في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

Ad

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

طرابلس مدينة الفينيقيين الذين خاضوا عبب البحار، ووصلت مراكبهم إلى أقصى ما يمكن للتاجر أن يصل له في العالم القديم، رأينا أن نزورها في حقبة سابقة من حقبها التاريخية، لنرصد تزاوج الدين والحضارة، ونختزل منه صورة لجذور الواقع الحالي.  

طرابلس القديمة والجديدة

يقال إن طرابلس القديمة أسسها الفينيقيون قبل ثلاثة آلاف سنة، حيث كانت إحدى المدن التجارية النشطة في العالم القديم، وكانت مفتوحة جغرافيا كحالة تتصف بها كل المدن التجارية القديمة، لكن هذا النوع من المدن عامة وطرابلس خاصة غالبا ما يتعرض للأخطار والاعتداءات الخارجية، ودائما ما تكون دفاعاتها هشة بسبب الجغرافيا ووقوعها على البحر كميناء تجاري ومرسى للسفن.

كما أن لطبائع السكان أثرا في ضعف الدفاعات البشرية، حيث كانت ثقافتهم ونمط حياتهم تجاريا بحتا، وبعيدة عن الخبرات والمهارات والتربية العسكرية، وقد انتبه المماليك الى هذه الناحية فقاموا بتأسيس مدينة طرابلس الجديدة في موقعها الحالي سنة 1289م، بعد أن توقعوا إمكانية تعرض المدينة القديمة لهجمات واعتداءات الصليبيين الذين ظهرت أطماعهم بقوة باتجاه الشرق العربي في فلسطين ولبنان وبقية البلدان الشامية.

وقد نقلوها لأكثر من 3 كيلومترات إلى الداخل بجوار النهر وتحت السفح مباشرة، لتكون أكثر تحصينا ويمكن الدفاع عنها، ثم توسعت بعد ذلك ليمر النهر في وسطها فأصبحت تشبه صقلية قبل أن يتجاوز البناء أجزاء من ريفها، ويتشوه شكلها بعض الشيء، وقد كان تخطيطها الهندسي متقدما في تلك الفترة فأقيمت الباحات والساحات بشكل مدروس ومتقن.

كما تم إنشاء الأسواق الهامة، لاسيما الغذائية والكسوية منها في وسط المدينة، بينما تم إنشاء الأسواق المزعجة في أطرافها، فكانت محلات سوق النحاسين القديم المتجاورة قد وضعت بجانب القلعة، لما تحدثه من أصوات مزعجة، كما أنشئ سوق الدباغين بجوار النهر، بسبب روائح السوق الكريهة وحاجة محلات الدباغة للماء باستمرار.

سيران رمضان

تعود الطرابلسيون على ان يختاروا يوما من أيام شهر شعبان الأخيرة يتناسب مع ظروفهم، فيخرجوا في نزهة أخيرة ليختموا بها ما كان يعرف بالنزهات النهارية، وكان خروجهم مجاميع من الأسر، جيرانا أو أقارب أو أصدقاء.

وعرفت طرابلس القديمة وخصوصا أطرافها بالبساتين والانهار والبرك والاودية، حيث يأخذ بعض الأهالي الأطعمة والمشاريب وبعض الأخشاب والفحم والأركيلة وأدوات اللعب، مثل ورق الشدة والدومينو والبرجس، أما البعض فيأخذ الطبلة او الدربكة، كما يسميها الطرابلسيون، ويمارسون رقصة الدبكة جماعيا، بعد ان يلتحق بهم بعض المتواجدين في تلك المتنزهات.

ولعل أشهر الأماكن التي تعود الطرابلسيون على الذهاب اليها في سيران رمضان قديما مرتفع أبي سمرا، المعروف بأشجار الزيتون والشلفة المطلة على النهر، حيث لم يكن العمران قد وصلها في فترة الاربعينيات من القرن الماضي وما سبقه، كذلك المنطقة الواقعة جنوب طرابلس على وادي الخناق وصدر الباز عند رأس النهر أو على جانبي سكة القطار القديمة في بساتين السقي.

