تعيش مصر مرحلة جديدة، إلا أن الأزمة الحقيقية التي تواجهها أنه في ظل هذه المرحلة الجديدة مازالت تسيطر على حركتها أدوات وعقليات قديمة، وقوانين بعضها احتفل منذ أعوام بميلاده المئة، وعلى الرغم من الأصوات التي تتحدث عن الفساد، الذي نخر جسد الاقتصاد المصري عبر سنوات طويلة، فإن الفساد الأكبر والأعظم الذي يشكل خطورة حقيقية هو الفساد الإداري الناجم عن عقود، بل قرون، من البيروقراطية التي تحتاج إلى ثورة حقيقية للقضاء عليها.

Ad

بعض التقديرات تقول إن الاقتصاد المصري يخسر من الفساد المالي والإداري نحو 100 مليار جنيه سنوياً، وهي قيمة ما يمكن أن توفره الدولة إذا قضت على الفساد، "إن الجهاز الإداري في الدولة يعمل 180 يوماً في العام من 365 يوماً"، لأن متوسط عدد ساعات العمل الفعلية للموظف في اليوم لا تتجاوز 18 دقيقة يومياً، لو أنه يعمل 7 ساعات بالأسبوع بما يقدر بـ1980 ساعة سنوياً.

 وذكر أن "متوسط دخل الموظف 3500 جنيه شهرياً"، أي ما يُقدَّر بنحو مليار جنيه خسائر سنوية للدولة، لأنها تدفع هذه الأموال بدون مقابل، والأزمة متراكمة منذ عام 1962 بعد أن تم تحويل الموظف من الأداة المُنتِجة للأداة المُستَهلِكة، كما أن الموظف دائماً مرتبط بمواعيد الحضور والانصراف، بدون أن يُحاسَب على الإنتاج والجودة".

بعض التقارير المنشورة مؤخراً، على سبيل المثال، أكدت أن التعقيدات داخل الموانئ المصرية والبيروقراطية تسببت في خسائر تصل إلى 4 مليارات دولار، وهو ما يدخل ضمن نطاق الفساد المالي، وأن 10-15 في المئة من الناتج القومي تخسره مصر بسبب ما يسمى بالفساد المالي الصغير الناتج عن قوانين مشوهة تحتاج إلى إعادة نظر وإصلاح.

 وذكرت أن الفساد في إدارة أجزاء من الحكومة المصرية هو نتيجة طبيعية لشل يد الأجهزة الرقابية أو ضعف مستوى بعض المنتسبين لها في بعض الأحيان، كما أن كونها أجهزة غير مستقلة تماماً وتتبع الجهاز الإداري للدولة فإن هذا يطرح التساؤل الطبيعي هنا: كيف يراقب المرؤوس رئيسه؟

ومن جهة أخرى فإن الطريقة التي يُعيَّن بها موظفو الدولة تساهم في تكريس الفساد بشكل كبير، حيث مازال يتم التعيين في أحوال كثيرة من خلال الوساطة والمحسوبية والرشوة، وإذا كان الموظف بالحكومة عين من خلال هذه الوسائل غير القانونية فهل سيرعى القانون؟

المؤتمر الاقتصادي، الذي عقد في شرم الشيخ في مارس -آذار- الماضي حقق نجاحاً كبيراً، لكن أجهزة الدولة لم تستغل هذا النجاح مع المستثمرين، والسبب الرئيسي في ذلك يعود إلى وجود تلك السلسلة من القوانين التي لن تؤدي إلا إلى غل يد من امتلك نية حسنة لدفع الأمور إلى الأمام، وإطلاق يد من امتهن مهنة الإعاقة أو الفساد الإداري لتحقيق مصلحة شخصية ضيقة.

 إن آلاف القوانين المخصصة إما أنها خارج النص والتاريخ أو أنها غير مفعلة في حالة صلاحيتها، كما أن الإجراءات الروتينية في المؤسسات الحكومية، تعرقل المشروعات، لذلك نسمع كلاماً مثل "الموظف في مصر يعمل بقانون، إن خالفه فسيحاسب".

 لابد من تعديل البنية الروتينية الموجودة بالدولة كاملة، وتفكيك المنظمات التي تقوم بتشغيل الموظف العام، وتطبيق اللوائح والقوانين ونظم العمل الروتينية التي ثبت نجاحها في مناطق أخرى من العالم، مثل بعض دول أميركا اللاتينية وآسيا، حيث قامت تلك الدول بتحويل التعقيد إلى بساطة من خلال تفكيك أجهزة الدولة البيروقراطية المُمثَّلة في اللوائح والقوانين والتشريعات التي يصدر منها الروتين.

إن هذه الدول حوَّلت الرشوة من مظاهر فساد إلى مُحفِّزات إنتاج، وذلك من خلال تقديم طلبات لمَن يريد إنهاء إجراءاته بطريقة سريعة، من خلال التقدم بطلب رسمي للإنجاز في إجراءاته مع دفع مبلغ أقل من مبلغ الرشوة، ولكن لخزانة الدولة. نعلم أن هناك اتجاهاً جدياً لمواجهة هذه المشكلة الكبيرة، نتمنى أن نرى الثمار قريباً.