عقب الاتفاق النووي مع إيران، تحتاج الولايات المتحدة إلى تحديد مصالحها على الأمد الطويل، فتأييد الاتفاق لايعني بالضرورة التخفيف من معارضة التحدي الذي تشكله إيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

Ad

كتب ف. سكوت فيتزجيرالد عبارته الشهيرة: «يشمل اختبار عميل الاستخبارات من الدرجة الأولى القدرة على التفكير في رأيين متناقضين في الوقت عينه والاحتفاظ رغم ذلك بالقدرة على العمل بفاعلية».

في شهر مايو عام 1939، وافق البرلمان البريطاني على الكتاب الأبيض الغني عن التعريف الذي يرفض الالتزام بدولة يهودية مستقلة ويفرض حدوداً صارمة على الهجرة اليهودية إلى فلسطين، علماً أن هذا شكل حكماً بالإعدام بالنسبة إلى اليهود الأوروبيين الذين ما كانوا يملكون أي مكان آخر يلجؤون إليه، ولكن بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في شهر سبتمبر ذاك، أعلن ديفيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل الأول: «سنحارب الكتاب الأبيض كما لو أننا لا نخوض أي حرب، وسنخوض الحرب كما لو أن لا وجود للكتاب الأبيض».

بالنسبة إلى رجل أقل ذكاء، يُعتبر التعاون مع قوة عظمى أنزلت كل هذا الأذى بالشعب اليهودي خطوة مرفوضة، لكن بن غوريون فهم الفكرتين المتعارضين في الظاهر اللتين شكلتا معاً استراتيجية كانت ستروج لمصالح المجتمع الذي قاده على الأمد الطويل، أما التفكير العقائدي (معارضة البريطانيين في مسألة واحدة تفرض معارضتهم في كل المسائل)، فكان سيقود إلى الكارثة.

عقب الاتفاق النووي مع إيران، تحتاج الولايات المتحدة إلى قدرة بن غوريون على التفكير الهادئ والملموس بغية تحديد مصالح الولايات المتحدة على الأمد الطويل، فتأييد الاتفاق (وهذا موقفي أنا أيضاً، رغم عيوبه الكثيرة) لا يعني بالضرورة التخفيف من معارضة التحدي الذي تشكله إيران في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.

على العكس، نحتاج إلى سياسة أميركية أكثر قوة كثيرة بغية التصدي لهذا الخطر، ولا شك أن الهيمنة الإيرانية في الشرق الأوسط ستهدد مصالح الولايات المتحدة الرئيسة، فضلاً عن مصالح أصدقائها وحلفائها في المنطقة، فنستطيع الموافقة على الاتفاق النووي، موضحين في الوقت عينه للقادة الإيرانيين أننا لا ننوي البتة السماح لهم بالسيطرة على المنطقة، سواء مباشرة أو من خلال المجموعات الشيعية التابعة لهم والتي يدعمونها، كما أوصى نيكولاس بورنز، الرجل الذي عينه جورج بوش الابن لتولي شؤون إيران النووية، في مقابلة أجرته معه صحيفة وول ستريت قبل أيام.

لا يستطيع الإيرانيون رفض هذه الاستراتيجية ذات المسارين: فهي تعكس الاستراتيجية التي يتبعونها هم، إذ أوضح القائد الأعلى آية الله علي خامنئي، خلال خطاب ألقاه يوم السبت قبل الماضي في طهران، أن الاتفاق لا يمهد الطريق أمام تبدّل كبير في الأهداف الإيرانية، وتابع معلناً أن بلده لا ينوي التخلي عن سياساته المناهضة للولايات المتحدة أو سحب دعمه لحلفائه في الصراعات الحالية في المنطقة.

على العكس، سيسمح التخفيف تدريجياً من العقوبات الاقتصادية لإيران بتعزيز هذا الدعم، ومن الكارثي بالتأكيد أن تنسحب الولايات المتحدة، فيما تمضي إيران قدماً.

