الحقيقة المُذهلة التي خرجت بها من قراءتي الجديدة لفيلم «حملة أبرهة على بيت الله الحرام» (1953)، أن أزمة «أبرهة» في الفيلم الذي كتب له السيناريو وأخرجه أحمد الطوخي وكتب قصته وحواره فؤاد الطوخي، لم تكن في خوفه من اللعنة التي تُصيب كل من يجرؤ على الاعتداء على بيت الله الحرام، أو ثقته المفرطة في الفيل الضخم الذي جلبه من الحبشة، أو انزعاجه البالغ من كون الكعبة مقدسة لدى العرب، وتجمع بين قلوبهم. وإنما كانت أزمته، يا للعجب، في أنه، وجيشه العَرَمْرَم، لم يكن يعرف أين يقع «بيت الله الحرام»!

Ad

هذا ما يُفاجئنا به الفيلم، الذي قالت عناوينه إنه استعان بمراجع تاريخي هو الدكتور فؤاد حسنين يعلم، بكل تأكيد، أن أحداث الفيلم تدور في منتصف القرن السادس الميلادي، وقت أن كان يحكم اليمن ملك حبشي يُدعى {أرياط} (فرج النحاس) نجح في أن يجمع قلوب أهل اليمن من حوله، بفضل مهارته وسعة حيلته، وكان ذلك سبباً في حقد أحد قادته ويُدعى {أبرهة} (عباس فارس)، وحاك مؤامرة للإطاحة به، وانتزاع المُلك منه، بدعم من الوزير {أبو يكسوم} (فؤاد الطوخي).

وتقع مواجهة بين {أبرهة} و{أرياط} تنتهي بهزيمة الأول لكن {أبو يكسوم} يتدخل، قبل الإجهاز عليه، ويقتل {أرياط} بسهم غادر، ومن ثم يُنصب {أبرهة} نفسه ملكاً على اليمن وسبأ، وتجاوزت طموحاته ذلك إلى التفكير في هدم الكعبة ظناً منه أن في هدمها تفريقا للعرب، وتشتيتا لكلمتهم، وتحطيماً لحلم الوحدة العربية، وإيذاناً بدخولهم في طاعته!

أحداث تقع في منتصف القرن السادس الميلادي، لكن {أبرهة}، ومعه الدكتور فؤاد حسنين، الذي راجع الوقائع التاريخية، يجهلان مكان الكعبة المشرفة، التي بنيت قبل آدم عليه السلام، وبعد الطوفان قام النبي إبراهيم مع ابنه إسماعيل عليهما السلام، بإعادة بنائها، بعدما أوحى الله إلى إبراهيم بمكان البيت الحرام، وبعد ذلك نكتشف أن مشكلة {أبرهة} في من يدله على مكانها، بعد موت الدليل، ويُغير على قرية بأكملها فيقتل أم (نعيمة وصفي) وابنتها ثم يُعذب {نُفيل بن حبيب} (عمر الحريري) أحد أبناء القرية لأنه أبى أن يدله على الطريق الموصل إلى مكة!

عبث وهزل في موطن الجد، فالسماء مُلبدة وغاضبة، والريح عاتية، بينما {أبرهة} يطالب مساعده بأن يأمر الجواري والراقصات بالخروج معه في الحملة، وهو ما يشجع ابنته {زهرة} (برلنتي عبد الحميد) على أن تطلب مرافقته، وكأنهم في طريقهم إلى محلات هارودز (!)

تظهر برلنتي عبد الحميد في الأحداث كي تحقق هدفين لا ثالث لهما، أولهما الغواية، حيث لا تكف عن توظيف جسدها وعينيها وملابسها المثيرة، التي تتكون من قميص عاري الصدر وشال مُلقى على الكتفين العاريين، لتؤدي دور الأنثى اللعوب، التي تقع في غرام {نُفيل بن حبيب} من أول نظرة، وتلاعب جمهور الفيلم.

وعلى الجانب الآخر، تمثل الضمير الحي الذي مات عند والدها {أبرهة}، فهي التي تتوجس خيفة من النبوءة التي يُطلقها العراف في وجه أبيها، ويحذره خلالها من الاعتداء على بيت الله الحرام، لأن نبياً من أهل هذا البيت سيظهر في مكة، وترى في منامها جنداً تنزل من السماء لتحمي بيت الله، وتهلك جيوش أبيها، الذي يسخر منها، ويهدأ باله عندما يؤكد له {أبو يكسوم} أنها {أضغاث أحلام} بينما يُدرك المتابع أن الإيمان سيدخل قلب ابنته قبل أن تعرف الجزيرة العربية الإسلام!

في هذا السياق العبثي يبدو موقف {أبو يكسوم} مُحيراً وعجيباً ومثيراً للغط، فهو الذي أنقذ {أبرهة} بالسهم الذي أطلقه على {أرياط}، وهو الذي شجعه على مواصلة غيه، والتحرك بجيشه إلى مكة، وكأنه يورطه، ومع هذا ينتهي الفيلم من دون أن نعرف لماذا فعل؟ وما مصلحته في ما فعل؟ بينما يُحسب للفيلم التزامه بالسياق الزمني للمقابلة التاريخية بين {أبرهة} وسيد البيت العتيق {عبد المطلب}، التي قال فيها الجملة المأثورة: {لِلْبَيْتِ رَبٌّ يَحْمِيهِ}. ويُحسب للفيلم أيضاً إقراره بأن أهل مكة فروا من مواجهة جيش أبرهة، امتثالاً لقول {عبد المطلب} إنه لا قبل لهم على حربه، ولا طاقة لهم به، وجاءت أغنية الكورس {أيها البيت سلام} للشاعر معبرة عن الهزيمة النفسية التي أصابت أهل مكة، بينما طالت موسيقى فؤاد الظاهري، التي واكبت الهرب إلى الصحارى، وترهل معها إيقاع الفيلم، كما ترهل بالرقصات العجيبة لفرقة الباليه العالمي {ستار لايت}، التي انتفت صلتها بالرقص الإفريقي، والاختيار الأعجب للأجنبية {مس بيرل}، التي أدت دور محظية أبرهة.

أما مشهد النهاية الذي تراجع فيه الفيل عن هدم الكعبة لمجرد أن همس له {نُفيل}: {ابرك محموداً أو ارجع راشداً فإنك في بلد الله الحرام}، وتمرد الفيلم بالفعل، فهو العبث بعينه، على عكس التنفيذ الجيد، رغم الإمكانات الفقيرة وقتها، لمشهد الطَيْر الأَبَابِيلَ التي رْمِتهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فجَعَلتَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ!