إن الدول فقيرة لأن الحكومات فاسدة، وما لم تضمن الدول عدم سرقة الموارد العامة وعدم استغلال السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، فإنها ستظل فقيرة، أليس كذلك؟

Ad

من المؤكد أنه من المغري أن يتصور المرء ذلك، فنحن إزاء سرد يقيم علاقة وثيقة بين وعد الرخاء والنضال ضد الظلم، وكما قال البابا فرانسيس في رحلته الأخيرة إلى أميركا اللاتينية: «الفساد هو الآفة التي تهلك البشر»، والفاسدون يستحقون أن «يربطوا بصخرة ويلقى بهم إلى البحر»... ربما يستحقون ذلك حقا ولكن هذا لن يجعل بلدانهم أكثر ازدهاراً بالضرورة.

ولنتأمل هنا بعض البيانات، لعل أفضل مقياس للفساد هو مؤشر السيطرة على الفساد التابع للبنك الدولي، والذي يُنشَر منذ عام 1996 ويغطي أكثر من 180 دولة، إذ يُظهِر مؤشر السيطرة على الفساد أنه في حين تميل البلدان الغنية إلى أنها أقل فساداً من البلدان الفقيرة فإن الدول الأقل فساداً نسبيا، بسبب مستوى التنمية لديها، مثل غانا وكوستاريكا والدنمارك، لا تنمو بسرعة أكبر من غيرها.

ولا تنمو الدول التي تتحسن مراتبها على مؤشر السيطرة على الفساد، مثل زامبيا ومقدونيا وأوروغواي ونيوزيلندا، بسرعة أكبر، وفي المقابل يشير مؤشر البنك الدولي لفاعلية الحكم إلى أن البلدان التي لديها حكومات فعّالة نسبياً أو التي يتحسن أداؤها، نظراً لمستوى الدخل لديها، تميل إلى النمو بسرعة أكبر.

ولسبب ما- ربما يتعلق بطبيعة ما أسماه جوناثان هايت من جامعة نيويورك «عقولنا القويمة»- ترتبط مشاعرنا الأخلاقية ارتباطاً قوياً بمشاعر التعاطف والتآزر في مواجهة الأذى والظلم، فحشد الناس ضد الظلم أسهل من حشدهم لنصرة العدالة، ونحن نتحمس لمحاربة كل ما هو سيئ- ولنقل الجوع والفقر- أكثر من حماسنا في الكفاح من أجل تحقيق ذلك النوع من النمو والتنمية الذي يجعل الغذاء وسبل المعيشة المستدامة أكثر وفرة.

في بعض الأحيان يكون التحول من «السيئ» إلى «الحسن» المقابل له مجرد مسألة دلالات لفظية: فمكافحة العنصرية هي في واقع الأمر كفاح من أجل عدم التمييز، ولكن في حالة الفساد، وهو العنصر السيئ الذي يرجع إلى غياب العنصر الحسن، يصبح الهجوم على العنصر السيئ مختلفاً تمام الاختلاف عن خَلق العنصر الحسن.

إن الدولة الصالحة هي الدولة المقتدرة، فهي النظام البيروقراطي القادر على حماية البلاد وشعبها، وحفظ السلام، وفرض القواعد وإنفاذ العقود، وتوفير البنية الأساسية والخدمات الاجتماعية، وتنظيم النشاط الاقتصادي، والتعهد بمصداقية بالتزامات زمنية، وفرض الضرائب على المجتمع لتغطية تكاليف كل هذه الأمور، وغياب الدولة المقتدرة هو الذي يؤدي إلى انتشار الفساد (عدم القدرة على منع الموظفين العموميين، الذين يتواطؤون غالباً مع أفراد آخرين في المجتمع، من تخريب عملية صنع القرار لتحقيق مكاسب خاصة)، فضلاً عن الفقر والتخلف.

قد يزعم البعض أن الحد من الفساد يستلزم إقامة دولة مقتدرة؛ فالخير ينشأ من الكفاح ضد الشر، ولكن هل الأمر كذلك حقا؟ إن المعلمين والممرضين كثيراً ما يتغيبون عن أعمالهم، ولكن هذا لا يعني أن الأداء سيتحسن كثيراً إذا واظبوا على الحضور، وربما يكف رجال الشرطة عن طلب الرشوة، ولكن هذا لن يجعلهم أفضل قدرة على الإمساك بالمجرمين ومنع الجريمة، والحد من الإكراميات لا يعني القدرة على إدارة عقود الامتياز أو تحصيل الضرائب.

