العبقرية ظاهرة استثنائية ويمكن إيجاد شخص عبقري واحد من كل مئة مليون! العالِم هو شخص اكتسب معارف كثيرة. أما العبقري، فهو شخص يجب أن تتعلم منه البشرية أمراً لم تكن تعرفه سابقاً. لا يكون هذا الشخص لامعاً وحذقاً ومبهراً فحسب، بل يكون حضوره غير متوقع ولا يمكن أن تفسره قوانين الطبيعة أو الأبحاث العلمية. تتعدد تعاريف {العبقرية} وربما تتفوق على عدد العباقرة الحقيقيين في العالم، لكنّ أفضل تعريف هو التالي: العبقري، سواء كان ناشطاً في مجالات الفكر أو الفن أو العلوم أو السياسة، يغير مشاعرنا أو نظرتنا أو طريقة تفكيرنا بالعالم!

لا بد من طرح سؤال وجودي في المقام الأول: هل العبقري موجود فعلاً؟ هل يمكن أن ننفي وجود العبقرية من الأساس؟ يعتبر نيتشه أن هذه القناعة غير المنطقية بوجود العبقرية تسيء إلى كل من يظن أنه عبقري. بحسب رأيه، يُعتبر نابوليون خير مثال على ذلك، فقد قادته هذه القناعة في النهاية إلى شكل من الحتمية غير المنطقية وجرّدته من سرعته وذكائه وكانت السبب في القضاء عليه. لكنّ هذا الوضع لم يمنع المحيطين به من وضعه في مصاف العباقرة.

Ad

لكن يجب التمييز بين العبقرية والموهبة: الشخص الموهوب يحقق هدفاً لم يبلغه سواه. أما العبقري فهو يبلغ هدفاً لا يستطيع أحد تصوره. لا يمكن أن يتنافس هذان الشخصان، لكن لا يستطيع العبقري التخلي عن الموهبة. قد تتراجع قيمة الشخص الموهوب إذا لم يكن عبقرياً، لكن لا قيمة للعبقري إذا لم يكن موهوباً! كان شكسبير مثلاً عبقرياً طوال أيام حياته! لكن يصعب تصنيف العباقرة وقد تتفاوت درجة عبقريتهم في مختلف المجالات.

موهبة الترويج الذاتي

ثمة جدل واسع حول أسماء شهيرة مثل كارل ماركس وسيغموند فرويد، إذ يضعهما الكثيرون اليوم في مصاف {العباقرة المزيفين} في العالم الفكري. لا شك أن كتاباتهما جعلت البشر ينظرون إلى العالم بطريقة مختلفة، لكننا نعلم الآن أنهما حققا ذلك بطريقة شائبة. اليوم، ما عاد أحد يؤمن بصراع الطبقات أو بعقدة أوديب.

إذا كنت تظن أنك عبقري، فلست كذلك على الأرجح! كان معظم الناس يعتبرون ألبرت أينشتاين آخر عبقري في الزمن المعاصر، ويمكن أن يضيف المهتمون بعالم الفلسفة اسم لودفيغ فيتغنشتاين. كان هذان المرشحان لحمل صفة {العبقرية} يتسمان أيضاً بغرابة الأطوار، وتتماشى هذه الصورة مع الرؤية المعاصرة لشخصية العبقري. في الماضي، لم يكن الشخص العبقري يُعتبر غريب الأطوار بل إنه كان غير اعتيادي أو مجنوناً! اتسمت آخر سنوات من حياة نيتشه بالجنون وهذا ما عزز مكانته كعبقري. كان سقراط أول عبقري معروف وقد بدا استثنائياً على مستويات عدة. لقد كان قبيحاً جداً ويتمتع بقدرة مبهرة على التركيز ولم يكن يهتم بمراتب الشرف أو المال أو الراحة المادية، وقد جازف بحياته في ساحات المعارك وأمضى أيامه وهو يقول إنه لا يعرف شيئاً، لكنه كان يؤكد في الوقت نفسه على أن معارف كل من يكلمهم تبقى أقل من معارفه. ثم رضخ لحكم {جمعية أثينا} التي اعتبرته عدو الدولة.

