الأسوأ من المراتب المتأخرة التي تحققها الكويت سنوياً هو أن الإنفاق العالي على التعليم لا يستهدف أن تكون المخرجات متسقة مع متطلبات سوق العمل.

Ad

منذ زمنٍ والكويت تشهد نقاشاً واسعاً حول تطوير وتعديل المناهج التعليمية، وفي كل مرة ينحرف نقاش هذه القضية الفنية إلى مسارات طائفية وتلاسن مذهبي وصراع أيدلوجي بما لا يعود على القضية نفسها بالفائدة المرجوة.

فمطلب تعديل المناهج في الكويت أمر أساسي في ظل التدهور المستمر لنوعية ومستويات التعليم العام والعالي، وعليه يجب ألا يكون خارج الإطار الفني الذي تحتاج إليه الدولة، فمثلما نريد تعليماً يرسخ قيم التسامح والاعتدال علينا ألا ننسى الأهم وهو اتساق مناهج التعليم مع حاجة سوق العمل، فلا معنى لأي نظام تعليمي لا يلبي احتياجات السوق.

مراتب واختبارات

سوء التعليم لا يحتاج إلى أدلة، فترتيب الكويت في مستويات التعليم المختلفة، حسب المنتدى الاقتصادي العالمي، تتراوح بين 81 و104 عالمياً، إضافة إلى الحصول على نتائج في قاع مستويات الاختبارات الدولية لقياس مستوى ذكاء الطلاب عالمياً (تيمز وبيرلز)، ما أدى لاحقاً إلى الانسحاب، وبالتالي فإن الحديث عن المناهج وتطويرها بشكل جوهري أمر مهم جداً، ويشكل أحد تحديات الدولة التي لا مجال للفشل فيها.

وتعطي اختبارات «تيمز وبيرلز» نموذجاً لسوء المستوى التعليمي بالكويت، ففي آخر مشاركة في 2012 احتلت مراكز متدنية جداً عالمياً، إذ جاءت في الترتيب 48 عالمياً من أصل 50 دولة مشاركة في اختبار «تيمز» لمادة الرياضيات، كما حلت في المرتبة 46 في القراءة من أصل 49 دولة مشاركة، علماً بأن دولتي بوتسوانا وهندوراس، اللتين تصنفان من أفقر دول العالم، حققتا مراتب أعلى من الكويت!

فمن خلال الاطلاع على الأرقام الخاصة بالطلاب واتجاهات سوق العمل نجد أن 60 في المئة من طلاب الثانوية العامة بالقسم الأدبي و40 في المئة بالقسم العلمي، كما نجد كليات كالشريعة والتربية والعلوم الاجتماعية والحقوق تفيض مخرجاتها بما يتراوح بين 600 و112 في المئة من حاجة سوق العمل، في مقابل عجز كليات كالطب والطب المساعد والعلوم والصيدلة وطب الأسنان عن توفير أكثر من 33 في المئة من حاجة السوق، بل إن تخصصاً يرتبط بالقطاع الخاص مباشرة كالعلوم الإدارية لا يغطي أكثر من 34 في المئة من حاجة سوق العمل الفعلية!

كليات وإنفاق

 من السطحية الحديث في هذا الشأن عن إغلاق كلية واحدة كإصلاح للمناهج، فالعلة في كليات متعددة، بل وفي نظام تعليمي ينحرف عن حاجة سوق العمل بكثير، علماً بأن الكويت تنفق على التعليم بنسب عالية على مستوى العالم تصل إلى 3.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو رقم يوازي ما ينفق على التعليم في دول ككوريا الجنوبية وسنغافورة وفنلندا وغيرها، ومع ذلك فالعوائد من هذا الإنفاق العالي تأتي سلبية جداً، فالكويت تحتل المرتبة 92 بين دول العالم على صعيد جودة التعليم الابتدائي، والمرتبة 75 على صعيد جودة التعليم الأساسي، والترتيب 104 في جودة التعليم العام.

