يشهد العالم تغيراً متسارعاً وقد بدأ الأطباء يعلنون ارتفاع متوسط العمر المتوقع للبشر في المستقبل البعيد. في ظل هذه الظروف، من الطبيعي أن يتغير تصنيف العمر بين المراهقة والنضج وأن يرغب الناس في إنجاب الأولاد في مرحلة متقدمة من حياتهم.

ارتفع متوسط العمر المتوقع خلال الثلاثين سنة الأخيرة، ومن الشائع اليوم أن يتجاوز الناس عتبة الثمانين وهم يتمتعون بكامل قدراتهم العقلية. لا تزال هذه الموجة مستمرة. في عمر الخامسة والستين، يمكن أن يتطلع الرجل إلى بلوغ عمر الثالثة والثمانين والمرأة السادسة والثمانين، أي بزيادة سنة عن عام 2005! الأهم من ذلك هو أن نتائج أحدث الدراسات تشير إلى ارتفاع متوسط العمر المتوقع بنسبة ملحوظة في السنوات الأخيرة تزامناً مع الحفاظ على صحة جيدة. أمام هذا الوضع، من الطبيعي أن تتغير نظرة الناس إلى الحياة لأن هذه الظاهرة غير مسبوقة منذ فجر الأزمنة.

Ad

يبدو أن جميع الناس يعتبرون هذه الثورة الصامتة طبيعية مع أنها تبقى استثنائية في تاريخ البشر. لم تعد هذه الأفكار حكراً على عالم الخيال العلمي لأن بعض العناصر بدأ يصبح ملموساً. حين نتوقع أن نعيش حتى 130 عاماً، أو 90 أو 100 على الأقل، يتخذ قرار الامتناع عن الإنجاب قبل عمر الأربعين منحىً مختلفاً بالكامل.

مستوى الخصوبة

يزداد عدد النساء اللواتي ينجبن بعد عمر الأربعين. يبدو كل شيء ممكناً في هذا المجال لكن لا شيء يمنع الخبراء من دق ناقوس الخطر بشأن مستوى الخصوبة. تبقى الإحصاءات واضحة: يتوقف احتمال الإنجاب في الحالات الطبيعية على العمر، وهو أمر تثبته الأرقام. في عمر الخامسة والثلاثين، تبلغ نسبة نجاح الإنجاب 93% وهي تتراجع إلى 64% في عمر الأربعين (مع أنها تبقى نسبة مرتفعة). لكن تعني هذه الأرقام في الوقت نفسه أن 35% من النساء لم ينجبن بعد في هذا العمر، حتى عبر التلقيح الاصطناعي.

في بعض المجتمعات، ارتفع سن الإنجاب إلى 30 عاماً لأن المرأة تنهي تحصيلها العلمي وتعمل وتحقق تقدماً في حياتها المهنية قبل أن تفكر بالإنجاب. قد يرتفع هذا العمر إلى 35 عاماً بحكم ظروف العمل والزواج. اليوم، تغيرت التقنيات المستعملة والخيارات الطبية المطروحة، لكن بقيت مدة الخصوبة على حالها. يمكن أن تعيش المرأة اليوم أكثر من النساء في العصور القديمة بثلاث مرات، لكن لا مفر من أن تضعف خصوبتها بدءاً من المرحلة التي تتراوح بين السابعة والثلاثين والأربعين عاماً.

ينتج الرجل الحيوانات المنوية طوال حياته بينما تملك المرأة مخزوناً محدداً من البويضات وهو يتشكل منذ تكوينها في رحم أمها. بالتالي، يتراجع هذا المخزون مع التقدم في السن وسرعان ما يشيخ. يمكن تقييم الخصوبة جزئياً من خلال احتساب عدد البصيلات الشهرية أو معدل الهرمون التناسلي في الدم. تشير التقديرات إلى أن المرأة الواحدة تنتج نحو 20 بصيلة في الشهر، ويتراجع هذا المعدل بأربع مرات بعد عمر الأربعين.

بشكل عام، يمكن القول إن احتمال الحمل الطبيعي لدى المرأة فوق عمر الأربعين يبلغ 50%، من دون اللجوء إلى التلقيح الاصطناعي. لكن يختلف الوضع بين امرأة وأخرى. من المعروف أن بعض النساء يواجه مرحلة انقطاع الطمث منذ عمر الأربعين، بينما لا تبدأ هذه المرحلة قبل عمر الستين لدى نساء أخريات. لكن من الناحية الطبية، يُفترض أن يسبق ضعف الخصوبة انقطاع الطمث بعشر سنوات، وهذا ما يسلط الضوء على الفارق الكبير بين مختلف النساء. تجدر الإشارة إلى أن انقطاع الطمث يبدأ في مرحلة أبكر بسنتين أو ثلاث سنوات لدى المرأة المدخنة. يبقى الإنجاب في عمر الأربعين قراراً شخصياً، لكن يجب تقييم وضع الجسم أولاً وتجنب التفاؤل المفرط.

