رمضانَ أبي وأمي، وداعاً. وإلى عام قادم، لا نعرف ما يطوي في زوّادته من الهموم.

Ad

على أني على دراية بالهموم التي أثقلت ظهرك، وقد بدا لي وأنت تغادر محدّباً. مع أنك أسمى من الزمان، فما يطولُك الزمان، وأبرأ من حدثانه. كنت فتى الدين المدلل، تتحلّى بالحكمة في سماحة الوجه وبسطة اليدين. وتزدهي بالفتوة عامرةً في مقاومتك وتصبّرك. فما الذي أثقل وِزرك، وأنقض ظهرك، حتى بدوت لي على هذا القدر من الخوَر والضعف، وأنت تغادر؟

سبحان الله! أيشيبُ من يقيم في الضفة الأخرى من زمان الأعمار الأرضية؟ أيشيخ سادنُ الأبدية، وتَعتوره العللُ ربيبُ العافية؟

على أنك رمضانُ الهموم الثقيلة التي دبت فيك منذ عقود. وهل تَثقلُ الهمومُ على رمضان بسبب عامةِ صائميه، الذين لا حول لهم ولا قوة، أم تثقلُ بسبب سَدَنةِ بركاتهِ، وحُجّابِ جوده وكرمه، ورُعاةِ الرعية الذين لا يعرفون لدين حرمة؟ لقد كنتَ أدرى بهؤلاء من فقراء صائميك، فبِطنةُ السدَنة تتّسعُ مع ساعات الصوم، وأرديتُهم تتريّش مع الاعتكاف، وخزائنُهم تَثرى مع العَفاف، ورغائبُهم تنْهَمُ في الكفاف؛ وظاهرُهم غير باطنهم، وأنت الأعرف.

كنتَ فتى الدين، واليوم كأنك تحس اليتمَ يعتريك، لأن دينَ الفطرة لم يعد كما عهدتَ. لقد اعتمر عمةَ الدين السياسي، المتطلّعِ إلى السلطة والجاه والمال. وهل من وسائلَ في هذه الآفاتِ الثلاثِ للتقرّبِ من الخالق؟ تعالى اللهُ عن درَنِ الشيطان، بل هم اختلقوا وسائلَ باسمه، تختزلُ إرادةَ الخالق التي عمادُها النور في إرادة بشرية متدنيةٍ عمادُها الظلامُ والعتمة. حتى صارت الصلاةُ بين يديك مدججةً جميعُها بالسيوف، والعبواتِ الناسفة، وكلِّ ما لم تكن شهوةُ القتلِ تحلم به من قبل. وصار القلبُ في حضرتك عقدةَ أفاعٍ، والابتهالُ بُركانَ ضغينةٍ وكراهية، والدعاءُ صرخةَ تأليبٍ للقتل والتنكيل. حتى بدا إسلامُك لعينيك في الظاهر، وهو بحيرة سكينة وأمان، مصدرَ ذعرٍ وخوف.

أنت تعرف أن السدَنةَ والحجّابَ والرعاةَ وراءَ كلِّ هذا، ووراءَ تحريفِ كلِّ معنى لكلمةٍ في الكتاب المُنزل، والحديثِ المُرسل، من أجل تحقيق غاياتٍ، كمْ بدتْ في عينيك المتعبتين وضيعةً متدنيةً. وأنت تعرف أنهم جميعاً، وفي غفلةٍ من الزمان الذي لا شأنَ لك به، صاروا خزَنةَ الذهبِ والفضة على هدى أشباههم ونُظرائهم من الأسلافِ، وخزَنةَ عَقارٍ وأملاكٍ وأرصدةِ مصارفَ على هُدى طُغاة المال في العصر الحديث. كل ذلك تمَّ بأناة العارف وحُسن تدبيرهِ باسم دينك الحنيف. وأنت تقطع الأيامَ الثلاثين مع الفقراء من صائميك، تصغي إليهم يبتهلون من قلبٍ لم يتركْ الأذى فيه من نبضٍ إلا أربكَه، ومن أمنيةٍ إلا قطَرها بنواة الألم. تُصغي وتزداد معرفةً، فيُنهكك هذا ويحنو ظهرك. ولعلك بدوت لعيون الناس، حين غادرت، لا لعيني وحدها، فعرفوا ما عرفتُ من وطأة همومك.

تغادرهم الآن، وستُقبلُ عليهم العامَ القادمَ، وسيتطلعون إلى هيئتكَ آملين استقامةَ الشهر المبارك، فتى الدين المُدلّل، كما عهِدتهُ الأجيال، مُكلّلاً بالغار، سمحَ الجبين، مُشرقَ الوجه، تتألق في عينيه شموعُ آمالهم، كما تتألقُ شموعُ النذْرِ الطافيةُ على الماء، وتحتفل أرديتُه بألوان الحياة، التي تتناثر كالأزهار وراء خطواته، وكأنه يتركها عن عمدٍ وراءه لعيد الفطر.

سيتطلع الناسُ وعيونُهم رغم كلِّ ثقتهم بك، يغشاها شيءٌ من الخوف المُقيم، من أنْ تعودَ مع انحناءة الظهر المُنهك، ومع الوجهِ الشاحب، والعينِ الكسيرة. ولكن ثقتَهم بك ترفعُ من هاماتهم، وتجعلهم أجرأَ على مقاومة مخاوفهم، وأقدرَ على التشبّثِ بالأمل. فليس من شيم الدين أن يفتَّ من عضدِ شهره الكريم، وعباده الفقراء. وكأني بهم يُنشدونك على لسان الشاعر السياب:

لك الحمدُ مهما استطال البلاءْ، ومهما استبدّ الألمْ، لك الحمدُ إن الرزايا عطاءْ، وإنّ المصيباتِ بعضُ الكرم.