كلنا نتذكر، أو يمكن لمن نسي مراجعة الموقف الفرنسي الرسمي والشعبي من الإجراءات والقرارات الأميركية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 الإرهابية في الولايات المتحدة، والتي أدت الى سقوط آلاف الضحايا، وكيف كانت باريس ترفض مواقف واشنطن وتوجهها لشن حروب خارجية رداً على تلك الهجمات الإرهابية، وأيضاً كيف كانت تنتقد الرئيس جورج بوش الابن ولبسه البزة العسكرية منذ اليوم الأول للهجمات وعدم بحثه الجانب السياسي والفكري للحدث، وبعد ذلك المعارضة الفرنسية الشرسة لإسقاط نظام صدام حسين في العراق 2003.

Ad

زعماء فرنسا نفسها وبعد ساعات من أحداث 13 نوفمبر 2015 الإرهابية، لبس رئيس جمهوريتها فرانسوا هولاند «بدلة» الجنرال، وأعلن أن الحرب شنت على فرنسا، في حين كان رئيس وزرائه مانويل فالس يمهد أرض المعركة بدعوة الأوروبيين لتقليص صلاحيات اتفاقية شنغن، ويوجه رسائل تهديد ضمنية للفرنسيين المسلمين بأن إجراءات رادعة ستتخذ بحقهم ودور العبادة الخاصة بهم التي ستقيم على أنها متطرفة، بينما سفير فرنسا في واشنطن جيرارد آرود يقول لفريد زكريا على "سي إن إن" إنه لا يمكن دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي لأن معظمهم من العرب!

وألغت السلطات الفرنسية وقفة للمسلمين الفرنسيين عند المسجد الكبير في باريس ليعبروا عن رفضهم  للإرهاب وفكر الكراهية، بحجة عدم إمكانية ضمان سلامتهم! في حين يتجمع الآلاف يومياً عند مسرح باتكلان ليتضامنوا مع ضحايا الهجمات الإرهابية ويضعوا الزهور والشموع وتضمن تلك السلطات سلامتهم!

وجاء بعد ذلك خطاب الرئيس هولاند بعد العمليات أمام البرلمان بغرفتيه والذي لا يختلف في مضمونه  كثيراً عن مضمون خطاب بوش الابن أمام الكونغرس بعد أحداث 11 سبتمبر، الذي أعلن فيه الحرب وتحريك الجيوش وحاملات الطائرات، بل إن خطاب بوش الابن كان أفضل لأنه تكلم باسم العالم الحر وكان له بعد متعلق بالديمقراطية والحريات ومحاربة الأنظمة الاستبدادية، في حين تدخل فرنسا الحرب متحالفة مع روسيا التي يمثلها بوتين ذو الممارسات القيصرية الاستبدادية والتي لا تحمل للشعوب أي أفق بالحرية والكرامة الإنسانية، فباريس تتحالف مع بوتين في سورية وتعارض أفعاله في القرم وأوكرانيا!

فرنسا التي نهت عن فعل واشنطن في 2003 أتت بمثله وتمارسه فعلياً اليوم، وهو ما يدل على أن باريس في تلك الفترة لم تكن تعبر عن  مواقف مبدئية بل عن مصالح لم تكن متحققة لها في إسقاط نظام صدام حسين، وحكومة فرنسا عندما تمنع الفرنسي المسلم من التعبير عن رأيه عند المسجد وتسمح به للآخرين عند المسرح، فهي تقول إن إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي (1789) هو فعلياً للفرنسي من العرق الأوروبي لا للمهاجر الذي يهدد بسحب الجنسية منه ومضايقته على الحدود وفي المطارات حتى لو كان مهاجراً من الجيل الثالث.

نعم فرنسا تعرضت لهجوم إرهابي وهي مجروحة، ويحق لها بموجبه أن تدافع عن نفسها، ولكن ليس عبر التحالف مع روسيا التي تستهدف 10 في المئة فقط من طلعاتها العسكرية ما يسمى بتنظيم الدولة "داعش" والبقية تدمر المعارضة المعتدلة وتقتل المدنيين السوريين، وكما كانت تدعو فرنسا جورج بوش إلى بحث الجانب السياسي والفكري لظاهرة الإرهاب بجانب التصدي العسكري لها، فهي مطالبة اليوم أن تبحث عن سبب وجود قواعد إمداد لـ"داعش" في سورية وعمّن تسبب في ذلك؟ ولا تساعد موسكو وطهران على إنقاذ نظام بشار الأسد وربما إنشاء دولته العلوية عبر الحملة القيصرية الروسية الإيرانية الحالية حتى لا تجد فرنسا نفسها في مستنقع يصعب الخروج منه لاحقاً.

أعتقد أن باريس لن تفعل ذلك، فتجاربنا معها مريرة منذ الثورة العربية الكبرى في بداية القرن الماضي وتآمرها على العرب ونكْثها جميعَ وعودها لمن قاتل بجانبها ضد الدولة العثمانية، إلى معارك ميسلون 1920، والعدوان الثلاثي 1956، وتسليحها لإسرائيل بدءاً من طائرات "الميستير 4" وإنشاء مفاعل ديمونة النووي العسكري على يد خبراء فرنسيين، حتى إطلاق أول صاروخ إسرائيلي "شافيت" بتقنية فرنسية في عام 1960، وكذلك استضافة فرنسا على أراضيها لأعضاء عصابة "الهاغناه" الصهيونية التي ارتكبت أفظع الجرائم ضد الفلسطينيين، وبالطبع تاريخها الدموي في الجزائر الذي لا ينسى، ومؤخراً موقفها الانتهازي عند مسارعة مسؤوليها لزيارة طهران بعد 15 يوماً فقط من إعلان الاتفاق النووي الإيراني مع المجتمع الدولي حتى لا تفقد حصتها من الصفقات رغم الانتقادات الفرنسية لما يفعله حلفاء طهران في لبنان وسورية.