أخفقت جهود إدارة أوباما حتى اليوم في طمأنة أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها، وذكرت تامارا وايتس، مساعدة سابقة لنائب وزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، في مقال نشرته في 14 يوليو في مدونة Brookings.edu: «يبقى الصراع الإقليمي الأوسع مع إيران مصدر القلق الأكبر والأكثر أهمية بالنسبة إلى الحكومات العربية، لا «داعش» ولا غيره من التنظيمات الإرهابية المتطرفة، ولا الحروب الأهلية التي تندلع على حدود هذه الدول، ولا عدم الاستقرار المحلي».

مهما قالت الولايات المتحدة لتستعيد وتحافظ على ثقة الحلفاء العرب وإسرائيل، فلن تجدي أنصاف الحلول نفعاً: لا السلاح ولا المساعدات ولا القواعد العسكرية الأميركية، فتتوقع هذه الدول، وفق وايتس، أن ترى الولايات المتحدة «وهي تبرهن عن استعدادها لمواجهة محاولات إيران التوسعية في المنطقة»، والأهم من ذلك أنها تريد من الولايات المتحدة أن تعارض الإيرانيين بقوة أكبر في سورية.

توصل عدد كبير من المراقبين الواسعي الاطلاع إلى الخلاصات عينها، ففي شهادة أخيرة أمام لجنة الشؤون الخارجية التابعة لمجلس النواب الأميركي، أعلن المحلل المخضرم المتخصص في الشأن الإيراني كينيث بولاك: «قد يكون تطبيق استراتيجية الإدارة المعلنة في سورية أخيراً الطريقة الوحيدة والفضلى لاستعادة السيطرة على مواجهات خطيرة متفاقمة بين إيران وحلفاء الولايات المتحدة العرب».

لكن الترويج لهذه الخطوة في البيت الأبيض لن يكون سهلاً، فقد شكّل رفض الولايات المتحدة التحرك ضد بشار الأسد، حتى بعد استخدامه الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، اللحظة الأكثر إحراجاً في سياسة الرئيس أوباما الخارجية. وتُعتبر سياسة واشنطن الحالية مهزلة، ففي شهادة أخيرة أمام لجنة الخدمات العسكرية التابعة لمجلس الشيوخ الأميركي، كشف وزير الدفاع آش كارتر أن الولايات المتحدة تعتمد معايير اختيار بالغة الصعوبة، حتى إن عدد المقاتلين المعارضين السوريين الذين تدربهم لا يتخطى الستين.

صحيح أن تصميمها على عدم فتح الباب أمام مكاسب جديدة لـ«داعش» مبرر، إلا أن الإدارة قررت على ما يبدو أن «داعش»، لا إيران، عدو الولايات المتحدة الأول في سورية ومختلف أنحاء المنطقة، وبما أنه لا إسرائيل ولا دول الخليج تشاطرها وجهة النظر هذه، فستتراجع شراكاتنا الإقليمية تدريجياً طالما أن هذه الفكرة تشكل أساس السياسة الأميركية.

يعني هذا أن الشرق الأوسط سيصبح أكثر عنفاً وأقل استقراراً مما هو عليه اليوم، فقد أقرت دول الخليج في المجالس الخاصة أن تدخلها في اليمن عكس غياب الثقة باستعداد الولايات المتحدة للتصدي لإيران، كذلك زاد هذا الإدراك لضعف الولايات المتحدة احتمال أن تهاجم حكومة بنيامين نتنياهو أتباع إيران، مثل حزب الله الذي يشكل خطراً مباشراً على إسرائيل.

إذاً، هل تنجح إدارة أوباما في بلوغ معيار فيتزجيرالد وتضاهي حذر بن غوريون؟ وهل تنجح في معارضة طموحات إيران الإقليمية كما لو أنها لم توقع الاتفاق النووي، والعكس صحيح؟ إن كان الجواب نفياً، فسيخلف الرئيس معمعة كبرى في الشرق الأوسط لمن يأتي بعده.

William A. Galston وليام إيه غالستون