ومن الأماكن ايضا بركة الماء المجاورة لضريح البشناتية في محلة النصارى، وربما اختار بعض الطرابلسيين الأماكن الأبعد، مثل بركة السمك في البداوي، او أبي حلقة بالقرب من العين الفوارة، حيث كانت هذه الأماكن بعيدة في تلك الفترة قبل ان يزحف البنيان باتجاهها.

وعادة ما كان سيران رمضان يتم في يوم عطلة، لذا ربما خلت طرابلس من أهلها في ذلك اليوم، ولم يبق في المنازل إلا العجائز وعدد قليل من الأهالي غير الراغبين في الخروج.

الاستهلال قديماً

وكانت ليلة التاسع والعشرين من شعبان مشهودة، حيث يخرج الناس منذ غروب الشمس جماعات الى تلة الزعبية، بالقرب من القلعة، للاستهلال، فإذا ثبتت الرؤية توجه من رأى الهلال الى دار المفتي الطرابلسي ليشهد عنده، وعندما يطمئن المفتي الى ثبوت هلال رمضان يأمر المدفعجي بإطلاق سبع طلقات إعلانا بأن غرة الشهر ستكون غدا.

وكانت فرق الإنشاد تجوب حواري طرابلس وأحياءها في الفترة الماضية بعد صلاة العشاء، تقدم الأناشيد والتواشيح والمدائح احتفالا بقدوم الشهر المبارك، وهم في الغالب من أصحاب الطرق الصوفية التي كانت منتشرة في طرابلس قبل فترة الخمسينيات من القرن العشرين، كما يقوم بعض أصحاب المحال والتجار والوجهاء بتوزيع العصير على المارة، خاصة عند بركتي الصاغة والملاحة مجانا ابتهاجا بالشهر.

أسواق طرابلس

وتوزعت الأسواق الطرابلسية منذ التأسيس الجديد في مختلف أحياء طرابلس، وتعود الطرابلسيون ان يقصدوها بأعداد كبيرة في شهري شعبان ورمضان، فكانت المحال والممرات تمتلئ بالمتسوقين والمارة أيضا.

ولعل اشهر الأسواق التي كان يرتادها الطرابلسيون سوق العطارين الذي كانت محاله متخصصة في التوابل والبهارات والحبوب والأدوية الشعبية والاعشاب والمشاريب، وكان ذا ممر ضيق يمتلئ بالناس والروائح المنبعثة من الاواني، وكانت غالبية زبائن هذا السوق من النساء.

أما سوق القمح فمتخصص ببيع القمح والرز والسكر والشاي والعدس ومختلف الحبوب الأخرى، وتخصص سوق الملاحة في بيع الملح والخمريات، وسوق البازركان في الملابس، وكان السوق الوحيد المسقوف في طرابلس.

ويحاكي سوق البازركان البيروتي، وسوق المحارجة، وهو مختص ببيع البضائع بطريق الحراج والمناداة على البضائع وبيعها بالجملة، وسوق الخضار ويختص ببيع الخضار والفواكه ويرتاده الطرابلسيون في رمضان يوميا للحصول على الخضار والفواكه طازجة.

وربما كان سوق السويقة أقدم أسواق طرابلس قاطبة، حيث أسسه افندم الكرجي بعد بناء المدينة بأشهر، والسويقة تصغير سوق، إذ كانت محلاته عند التأسيس لا تتجاوز الأربعة، وبقي السوق مشهورا حتى بداية الخمسينيات، حيث تراجعت أهميته بعد انتشار الأسواق الحديثة.

وكانت السويقة السوق الوحيد غير المتخصص الذي يعرض البضائع المتنوعة في الماضي، وهو أهم الأسواق الطرابلسية القديمة التي يؤمها الناس في رمضان، حيث يمكنهم شراء معظم ما يحتاجونه من سوق واحد.

