قالها، صلى الله عليه وسلم، حينما خُيِّر بين البقاء والرحيل، فقال: "بل الرفيق الأعلى"، وهذا اختيار كل من أدى رسالته على هذه الأرض وبلّغ رسالته وعاش تلك التجربة الروحية بذلك الجسد، ليتم مشوار تلك التجربة ثم تنتقل الروح متعرية عن الجسد إلى العوالم الأخرى التي لا يدركها إلا العقل الواعي.

Ad

منذ أن نفخت الروح في أبينا آدم عليه السلام، اخترتَ أنت منذ البداية أن تكون أنت، واخترت والديك واخترت جسدك، واخترت كل شيء في حياتك؛ إلا أنك نسيت بمجرد ولوجك إلى هذه الحياة، وبدأت تجربتك الروحية، والكيِّس هو من عرف وتذكر رسالته على هذه الأرض، وسار في تحقيقها، واشتغل وسعى بها، فبمجرد أن تُتَمّم ما جئت من أجله، كما حدث مع النبي الكريم إثر نزول قوله تعالى "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا"، فإنك تصل إلى مرحلة اليرقة لتنسلخ الروح من الجسد وتحلق في احتمالاتها الأخرى، كما يمكنك وأنت في حياتك أن تختار الاحتمال المحبب لديك، وتطلق لروحك العنان للقفز والفرح به لتنتشي بحلاوة الحياة التي تعيشها وتحياها.

وها هو المعلم المتنور "وين داير" - الذي أثر في الكثير ممن عرفه وحضر له وقرأ كتبه وأثرت فيَّ كتبه بشدة، وبغض النظر عن سبب الوفاة - يفارق الحياة بكل حب وقبول ودون تعلق بها، فكان دائماً يقول إن الموت ليس فراقاً للحياة بل هو تخلي الروح عن الجسد وتحليقها في فضاء آخر، ويمكن العيش في حياة آخرى لا يعلم بها إلا الله.

ومن أقواله أيضاً أن الإنسان إذا خلصت نفسه من الممتلكات المادية والمحبوبات والملذات فمن الطبيعي عندما يأتيه الموت ألا يتحسر على شيء لأنه لم يعد يملك من الدنيا شيئاً، وأذكر في هذا الصدد القصة التي أوردها في أحد كتبه عن أن الموت نقلة للشخص أو لتلك الروح التي تبلغ وقت نزعها قمة الوعي وتتصل بإدراك الوعي العالي، فترى ما لا يمكن رؤيته، فيخبر عن "أنيتا مورجاني" التي انتشر السرطان في جميع نواحي جسدها، إلا أنها وفي معاقرة تجربة الموت ودخولها في غيبوبة ترى والدها الذي توفى منذ زمن يقول لها: ليس الآن؟! ثم ترى أخاها وهو يصعد الطائرة قادماً إليها من بلاد بعيدة ليكون معها لحظة الموت.

على غرار ذلك المشهد تصحو وتفيق من غيبوبتها، وبعد إجراء الفحوصات، إذ بها تتشافى من السرطان تماماً... فكم من مرة نصادف الموت، إلا أن رعاية الله ترعانا؛ من أجل أخذ الموعظة في الاستعداد للموت، ولتصل إلى ذاتك العليا وتتعرف على سبب وجودك في هذه الحياة، لذا فالموت مرحلة طبيعية علينا ألا نجزع إزاءها، نعم نحزن لكن لا نطيل الحزن، ونسأل الله السلامة والرحمة لمن تولاه الله في رعايته وحفظه، ونسأله الرحمة لكل من قدم صالحاً وأفاد البشرية ونقل الفكر الراقي الذي يجعل الفرد يتفكر في ذاته ويستكمل ما ينقصه منه، فكل ما يبقى للإنسان في النهاية السيرة العطرة والإنجاز الذي يظل يذكر به، وكما يقول الشاعر:

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

فأنت بالنفس لا بالجسم إنسانُ

فأسأل الله الرحمة لكل من علمني حرفاً واستفدت منه وجعلني أتعرف على ذاتي وأرقى بها.