{معجزة} تكنولوجية

من بين حالات الحمل المتأخرة، تتعدد حالات الحمل الطبيعية. مع ذلك، يتم اللجوء في معظم الأحيان إلى أساليب وهب البويضات. لكن واجه هذا الخيار إخفاقات عدة. يصر الخبراء على ضرورة أن يقتصر هذا الحل على النساء قبل عمر الخمسين لأسباب أخلاقية.

بعد عمر الأربعين، إذا لم يحصل الحمل بعد ستة أشهر من المحاولات، من الأفضل إجراء تقييم شامل للوضع للتأكد من طبيعة العوائق ومن مخزون المبيض. ثم يحين وقت تحفيز المبيض أو التلقيح الاصطناعي، علماً أن هذا الخيار لا يعطي نتائج ممتازة بعد عمر الأربعين. وقد يتطلب الوضع أحياناً اللجوء إلى مراكز وهب البويضات أو التبني.

من الناحية التقنية، تبدو الأساليب المتاحة متنوعة وآمنة لكنّ نتائجها ليست مضمونة. ومن الناحية النفسية، يجب التحلي بقوة شديدة لخوض هذا المسار الصعب. في الوقت نفسه، يجب أن يكون الشريك صارماً بشأن اتخاذ القرار المناسب لأن الصبر سيتراجع مع مرور الأشهر. على صعيد آخر، لا يسهل دوماً التلاعب بالهرمونات كونها تؤثر مباشرةً على المزاج. يمكن ترك هامش لتغيير الرأي منذ البداية والاتفاق على قرار موحّد بين الطرفين.

رغم التقدم الحاصل، يجب ألا تظن المرأة أنها تستطيع الإنجاب في أي وقت تريده، لا سيما إذا كانت تستعمل وسائل منع الحمل، إذ تزداد المهمة صعوبة بعد عمر الأربعين. لدى المرأة فرصة واحدة في السنة لإنجاب طفل في هذه الفئة العمرية. وبدءاً من عمر الخامسة والأربعين، يصبح الاحتمال شبه معدوم. لا يعني استمرار الدورة الشهرية أن الخصوبة لا تزال بأعلى مستوياتها. في النهاية، لا يمكن اعتبار تقنيات الخصوبة عصا سحرية!

مخاطر يجب التعامل معها بكل وعي!

بالنسبة إلى الطفل، يتعلق أبرز خطر بالإصابة بالتثلث الصبغي 21 الذي يمكن التأكد منه عبر فحص الدم ثم فحص المياه الجارية. بشكل عام، تسير الأمور على خير ما يرام ويقتصر احتمال الإجهاض خلال هذا الفحص على أقل من 1%، ويتوافر اليوم فحص حديث أكثر بساطة. لا يواجه الطفل الذي يولد من أم فوق عمر الأربعين أي مخاطر كبرى مقارنةً بطفل وُلد من أم شابة لأن الإعاقات الأخرى لا تزداد مع التقدم في السن. مع ذلك، تشعر الأم بقلق شديد وتركز على خطر التشوه والإجهاض اللاإرادي والولادة المبكرة. لكن يشعر الأطباء بالقلق على الأم أكثر من الطفل لأن المشاكل المستقبلية التي يمكن أن يواجهها الأولاد لا تتضاعف بحسب عمر الأم.

بالنسبة إلى الأم المستقبلية، يتعلق أبرز خطر بعمرها الذي يتجاوز الأربعين عاماً، إذ تختلف هذه المرأة جسدياً عن تلك التي تبلغ 30 عاماً. خلال الحمل، من الشائع أن تظهر أمراض جديدة مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والأورام الليفية. تبقى المخاطر مطروحة، منها التهاب الأوردة والانسداد الرئوي والمشيمة المنزاحة (نزيف عند الولادة). ورغم عدم التحدث عن هذا الموضوع، تشهد وفيات الأمهات تزايداً منطقياً. بالنسبة إلى حالات الحمل بين عمر الخامسة والثلاثين والتاسعة والثلاثين، تتضاعف نسبة الوفيات (وترتفع بثلاثة أضعاف بين الأربعين والرابعة والأربعين، وبعشرة أضعاف بعد عمر الخامسة والأربعين).

مع التقدم في السن، من الطبيعي أن تزداد المخاطر. لكن تخضع الأم لمراقبة مشددة وتعمل المرأة على تقليص المشاكل التي يمكن أن تعلم بها في مرحلة متأخرة نسبياً. غالباً ما تتفوق الرغبة في الإنجاب على مشاعر الخوف وتبقى نسبة المجازفة تحت السيطرة بشكل عام. لكن يتعلق الخطر الحقيقي بعدم القدرة على الحمل.

مرحلة تحضيرية ضرورية

قد يتمتع بعض النساء بمستوى استثنائي من الخصوبة، لكن لا تنطبق هذه القاعدة على الجميع. عند التفكير بالإنجاب في مرحلة متأخرة، لا بد من اتخاذ بعض التدابير الوقائية مثل الإقلاع عن التدخين قبل الحمل، والتنبه من العلاجات بالأدوية، وفقدان الوزن أحياناً استباقاً للوزن الذي يمكن أن تكتسبه المرأة خلال الحمل، واستئناف بعض النشاطات الرياضية أو تجديد نشاط جسدي معين. يوصي الخبراء أيضاً بتقييم وضع القلب والأوعية الدموية لأن اضطرابات القلب تطرح مشكلة حقيقية إذا كانت قائمة قبل الحمل.