تكية المولوي

وهي واحدة من الأماكن التي كان يقصدها بعض الطرابلسيين في رمضان قديما، والتكية واحدة من مجموعة قليلة من التكايا المولوية الموجودة خارج تركيا، وهي تكية صوفية مشهورة تتبع الطريقة التي أسسها المولوي جلال الدين الرومي، وهو متصوف فارسي هاجر الى قونيا التركية وأسس طريقته هناك وحين توفي دفن بها وأصبحت له تكية واتباع ومريدون.

وتكية المولوي بطرابلس من أوائل التكايا التي أسست خارج تركيا، ولها اتباع من مختلف انحاء لبنان، وكان الطرابلسيون ومازالوا يقصدونها، فيحضروا حلقات الانشاد التي كانت تقام بين صلاتي المغرب والعشاء.

أما في رمضان فإن فرقها تنشط بعد التراويح وتواصل إنشادها حتى منتصف الليل، وكانت السماخانة، وهي صالة الحفلات في التكية، تمتلئ بالحضور تماما في رمضان، وكانت لها العديد من الأوقاف التابعة التي تستخدم عوائدها في الصرف على التكية والعاملين بها، ومنها بساتين الليمون والطاحونة التي اشتهرت بطاحونة المولوي.

المدفع والمسحراتي

يعتبر مدفع رمضان في طرابلس من أقدم المدافع في لبنان، حيث حظيت برعاية خاصة من السلطات العثمانية، وتم نصب المدفع لأول مرة في القلعة الشهيرة، فبقي بها حتى أوقف العمل به في سبعينيات القرن الماضي، وكان يطلق سبع طلقات عند ثبوت رؤية هلال رمضان، ومثلها عند ثبوت هلال شهر شوال.

أما في الفطور فكان يطلق طلقة واحدة يوميا، وكانت حشوته من البارود الملفوف بالكتان، كما كانت الطلقة تحدث دويا هائلا يسمعه كل سكان المدينة، لأن موقع القلعة يشرف على المدينة.

اما المسحراتي فكان من معالم رمضان وذكرياتها، إذ كان لكل حي رجل متخصص في مهمة إيقاظ الأهالي من نومهم للسحور، وكان يدور بين أزقة الحي يحمل طبلته، وفي معظم الأحيان كان يضرب على أبواب الأهالي ويناديهم بأسمائهم ليستيقضوا.

واشتهرت بعض العائلات الطرابلسية بانتماء بعض المسحراتية اليها، ومن هذه الاسر القدوسي واللوزي والغندور والبيروتي والزاهد، ومعظم المسحراتية كانوا من أهل الحي، ويعرفون البيوت وأهلها جيدا لذا فإنهم يضربون على أبواب المنازل وينادون بأسماء أهلها اذا لاحظوا انهم لم يشعلوا فوانيسهم.

المائدة الطرابلسية

عرفت المائدة الطرابلسية بتميزها وتنوعها، واشتهرت العديد من أنواع الأطعمة الشامية التي كان اصلها طرابلسيا، فكان الصائم يبدأ طعامه بتناول حبات من التمر وشرب الحساء او شوربة العدس، ثم تتنوع الاطباق وتتعدد.

ولعل اشهر الاطباق الطرابلسية في رمضان الفتة، وهي خليط من اللبن والطحينة والحامض والثوم والصنوبر المحمص والبصل والفجل والكبيس المشكل، وتصنعه بعض الطرابلسيات بأنفسهن او يشترينه من باب الحديد، حيث تكثر البسطات التي تبيعه في الماضي، والفتوش وتصنعه ربة البيت من الخضار، وتضيف إليه زيت الزيتون ودبس الرمان، والكسكس او المغربية، وهو طبق لذيذ ومشهور في لبنان ومصر والمغرب واصله مغربي.

اما المخلل، الذي لا يغيب عن المائدة الرمضانية في طرابلس، فغالبا ما يشتريه الأهالي من سوقي العطارين والقمح، حيث تكثر محال المخلل فيهما، وتتعدد المشاريب الرمضانية التي تباع في البسطات الرمضانية عصر كل يوم من أيام رمضان، وغالبا ما يشتري الأهالي العصائر من البسطات القديمة على العكس من ارياف المدينة التي تعود غالبية أهلها على صناعة العصائر بأنفسهم.