الأسوأ من المراتب المتأخرة التي تحققها الكويت سنوياً هو أن الإنفاق العالي على التعليم لا يستهدف أن تكون المخرجات متسقة مع متطلبات سوق العمل، فتركُّز معظم طلاب الثانوية العامة في التخصص الأدبي يعني أن هناك دعماً بشرياً، خلال سنوات قادمة، لكليات تمثل عبئاً كبيراً على حاجة سوق العمل، كالكليات الأدبية بكل تخصصاتها، فحسب دراسة لجامعة الكويت لعام 2018 - 2019، فإن طلبة الكليات الأدبية سيشكلون 62 في المئة من إجمالي طلبة الجامعة، فضلاً عن «احتساب» العلوم الإدارية ككلية علمية، ما يعني أنه على المدى المتوسط سيتم إنفاق مئات ملايين الدنانير على تخصصات بلغت التشبع في سوق العمل!

الطلب في سوق العمل، الذي يصل حالياً إلى 20 ألف وظيفة سنوياً توفر الدولة معظمها عبر قطاعاتها، سيصل بحلول 2030 إلى 74 ألف وظيفة سنوياً، أي بمعدل 3.7 أضعاف طلب العمل الحالي، وقبل تنويع الاقتصاد واستقطاب أموال أجنبية وتوفير فرص حقيقية للمبادرين الشباب علينا أن نجعل التعليم مرتبطاً بسوق العمل، وأن يمده بمتطلباته، وإلا فستكون لدينا بطالة حقيقية ذات تأثير اجتماعي واقتصادي وحتى سياسي بالغة السوء.

جيل قادم

عندما نعلم أن إجمالي عدد طلبة المدارس والجامعات والمعاهد التطبيقية في الكويت تجاوز العام الحالي 530 ألف طالب، فإن أول تساؤل يرد إلى الذهن هو: كيف يمكن لدولة تواجه، منذ 20 عاماً أو أكثر، تراجعاً سنوياً في خدماتها الأساسية، وبدأت اليوم تشهد تراجعاً أخطر في إيراداتها، أن توفر الاحتياجات المتزايدة من تعليم وعمل وسكن وصحة لهذا العدد الضخم من الجيل الحالي خلال 20 سنة مقبلة؟

هذا العام تخرج نحو 28.5 ألف طالب من الثانوية العامة، وكلما تخرج عدد جديد تجدد الضغط الذي تمثله فئة الشباب على مؤسسات وخدمات وميزانية الدولة سنوياً، فيكفي مثلاً أن نعلم أن خريجي الثانوية العامة في العام الدراسي 2017 - 2018 سيبلغ عددهم 41 ألف طالب، والنسبة الأكبر من هذا العدد الضخم ستتوجه نحو تخصصات لا علاقة لها بسوق العمل!

لك أن تتخيل أن دولة تعتمد على النفط بنسبة تتجاوز 93 في المئة لا يوجد في مناهجها التعليمية أكثر من قسم لهندسة البترول لا يشكل عدد طلابه أكثر من 10 في المئة مقارنة مع عدد طلبة كليات كالشريعة أو العلوم الاجتماعية أو الآداب... مع عجز لافت في تدريب وتأهيل عمال ومهنيين لقطاعات كالمصافي والحفر والخدمات المتنوعة التي يحتاج إليها القطاع النفطي أو الشركات العاملة فيه.

خطط وسوق

الحديث عن تعديل أو لنقل تطوير المناهج يجب أن يخرج عن الإطار الممل المتكرر غير المفيد، كالدفاع عن العقيدة، أو مناكفة الخصوم، فضلاً عن الصراع المذهبي أو الأيديولوجي، وعلينا أن نعمل على ربط المناهج وتطويرها وفقاً لحاجة السوق، وأن يكون لدينا خطط لتوجيه المخرجات نحو تخصصات تلبي احتياجات سوق العمل، كي نحقق، ولو جانباً من خطط الدولة التي تشكو دائماً من عبء التوظيف، وسوء ارتباط التعليم بأهداف الدولة وسياساتها.