أما أينشتاين، فقد كان يتجول في الشوارع بلا جوارب وهو يرتدي قميصاً داخلياً وكان شعره أشعث وشاربه مبعثراً. كان فيتغنشتاين من جهته وريث عائلة ثرية من فيينا وقد تخلى عن ثروته الطائلة وعاقب نفسه وراح يعلّم الأولاد في النمسا. هو كان يهودياً ومثلياً وعصبياً وقد شكّل نموذجاً مثالياً عن مفهوم العبقرية بمعناه التقليدي: فهو كان شغوفاً وعميقاً وقوياً ومتسلطاً!

تناول دارن ماكماهون موضوع العبقرية بمفهومها التقليدي وقد كان كتابه غنياً وعميقاً وممتعاً في آن. طرح ماكماهون ما سماه {تاريخ الأفكار}، وهو يعني به {التاريخ الفكري على المدى الطويل لتحليل المفاهيم في سياقات متعددة مع مرور الزمن}. من خلال إعادة رسم تاريخ العبقرية منذ العصور القديمة، قام بتفسير {الرابط الوثيق بين العبقرية والمقدسات}، وهو موضوع لم يستكشفه محللون كثيرون. هو يطرح بعض المواصفات الخاصة بشخصيات عبقرية ويثبت أن هذه الشخصيات لم تكن منفصلة يوماً عن مفهوم الألوهية. ثم يذكّرنا إلى أي حد يقع مفهوم العبقرية في صلب النظرة التي حملها الناس عن العالم في مختلف العصور.

نقص في روح العبقرية

لم يتكلم سقراط يوماً عن عبقريته، لكنه كان يتحدث عن روح تسكنه وتخبره بما لا يجب فعله. بالنسبة إلى الإغريق القدامى، لا يفترض أن يكون المفكرون والفنانون قادرين على الاكتشاف أو الابتكار، بل تقضي مهمهتم بكل بساطة بالكشف عن ما هو موجود أصلاً. ولا شك أن عبقريتهم هي التي تحقق تلك الاكتشافات. لا أحد {عبقري} لكن تتمتع بعض الشخصيات المتميزة بعبقرية معينة وهي تتخذ لديهم شكل روح تتولى حمايتهم وتوجيههم، ما يعني أن هذه النزعة قد تكون جيدة أو سيئة. يولد الإنسان مع هذه السمة أو من دونها، لكن يستحيل اكتسابها على مر الحياة. هذه الروح لا تسكن إلا النفوس التي تكون معدّة للقيام بأفعال استثنائية.

لا يعبّر ماكماهون عن هذه الفكرة صراحةً، لكن تتضح العبقرية بشكل عام في المجالات الطاغية داخل الثقافات في لحظة معينة. في العالم الإغريقي، كان الفن والفلسفة أساس كل شيء. وكان المجتمع الروماني مبنياً على الشجاعة العسكرية والمهارات الإدارية، لكنّ الشخصين الرومانيين الوحيدين اللذين يستحقان صفة {العبقرية} هما يوليوس قيصر والإمبراطور أغسطس. في العصور الوسطى، كانت الأمجاد تقوم على التفاني والتقوى مع التركيز على الزهد والتضحية بالذات، وكانت روح العبقرية التي تسكن نفوس الرجال والنساء أشبه بصوت ملاك داخلي. في عصر النهضة، كانت الفنون (ولا سيما الفنون البصرية مثل الرسم والنحت والهندسة المعمارية) هي التي تقود اللعبة. وفي الحقبة المعاصرة التي تبدأ من القرن الثامن عشر، تفوّق العلماء على غيرهم. وفي عصرنا الراهن، لا يزال مجال العبقرية يحتاج إلى تعريف واضح. لكن لا تحصل الأبحاث العلمية فردياً بل جماعياً. هذا ما يفسر نقص العبقريات المعروفة عالمياً. في ما يخص ملوك التسويق في الحقبة الرقمية، أي بيل غيتس وستيف جوبز، فلا داعي لترشيح اسمَيهما أصلاً!

