الفشل في إدارة ملف العجز المالي في أي دولة يمكن أن يؤدي إلى أوضاع بالغة السوء، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي بل يتعداه إلى الاجتماعي وربما السياسي.

Ad

عاد ملف العجز المالي إلى واجهة الأحداث مجددا، بعد أن اعتمد مجلس الوزراء الحساب الختامي عن السنة المالية 2014-2015، والتي أظهرت عجزاً فعلياً بـ2.721 مليار دينار، وهو الأول منذ 16 عاما، بينما تحدث نائب رئيس الوزراء وزير المالية أنس الصالح عن أن السنة المالية 2015-2016 تشهد عجزاً أكبر في ضوء استمرار تراجع أسعار النفط.

وتزامن الحديث عن عجز الميزانية مع نقاش واسع في وسائل الإعلام ومواقع التواصل حول سبل تغطية العجز مع احتمالات رفع الدعم عن سلع أساسية كالبنزين والكهرباء، فضلا عن إعلان الوزير الصالح دراسة حكومية لإعادة تقييم أسعار أراضي الدولة المؤجرة للآخرين، هذه كلها اتت وسط شكوك في قدرة الإدارة العامة على اتخاذ قرارات من شأنها تمويل العجز وفقا لمفهوم الاستدامة.

ولا ينكر منصف مسؤولية المواطن في سد ما يمكن أن ينجم من عجز في الميزانية، خصوصا أن الخدمات التي يتلقاها المستهلك أشبه ما تكون بالمجانية، لاسيما في الكهرباء والماء والبنزين والهاتف الأرضي وغيرها كثير، إلا أنه في المقابل أيضا لا يمكن إنكار أن الإدارة الحكومية السيئة لا يجوز أن تكون مؤتمنة على الإيرادات الجديدة غير النفطية التي ستتدفق على الميزانية بعد إعادة احتساب أسعار الخدمات لما سيقابلها من هدر مالي لا تزال الإدارة الحكومية تعانيه وتشكو منه في كل مناسبة، دون قدرة على اتخاذ ما يوقف هذا الهدر عمليا.

من يغطي العجز؟

الأكثر أهمية من العجز هو آلية معالجته، وهو ما يرتبط بتحديد درجة المكلفين بتغطية العجز بالميزانية، فمثلا على صعيد الكلفة الكهربائية لا يجوز أن تتساوى كلفة الاستهلاك للكيلووات لصاحب المنزل مع كلفة استهلاك الكيلووات للمجمع التجاري، فضلا عن أنه يصعب تعميم تجربة رفع أسعار الوقود التي تمس السواد الأعظم من المستهلكين قبل التدرج في إطلاق اعتماد سياسات ضريبية تمول الميزانية على الشركات العائلية، ثم المساهمة، والأكثر دخلا، أو حتى فرض ضرائب عالية على بعض السلع غير الأساسية كالسيارات الفارهة وغيرها، إضافة إلى الهدر في المناقصات الحكومية ومصروفات القياديين ومؤسسات الدولة، فعملية معالجة العجز المالي تستوجب اتخاذ إجراءات عادلة ومتدرجة من أعلى هرم الثراء إلى قاعدته وليس العكس... فكم من دولة في العالم أدت إجراءات تحرير الأسعار فيها إلى أزمات سياسية واجتماعية لأنها لم تكن لا عادلة ولا متدرجة.

بالطبع تمويل العجز المالي في دولة كالكويت سيمر بدرجة عالية من الصعوبات، أبرزها عدم رغبة الحكومة في الدخول في مواجهة مع مراكز قوى، كالقطاع الخاص أو شريحة واسعة من أصحاب المطالبات الشعبوية من سياسيين ونقابات لهم قواعد شعبية لا يستهان بها، وهذه تحديات تواجهها العديد من الحكومات في العالم، لكنها تتغلب عليها بما تملكه من كفاءة وشجاعة وقدرة في تسويق البرامج، وهذه من الأمور المفقودة في الإدارة العامة بالكويت التي تتعثر في أبسط الملفات وأسهلها.

فالحديث عن آليات معالجة وتمويل العجز في الميزانية أكثر تعقيدا بمراحل كثيرة من مشكلات كان التعثر نصيبها كجدلية تخصيص أو عدم تخصيص الخطوط الجوية الكويتية أو أزمة تعيينات القطاع النفطي أو إعادة النظر في تسعير الديزل في أول يوم لتطبيق الأسعار الجديدة! فضلا عن فشل مزمن في تواكب مع تراجع مؤشرات التنافسية وفشل مشروعي الدولة الأساسيين طوال فترة الفوائض المالية، وهما التحول لمركز تجاري ومالي وخطة التنمية!

سوابق وآثار

في زمن الوفرة المالية يكون الفشل مقبولا ولو على مضض، لأن هناك إنفاقا استهلاكيا عاليا تضاعف خلال 16 عاما بنحو 6.8 مرات، يغطي الصورة القبيحة لسوء الإدارة، أما في سنوات العجز خصوصا إذا لم تكن المعالجة سليمة فتنكشف الصورة على بطالة في سوق العمل وتنامي لأزمة السكن وتراجع في الإنفاق على الخدمات، كالتعليم والكهرباء وحتى الطرق... وهنا يمكن تكرار السؤال الذي تحول من صيغة استفهامية الى أخرى استنكارية وهو: كيف يمكن توقع نجاح إدارة فشلت، في زمن الفوائض، في وقف العجز؟! علما أن الفشل في إدارة ملف العجز المالي في أي دولة يمكن أن يؤدي إلى أوضاع بالغة السوء، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل يتعداه الى الاجتماعي وربما السياسي.

مضى أكثر من عامين على تصاعد التحذير عن مخاطر العجز ولم يقابل إلا القليل من الإجراءات الخاصة في الإصلاح الاقتصادي الذي يتطلب إجراءات عاجلة تتعلق بإعادة تسعير خدمات وأراضي الدولة بعدالة ووفق شرائح، وأخرى على المدى المتوسط تتعلق بجعل الدولة جابية للضرائب من خلال تطوير البيئة الاستثمارية لجذب الاستثمارات الأجنبية والمحلية في مختلف المجالات، ما سيحقق للدولة عوائد غير نفطية من ناحية، وفرص عمل في القطاع الخاص تقلل العبء عن كاهل القطاع العام الذي يستنزف نحو نصف الميزانية العامة للدولة.

أساس وتعادل

أمس كسر برميل النفط الكويتي حاجز 50 دولارا نزولا، ليقترب من سعر الأساس المعتمد في الميزانية عند 45 دولارا، بفرضية عجز 8.2 مليارات دينار، ويبتعد أكثر عن سعر التعادل في الميزانية عند 77 دولارا، وسط تحديات كبيرة في سوق النفط أحدثها العودة المرتقبة لتصدير النفط الإيراني، فضلا عن تباطؤ النمو في أسواق آسيا وسياسات التقشف الأوروبية، وهذه كلها تؤثر سلبا على الطلب العالمي، ما يعني أن الوقت ليس لصالحنا، وعلينا أن نتحول من عقلية بائعي النفط إلى إدارة الاقتصاد... وهذا تحد كبير لإدارة فشلت في ما هو دون ذلك.