واشهر المشاريب الطرابلسية في الماضي التوت والسوس والقمر دين والخرنوب والليمون والتفاح، كما كانت الحلويات الطرابلسية اللذيذة تباع ببسطات مجاورة لبسطات العصائر، وتنتشر في الساحات، وأشهرها الكنافة وورد الشام والكلاج وزنود الست والمهلبية والبرازق.

الزوار في رمضان

اشتهرت طرابلس في الماضي بحفظة القرآن ومقرئيه، وكان جامع المنصوري الكبير ملتقى القراء في رمضان، فكان الجامع وساحته يغصان بالحضور الذين قدموا في ليل رمضان لسماع تجويد القرآن الذي تعود الجامع ان يقيمه طوال ليالي رمضان منذ فترة بعيدة.

ومن القراء الطرابلسيين المشاهير في أواخر القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين، نديم الجسر وعلي شيخ العرب وعبدالغني الرافعي وعلي الميقاتي وعبدالرزاق الرافعي ورشيد الميقاتي وحسين الجسر ووالده محمد الجسر وعبدالفتاح الزعبي ومحمد القاونجي ونصوح البارودي وصلاح الدين كبارة.

وكان يزور المدينة بعض القراء العرب المشاهير في تلك الفترة، خاصة من الشام ومصر، وأشهر من زارها وقرأ القرآن في جامع المنصوري الشيخ محمد جواد القاياتي، والقارئ الشهير محمد رفعت، والشيخ مصطفى إسماعيل الذي زار طرابلس في أواسط الخمسينيات بدعوة من دار الإفتاء الطرابلسية، فقرأ القرآن في رمضان، وكانت ليالي القراءة مشهودة، وبلغ الحضور فيها فوق العشرة آلاف مستمع جاؤوا من طرابلس ومن خارجها لسماع تجويد الشيخ المشهور.

عادات رمضانية

وكان للطرابلسيين عادات جميلة في الماضي، إذ تعودوا على تبادل التهاني بالشهر الكريم، إذ يقوم أهالي الحي بزيارة منازل الوجهاء وكبار السن ورجال الدين ليباركوا لهم الشهر، كما عرف الأهالي بالسكبة، وهي سكب بعض الأطعمة وتوزيعها على الجيران، فتجد الاحياء والازقة وقد امتلأت بالصغار والنساء الذين يطرقون الأبواب ويوزعون السكبة على الجيران قبل الفطور بقليل.

ويتم التوزيع رحمة عن موتاهم، ولا تعود الاواني فارغة، بل يملأها الآخرون بسكبة ويرسلونها لأهلها، ما يضيف تنوعا على المائدة الرمضانية ويعزز أواصر المحبة وحسن الجوار بسبب هذه العادة الجميلة.

ومن العادات الطرابلسية القديمة ان بعض الأهالي، خصوصا الأغنياء والميسورين، يقومون بتوزيع صحون المهلبية على المارة، خاصة امام الجوامع والتكايا، وكانت طرابلس في الماضي تشتهر بمساجدها الكثيرة، كما كان فيها ما يزيد على عشرين تكية وزاوية صوفية.

كما عرفت المدينة بعادة التوديع، وهي قيام جوق المنشدين والمداحين بجولات في الساحات والأزقة ودهاليز الاحياء في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك مرددين مدائحهم وأناشيدهم وقصائد توديع رمضان.

ويتقدم الجوقة بعض الأهالي الذين يحملون الفوانيس، ويسير خلفهم حاملو الدفوف والايقاعات، ومعظم أعضاء الجوقة كانوا من أتباع الطرق والصوفية الذين تعودوا على مثل هذه المدائح، كما ان معظم من يرافق الجوق ويردد معهم الأناشيد او يسير خلفهم للاستماع والاستمتاع هم اتباع هذه الطرق والتكايا او المعجبون بالإنشاد.

*كاتب وباحث كويتي