يذكّرنا دارن ماكماهون بأن شكسبير لم يحمل لقب {العبقري} قبل القرن الثامن عشر. في المخيلة الجماعية، تعني هذه الميزة ألا نصنع نفسنا بناءً على ما لدينا بل أن نحقق ذاتنا ونصبح ما نحن عليه. يطرح جون لوك وتوماس هوبز فرضية أكثر تطرفاً، فهما يعتبران أننا لا نولد عباقرة بل نصبح كذلك. يميز بعض العلماء بين العباقرة الطبيعيين مثل هوميروس وشكسبير، والعباقرة {المقلدين} مثل أرسطو وجون ميلتون.

{جمهورية العبقرية}

في مرحلة معينة، تم تخصيص كل شيء للأفكار الليبرالية. بحسب هذه الفرضية، يكفي تفعيل الحق في التعليم كي تصبح قوانين المجتمع في متناول الجميع. كتب ماكماهون أن تحسين الظروف الاجتماعية وتسهيل الحصول على التعليم وزيادة الفرص البشرية يعني تجاوز حدود {جمهورية العبقرية} من خلال تحفيز قدرات جميع الناس. في تلك الحقبة، كان نشوء العبقرية يتطلب إيجاد مكان مناسب في الوقت المناسب. وكان الغموض الذي يلف شخصية الفرد الاستثنائي قد بدأ يزول.

كان مفهوم العبقرية في صلب الثورة الفرنسية. بالنسبة إلى الثوار، اعتُبر فولتير وماريبو وروسو استثنائيين. ثم اعتُبر نابوليون لاحقاً ابن الثورة العبقري. ابتكر هيغل مفهوم {الفرد التاريخي} الذي يناسب نابوليون بشكل مثالي.

يفضل الكتّاب الرومانسيون أن يكون العباقرة جريئين مثل اللورد بايرون، وصوفيين مثل ويليام بلايك، ومأساويين مثل جون كيتز. بالنسبة إليهم، كانت هذه الشخصيات البطولية تتمتع بنعمة الكشف عن كل ما هو خفي لكنها تواجدت في الحقبة الخاطئة. يُعتبر الشاعر خير مثال على ذلك: هو {مشرّع لا يعرفه العالم وهو نبي لديه رؤية وقدرة على كشف المستور}. يضع الكتّاب الرومانسيون العبقرية فوق القانون.

تبنى الألمان هذه الرؤية وأعطوا طابعاً مقدساً للعبقرية، فنصّب هذا الشعب عباقرته من أمثال غوته وشيلر وهيغل وفاغنر ونيتشه... يتعدد المرشحون لحمل هذا اللقب.

تحسين المجتمع

اعتُبر معدل الذكاء فطرياً وجزءاً من المعطيات الوراثية. ظن البعض أن استعمال النتائج المحققة بالطريقة الصحيحة يسمح بتحسين المجتمع من خلال اختيار الأطفال الأكثر ذكاءً وتحفيز مواهبهم قبل الاستفادة منها. اختار العالِم لويس تيرمان في إحدى دراساته ألف طفل يبلغ معدلهم 140 (إنه مستوى العبقري المحتمل) أو أكثر وتابع مراقبتهم طوال حياتهم. لم يقم أي واحد منهم بأي عمل خارق، لكن تلقى شابان خضعا للاختبار ولم يسجلا معدل 140 جائزة نوبل في مرحلة لاحقة.

