يُستعمل أكسيد النيتروجين الثنائي المعروف بـ{غاز الضحك} في مجال التخدير منذ القرن التاسع عشر، لكن لم يفهم العلماء يوماً طريقة عمله لإنتاج حالات متغيرة. في دراسة نُشرت في مجلة {الفيزيولوجيا العصبية العيادية}، كشف باحثون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عن بعض التغيرات البارزة في الموجات الدماغية لدى المرضى الذين يتلقون هذه المادة. بعد ثلاث دقائق تقريباً على إعطاء أكسيد النيتروجين الثنائي بجرعات مخدّرة، أشارت تسجيلات التخطيط الكهربائي للدماغ إلى ظهور موجات "دلتا} قوية وبطيئة ضمن نمط بارز من دفعات كهربائية تجتاح الجزء الأمامي من الدماغ ببطء، مرة كل عشر ثوانٍ.إنها الوتيرة المسجلة خلال أعمق مراحل النوم، لكن كانت الموجات التي أنتجها أكسيد النيتروجين الثنائي كبيرة بقدر تلك التي تُسجَّل خلال النوم (وأقوى منها على ما يبدو). يقول إيمري براون، أستاذ في الهندسة الطبية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وطبيب تخدير في مستشفى ماساتشوستس العام: "شاهدناها بكل وضوح واندهشنا لأنها نتيجة غير متوقعة بأي شكل. يسيطر أكسيد النيتروجين الثنائي على الدماغ بطريقة لا يفعلها أي دواء آخر}.انضم إلى فريق البحث كلٌّ من كارا بافون، وأولواسون أكيجو، وآرون سامبسون، وكيلي لينغ، وباتريك بوردون، وهم يعملون جميعاً في مستشفى ماساتشوستس العام.حصل الاكتشاف بعدما بدأ براون يسجل نتائج التخطيط الكهربائي لأدمغة مرضاه الذين تلقوا أدوية التخدير، اعتباراً من عام 2012. وُضعت رقعة لاصقة متصلة بستة أقطاب كهربائية على الجبين لقياس التقلبات الكهربائية الناجمة عن الأثر الجماعي للخلايا العصبية التي تتواصل في الدماغ. تُنقَل هذه الإشارات التي يرصدها التخطيط الكهربائي إلى حاسوب يتولى تسجيلها ويعرض بيانات على شكل موجات على الشاشة الموجودة في غرفة العمليات. إنها تقنية آمنة ولا تتطلب إحداث أي شقوق.حين يشرح أطباء العائلة مفهوم التخدير، يقولون أحياناً إنه يعني "جعل المريض ينام} فيستعملون بذلك أقرب مقارنة تجريبية يمكن أن يفهمها الناس. لكنّ النوم لا يشبه التخدير بأي شكل: النوم حالة فيزيولوجية طبيعية تترافق مع تراجع النشاط الدماغي، ويتنقل الدماغ خلالها طبيعياً بين مرحلة حركة العين السريعة وحركة العين غير السريعة، كل 90 دقيقة تقريباً. لكن يمكن أن يستيقظ الشخص بسهولة من أعمق مراحل النوم.أما التخدير، فينجم عن أثر الأدوية وهو أشبه بغيبوبة يمكن عكسها، فيفقد المريض خلالها الوعي ويعجز عن التذكر ولا يشعر بالألم ولا يتحرك، لكن تبقى حالته مستقرة من الناحية الفيزيولوجية. تستمر حالة الغيبوبة طالما يستمر تدفق الأدوية، ثم يستيقظ المرضى وهم يشعرون بأن الزمن توقف.بشكل عام، يُعطى أكسيد النيتروجين الثنائي في نهاية الجراحة لإبقاء المريض فاقد الوعي فيما تخرج الأدوية المخدّرة السائلة والقوية من جسمه، أو يُعطى مع مواد مخدرة أخرى طوال مدة الجراحة لتخفيف الجرعات النهائية.التخطيط الكهربائييقول براون إن أطباء التخدير يجب أن يستعملوا التخطيط الكهربائي للدماغ لمراقبة دماغ المريض الذي يكون تحت التخدير، ما يسمح لهم بتحسين قراراتهم بشأن جرعة التخدير وتقليص المخاوف بشأن استعادة الوعي رغم التخدير: "يصعب تخيل هذا المشهد في عام 2015}.بحسب توقعاته، عند التمكن من إبقاء الموجات البطيئة والقوية التي ينتجها أكسيد النيتروجين الثنائي بوضع مستقر (بدل أن تختفي خلال دقائق)، يمكن استعمال أكسيد النيتروجين الثنائي كمادة تخدير قوية يسهل التعافي منها.لم يتضح بعد ما يجعل هذه الموجات الكبيرة والبطيئة تستمر لثلاث دقائق فقط رغم استمرار ضخ أكسيد النيتروجين الثنائي. يتوقع براون حصول نوع من الاعتياد السريع على المادة المخدّرة أو عدم التأثر بها.يفترض أن أكسيد النيتروجين الثنائي قد يعيق الإشارات الآتية من جذع الدماغ والمسؤولة عن تعزيز حالة اليقظة. حين لا يحتك بعض المستقبلات في المهاد والقشرة الدماغية بأكسيد النيتروجين الثنائي، تتلقى هذه المناطق الدماغية في العادة إشارات تحفيزية من مراكز النشاط السفلية في الدماغ. من دون تلك الإشارات، يفقد الفرد وعيه وتتباطأ موجاته الدماغية. يضيف براون: "إذا شاهدنا ذبذبات بطيئة في التخطيط الكهربائي للدماغ، من الطبيعي أن نستنتج حدوث أمر معين في جذع الدماغ}.يقول خبير علم الأحياء العصبي ديفيد ليلي من جامعة سوينبرن للتكنولوجيا في أستراليا (لم يشارك في البحث): "تبين سابقاً أن أكسيد النيتروجين الثنائي يؤثر على تلك الذبذبات الخفيفة، لكنه يخفّضها بدل أن يزيدها}.استكشفت أبحاث سابقة جرعات أقل من أكسيد النيتروجين الثنائي، أي المستويات التي تُعتبر مهدئة وتؤدي إلى نشوء ذبذبات "بيتا} متسارعة في الدماغ، ما يشير إلى حالة من الاسترخاء بدل فقدان الوعي التام. يوضح ليلي: {الأمر الإيجابي في دراسة إيمري هو أنها تمكنت من استعمال نسب مرتفعة من المادة وبمعدلات تدفق عالية. لو استُعملت هذه الجرعة وحدها على متطوعين أصحاء يكونون بكامل وعيهم في البداية، كانوا ليواجهوا مستوىً مفرطاً من الغثيان والتقيؤ}.يعمل براون وفريقه الآن على دراسة البصمات في التخطيط الكهربائي للدماغ والآثار السلوكية لجميع مواد وخلطات التخدير الأساسية.
توابل - Hi-Tech and Science
اكتشاف آلية عمل أقدم مادة مخدّرة
24-07-2015