بعد عمر الأربعين، يعني قرار الإنجاب أن يطرح الأبوان أسئلة عن وضعهما الصحي الحقيقي أكثر مما كانا يفعلان في عمر الخامسة والعشرين، إلى جانب التساؤل عن القدرة على الاعتناء بالطفل إلى أن يبلغ سن الرشد. تدرك كل امرأة أن الزواج يمكن أن يفشل يوماً وأن المعطيات الراهنة قد تتغير. لكن لإنجاب طفل، لا تبرز الحاجة حصراً إلى اتخاذ تدابير وقائية جسدية، بل يجب الاهتمام أيضاً بالنواحي النفسية مع التمسك بمشاعر التفاؤل تجاه المستقبل.

الفرق بعيداً عن الناحية الجسدية

يجب أن يدرك الجميع أن تجربة الأمومة في عمر الأربعين تغير أموراً كثيرة من الناحية النفسية. في هذا العمر، تكون المرأة في مرحلة مختلفة من حياتها المهنية والشخصية. قد تكون خاضت علاقات زوجية متعددة أو أنجبت الأولاد سابقاً. يلعب النضج والخبرة دوراً أساسياً في هذه التجربة وتبرز عوامل مؤثرة كثيرة، منها مشاعر القلق.

في المقام الأول، تشعر المرأة في عمر الأربعين بالقلق من عدم قدرتها على الإنجاب أكثر من أي وقت مضى، ثم تقلق على الطفل والمخاطر التي يمكن أن يواجهها. ولا ننسى المخاطر التي تواجه الأم لكنها تميل إلى الاستخفاف بها في أغلب الأحيان. تبقى لحظات القلق جزءاً أساسياً من هذه العملية كلها. لا مفر من المرور بلحظات صعبة عند الاضطرار إلى انتظار النتيجة الإيجابية كل شهر. وسرعان ما يبدأ الخوف من اقتراب مرحلة انقطاع الطمث ونهاية الخصوبة، وهي فترة لا تحبذها المرأة بأي شكل.

تختبر الأم الناضجة أيضاً تجربة حياة مختلفة وغنية لكن يشوبها بعض الحوادث المؤسفة طبعاً مثل غياب الأصدقاء أو التعرض لحوادث معينة أو وفاة أحد الأبوين... يصعب أن تنسى المرأة بالكامل أنها تصبح معرضة لمخاطر إضافية حين تقرر الإنجاب في عمر الأربعين. ويصعب استبعاد هذا العامل عند مراجعة الإحصاءات. سرعان ما يصبح احتمال وقوع الحوادث أو الإصابة بمرض أكثر تأثيراً على المزاج العام. حتى بعد إنجاب الطفل، قد يصبح هذا القلق المكبوت خانقاً.

ماذا بعد الولادة؟

بعد ولادة الطفل، تهدأ المخاوف في أغلب الأحيان وتصبح شبيهة بمخاوف الأمهات الأخريات. يتعلق الاختلاف بكل بساطة بفارق العمر وبعدم القدرة على تربية الطفل الأكبر مثل الطفل الأصغر. هكذا تصبح النظرة إلى الطفل مختلفة. من الشائع إذاً أن تستثمر الأم طاقاتها بالطفل الأصغر وتحاول التعامل معه بنضجٍ يكون كفيلاً بإحداث الفرق. هذا الطفل يسمح لها بأن تبقى "شابة”. لا يمكن القيام ببعض النشاطات مثل التزلج في عمر الخمسين مثلاً إلا برفقة الطفل!

ماذا  عن دور الأب؟

يصعب تحديد مسار الوضع بعد الولادة، إذ تختلف شخصيات الأمهات: قد تميل الأم إلى حماية طفلها أو القلق عليه بشكل مفرط، مع جميع التداعيات المنطقية لهذا السلوك. مع تقدم الأم في السن، يزيد قلقها حين يصبح الأولاد في مرحلة المراهقة التي تبدو بعيدة عند الولادة.

يقال إن العلاقة مع الشريك تزداد صعوبة بالنسبة إلى الأم التي تنجب في مرحلة متأخرة. لكن لا شيء يثبت ذلك. تتعلق المسألة فعلياً بطباع الشخص التي تتطور مع مرور الوقت. الأم التي تميل إلى إهمال دورها كزوجة تكشف عن هذه النزعة في عمر الأربعين أكثر من عمر العشرين. تتوقف العلاقة مع الأب على حجم الكيمياء بين الطرفين ويصعب تحديد معايير معينة بهذا الشأن.

باختصار، لم تعد الرغبة في إنجاب الأطفال في عمر الأربعين ضرباً من الجنون أو مجرد حلم بعيد المنال، مع أن مشاكل الخصوبة لا تزال مطروحة. لكل أم الحق في اتخاذ هذا القرار مع الأب شرط التعاطي مع المسألة بكثير من الجدية.