يخبر ماكماهون في مقدمة كتابه أنه سمع منذ مرحلة مبكرة من حياته أنّ نتائجه لا تشير إلى أنه {موهوب على نحو خاص}. بحسب رأيه، تتعدد الدلالات على أن الثقة المفرطة في القدرات الذاتية قد تنعكس سلباً على نمو الطفل وتكبح حوافزه وحس المبادرة لديه. كذلك، يرتفع عدد المؤشرات التي تثبت الأضرار التي تصيب الأولاد إذا سمعوا أن مجموعة من الأرقام تشير إلى أنهم ليسوا بالمستوى المطلوب. يعترف ماكماهون بأنه لم يخضع يوماً لاختبار معدل الذكاء وهو يظن أنه ما كان ليحقق شيئاً في حياته لو أنه خضع له!

يتخذ الذكاء أشكالاً متعددة. هاورد غاردنر هو خبير في مجال التطور في جامعة هارفارد ويُعتبر اليوم أفضل اختصاصي في هذا المجال. هو حدد سبعة أشكال على الأقل من الذكاء: {الشفهي/اللغوي، البصري/المكاني، المنطقي/الرياضي، الموسيقي/الإيقاعي، الجسدي/الحركي، وأخيراً الذكاء المرتبط بالعلاقات الشخصية والذكاء المرتبط بالتفاعل بين الناس}. لكنه عاد وأضاف شكلاً ثامناً: إنه الذكاء الطبيعي وهو يشير إلى الأشخاص الموهوبين الذين يميلون إلى تأمل الطبيعة. لكن لا يمكن أن يتمتع شخصان بنوع الذكاء نفسه أو يحملا خليطاً مشابهاً من المواهب.

تبقى العبقرية الشكل الأكثر غموضاً من الذكاء. لم تنجح أي دراسة علمية بعد في إثبات وجود العباقرة أو تفسير قدراتهم الخارقة. لا يزال الذكاء العبقري بحاجة إلى الاستكشاف حتى الآن. لا نعلم الكثير عن المعطيات الوراثية والعصبية والبيولوجية لدى الأفراد المبدعين: لا نعرف إذا كانوا يتمتعون بتركيبة وراثية خاصة أو إذا كانت وظيفة جهازهم العصبي مميزة.

في النهاية يمكن اعتبار العبقري شخصاً لديه طريقة تفكير مميزة وقدرة على رؤية الأمور من زاوية مختلفة. هو يتمتع بالشجاعة والقوة والقدرة على نسف الأفكار الموروثة. نحن ندين للعباقرة بالتطور الكبير الذي شهدته البشرية، على أمل أن تظهر دفعة جديدة منهم...

الجانب الوراثي منه

يقوم الأستاذ روبرت بلومين المعروف عالمياً في مجال علم الوراثة السلوكي بدراسة الجينات، لكنه لا يستعمل المجهر بل يحلل المجموعات السكانية وسلوك الناس. اختار بلومين بعض الخصائص المثيرة للاهتمام والقابلة للقياس مثل الوزن والطول والذكاء وبدأ يراقب آلاف الأولاد. ثم راح يدرس نطاق النتائج والاختلافات التي رصدتها وحاول احتساب درجة المسؤولية التي تتحملها الطبيعة والبيئة تجاه هذه المعايير كلها. لماذا يختلف الناس عن بعضهم؟ هو يحاول إيجاد الجواب على هذا السؤال تحديداً.

من الواضح أن التوائم تشكّل نموذجاً مفيداً في هذا النوع من الدراسات، ولا سيما التوائم المتطابقة لأنها تحمل الحمض النووي نفسه. وجّه بلومين الدراسة كي تركز على تطور جميع التوائم الذين وُلدوا في إنكلترا وويلز بين عامي 1994 و1996. أثبتت دراسته أن مسؤولية الطبيعة تبدو أهم مما يظن الجميع، وتحديداً على مستوى معدل الذكاء المثير للجدل. تتفاعل الجينات والعوامل البيئية بطريقة معقدة لكن يبقى معدل الذكاء موروثاً بدرجة كبيرة. يرتفع احتمال أن ينجب الأبوان الذكيان أبناءً أذكياء ولا يمكن فعل الكثير بعد الولادة لتحفيز معدل ذكاء الطفل على المدى الطويل.