Avalon التي كان يلعبها. ظاهرياً، بدا وكأنها تدمج بين إطلاق النار وتجربة محاكاة لرحلة جوية. لكن أضاف رايت شكلاً من الواقعية العسكرية والصناعية حيث تؤثر الأهداف التي يختارها اللاعب على قدرات العدو. لا يمكن ضمان الفوز بهذه اللعبة عبر تحسين ردود الأفعال، بل عبر استيعاب ديناميات تصنيع الأسلحة وسلاسل الإمدادات.

تخلت لعبة رايت التالية عن أنواع ردود الفعل كافة. في  SimCity، كان اللاعب رئيس بلدية شبه واقعية، وكان مسؤولاً عن إدارة ديناميات المدينة، أي شؤون الإعالة والنمو. الأهم هو عدم وجود هدف مسبق. يحدد اللاعب معايير شخصية عن خصائص المدينة ويسعى إلى تحقيق تلك الرؤية. كما يحصل في أي مدينة حقيقية، لم تكن المهمة سهلة. وصلت الحلقات السببية العميقة التي جعلت لعبة kriegsspiel  مقنعة جداً إلى عالم المدنيين، واندمجت في سياق مبني على لاعب واحد ويكون الصراع فيه داخلياً. تستطيع هياكل المدينة في لعبة SimCity دعم متغيرات لامتناهية: مثلkriegsspiel ، لم تكن اللعبة دقيقة بل طرحت إطاراً منطقياً للعب. وصفها رايت بـ{مساحة الاحتمالات} حيث يصبح اللاعب مصمّم اللعبة ويُعتبر تصميم اللعبة تصميماً للمجتمع.

نشأ بُعد آخر حين كان رايت ينتقل من Avalon Hill إلى Bungling Bay. في جامعة إسيكس عام 1978، برمج الطالبان روي تروبشو وريتشارد بارتل مغامرة متعددة اللاعبين لصالح شبكة محوسبة في حرم الجامعة. كانت اللعبة المبنية على نصوص أولى من نوعها وبدت شبيهة بمغامرة Dungeons and Dragons. أطلق الطالبان اسم Multi-User Dungeon أو MUD على ابتكارهما، وأصبح  الاسم لقباً لفئة كاملة من ألعاب المغامرات على الشبكة، لا سيما بعدما أصبحت الإنترنت متاحة للجميع.