بعيداً عن ملاحقة بعض العناصر الفاسدة، كثيراً ما تتضمن تدابير مكافحة الفساد إصلاح القواعد التي تحكم المشتريات، وأنظمة الإدارة المالية العامة، وتشريعات مكافحة الفساد، والافتراض الأساسي هنا هو أن القواعد الجديدة، خلافاً للقواعد السابقة، سيتم إنفاذها بالضرورة.

ولكن لم تكن هذه هي تجربة أوغندا، ففي عام 2009، وتحت ضغط من مجتمع المساعدات، استنت الحكومة ما وصِف في ذلك الوقت بأنه أفضل تشريع لمكافحة الفساد في العالم؛ ورغم هذا فإن كل مؤشرات الفساد هناك استمرت في الهبوط.

وأوغندا ليست استثناء، فقد وثق مات أندروس، زميلي في جامعة هارفارد، فشل إصلاحات الإدارة المالية العامة المصممة لمنع الكسب غير المشروع، ولا ترتبط الأسباب وراء هذه الإخفاقات نوعياً بالإدارة المالية.

إن كل المنظمات لابد أن يُنظَر إليها باعتبارها مشروعة، وهي قادرة على خلق هذا التصور من خلال أداء الوظيفة التي خلقت لها فعليا، وهو أمر صعب، ولكن بدلاً من ذلك، يمكنها أن تستعير من العالم الطبيعي استراتيجية تسمى المحاكاة التماثلية: فتماماً كما تتطور الثعابين غير السامة لكي تشبه أنواعاً سامة، تستطيع المنظمات أن تجعل نفسها تبدو أشبه بمؤسسات في أماكن أخرى ينظر إليها على أنها شرعية.

وهذا هو ما تنتهي أجندة مكافحة الفساد إلى تحفيزه غالبا: إنشاء منظمات مهووسة بالالتزام بالعملية الجديدة المرهقة أكثر من هوسها بتحقيق أهدافها المعلنة، وكما يزعم لانت بريتشيت، ومايكل وودلوك من جامعة هارفارد، فعندما تتبنى المنظمات التي تفتقر إلى الكفاءة «أفضل الممارسات»، مثل أنظمة الإدارة المالية وقواعد المشتريات، فإنها تصبح مشتتة الفِكر ببروتوكولات مشوِّهة للقرارات إلى الحد الذي يمنعها من القيام بالوظيفة التي أنشئت من أجلها.

وكما أشار فرانسيس فوكوياما، فإن تطور الدولة المقتدرة المسؤولة التي يحكمها القانون يُعَد واحداً من أبرز إنجازات الحضارة الإنسانية، فهو ينطوي على خلق شعور مشترك بالضمير الجمعي، أو المجتمع المتخيل الذي تتصرف الدولة بالنيابة عنه.

وهي ليست بالمهمة السهلة عندما تكون المجتمعات شديدة الانقسام على أساس عِرقي، أو ديني، أو اجتماعي، فلمصلحة من تعمل الدولة على أي حال؟ كل العراقيين أم الشيعة فقط من بينهم؟ كل أهل كينيا أم المنتمون منهم فقط إلى مجموعة كيكويو القَبَلية؟ وما الذي قد يمنع المجموعة العِرقية القائمة على السلطة حالياً من تحويل الموارد إلى نفسها بحجة: «هذا دورنا لتناول الطعام»؟ ولماذا لا يسعى من يسيطرون على الدولة حالياً إلى تحويلها إلى إرث لهم، كما هي الحال في فنزويلا، حيث بعد مرور أكثر من عامين على وفاة الرئيس السابق هوغو تشافيز، لا تزال بناته يحتللن المقر الرئاسي؟

الواقع أننا نحتشد جميعاً حول فكرة مكافحة الفساد لأننا نريد أن نتخلص من الشر والظلم، ولكن ينبغي لنا أن نتذكر أن إلقاء الشر إلى البحر لا يعني الظهور المفاجئ للخير الذي نحتاج إليه على شواطئنا.

ريكاردو هوسمان | Ricardo Hausmann

* مدير مركز التنمية الدولية، وأستاذ ممارسات التنمية الاقتصادية في كلية جون كينيدي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، ووزير التخطيط في فنزويلا سابقا.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»