هناك أناس مباركون، وشجرة أرواحهم مباركة، لا تشيخ خضرة أوراقها، ولا يشيب ظلّها، ولا تتوقف أغصانها عن إنجاب الثمر، هؤلاء ما كان يتأتى لهم ذلك لو لم تكن قلوبهم مغسولة بماء طُهْرٍ مقدّس، ماء نقيّ، من غيث تقي.

Ad

أزعم أن الشاعر الشهيد فايق عبدالجليل شجرة مباركة، لا تموت ولا تجف بركاتها على كل من يستظلّها!

كنت أنوي الكتابة عن فيلم "حبيب الأرض" الذي يحكي سيرة فايق عبدالجليل بعد مشاهدته، وبالرغم من أنني لم أشاهد الفيلم حتى كتابة هذه السطور، فإن بركات فايق التي طوّقتني من خلال ذلك الفيلم لم تترك لي الخيار، تلك البركات التي لم يتوقف فضلها عليّ عندما كان فايق حيّا بيننا على الأرض، وحينما أصبح حيّاً في السماء.

فايق يأخذني في حضن نوره مرتين، ويوقد فوانيسه من حولي مرتين، ومرتين يمدّ لي يده من عليائها ليرفعني لسمو سمائه، المرة الأولى حينما جئته أغنية في فم الريح لا تألفها الدروب ولا تصافحها الأبواب، أغنية نشاز في فتحات القصب، ولا يأنس لها أفراد الجوقة الرسمية، أغنية تحاذرها العصافير وترى أنها تسرق من أجنحتها فسحة من الفضاء هي أحقّ بها وأجدر، جئته أغنية لا تستطيع الجزم بأنها قادرة على تهجئة "نوتتها" بلا أخطاء، مسح على ريشتي الصغيرة، وقرأ عليها بركاته، وملأني باليقين، وأخرج صوتي من الظلمات إلى النور، تلك هي المرة الأولى والتي ذكر الفيلم بعض تفاصيلها.

تلك كانت أولى بركات فايق علي حينما كان على الأرض، ولأنه أحد أولئك المباركين لم تنقطع بركاته حينما استوطن السماء، فلم تزل خيراته تصل لمن يشاء، وهباته مازالت تغمر بفضلها من يريد، ويده مازالت ممدودة بالعطاء لمن يختار، ومازالت مكرماته التي تصل إلى حد الكرامات تملأ قلب من يصطفي من الناس وأنا أحدهم، فبالرغم من أنني أصبحت أحمل صفة شاعر في كل وسائل الإعلام الخليجية المهتمة بالشعر العامي، وأصدرت بعض الدواوين الشعرية، وساهمت في تأسيس العديد من أوائل المجلات المتخصصة بالشعر العامي، فإن هناك الكثير من الأشخاص الذين لم يعرفوني قبل "حبيب الأرض" ودلّهم فايق عليّ وراحوا يبحثون عن كتاباتي في كل مكان، حتى أذهلني كم من الناس يكتشفني لأول مرّة، أو يعيد اكتشافي!

وكأنما فايق مازال يشملني برعايته ويصطفيني من خاصته، وتذكرت حديثاً مع كاتب ومخرج الفيلم الأستاذ رمضان خسروه أخبرني فيه أنه خلال إعداده للفيلم وكتابته كان يشعر بشيء غريب، كان يشعر وكأنما قوى خفيّة غامضة كانت تختار الشخصيات التي لابد من وجودها في الفيلم مع فايق، وكأنما فايق نفسه كان ينتقي الشخصيات التي يريدها معه في توثيق سيرة حياته، حتى أن بعض الأشخاص والذين كانوا يعتبرون أنفسهم أكثر قرباً من غيرهم لفايق على المستويين الشخصي والفني، والذين لم يأت ذكرهم في الفيلم (والحديث مازال للأستاذ رمضان) كانت ملامتهم وعتبهم شديدين، لأني لم أذكرهم في الفيلم وكانت إجابتي الوحيدة الصادقة لهم، والتي ربما لم تكن مقنعة لهم: "لست أنا من اختار الشخصيات في الفيلم وإنما فايق نفسه"! انتهى حديث الأستاذ رمضان، ولن ينتهي شكري لحبيب الأرض... وحبيب السماء على ما كان ومازال يكرمني به من فضله.