في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

Ad

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

وكانت إمارات الساحل إحدى بلاد الإسلام والعروبة التي كان لرمضان في ضميرها ذكرى وفي قلوب أهلها محل، هي أرض جمعت البداوة بأصالتها والحضارة برقيها فصهرتهما في بوتقة متكاملة متعايشة كانت نواة لدولة فتية متقدمة اسمها الامارات العربية المتحدة.

نبذة تاريخية

كانت الإمارات في مطلع القرن العشرين تسمى إمارات الساحل المتصالح، ولم يكن عدد السكان كبيرا، وكان التجانس بين القبائل والتنسيق بينها عاليا، حيث اقتسم حلفان من القبائل البحر والبر، فحلف القواسم وهم قبائل عمانية عدنانية قدمت من سر من رأي في العصر الوسيط المتأخر فاتجهوا للبحر وحكموا بعض السواحل الإماراتية، وعملوا بالصيد والغوص وصناعة السفن.

وحلف بني ياس وهم مجاميع من القبائل القحطانية اختاروا ان يبقوا في البحر فحكموا أبوظبي ودبي والبر، فأحكموا سيطرتهم عليه وانقطعوا الى تربية الإبل والتنقل الحر في الصحراء الواقعة بين الساحل وعمان والصحراء النجدية.

وبقيت العلاقات بين الحلفين القبليين في معظم فتراتها هادئة، ولم تكن الحوادث والخلافات بينهما تذكر، وكانت حياة بني ياس أكثر استقرارا رغم ان البيئة الصحراوية التي كانت تقطنها قاحلة وشحيحة الموارد، أما حلف القواسم فقد كانت قبائله برعت في صيد السمك والغوص على اللؤلؤ وصناعة السفن التي تعلموها من البرتغاليين.

وعرفت قبائل الحلفين بأصالتها وجذورها العربية العريقة ونشوء الكثير من علاقات النسب والمصاهرة بينها حتى تطورت العلاقات الى ما أصبحت معه في بداية العقد السابع من القرن العشرين دولة متماسكة ذات كيان سياسي واقتصادي شامخين، بعد ان زاد عدد سكانها بشكل كبير لقدوم الكثير من المهاجرين الجدد من المناطق المجاورة او عبر البحار من الهند وبلوشستان والساحل الفارسي والعديد من المناطق الاخرى.

ووجدنا ان من المهم الذهاب الى عمق التاريخ القريب للاطلاع على بعض العادات الرمضانية الإماراتية القديمة التي يمكن من خلالها الاستدلال على نمط الحياة والحالة الاجتماعية التي تطورت حتى أصبحت على ما هي عليه.

الاستعداد والاستقبال

تختلف حياة سكان إمارات الساحل في الماضي عن سواهم من سكان الجزيرة العربية، فقد كانت لحياتهم خصوصيتها التي لا تشبه البقية، فقد كانوا حضرا سكنوا الساحل واعتمدوا على البحر، وبدوا عاشوا في صحراء الامارات واعتمدوا على تربية الابل والمواشي، واضفى ارتباط الفئتين بالبيئتين الكثير من الطقوس وانماط المعيشة الخاصة بهم، والتي انعكست على السلوك الاجتماعي لنمطين من الحياة يمثلان نموذجين من المعيشة رغم تواصل البدو والحضر أحيانا وانتقال ساكني الصحراء الى الساحل في أوقات معينة من العام، مثلما تعاكسها رحلة أخرى للحضر باتجاه بعض المناطق الباردة نسبيا في الصيف هروبا من الحرارة الشديدة بما كان يعرف بالمقيظ باتجاه الواحات.

الحياة الساحلية

وكان حضر الامارات ساكنو الساحل سلكوا نمط المعيشة الذي يعتمد على البحر فامتهنوا صيد السمك والغوص على اللؤلؤ وإصلاح السفن والتجارة عبر البحار حتى برعوا بها جميعا، واعتمدوا في طعامهم على الزراعة المحلية وصيد السمك وما يجلبوه معهم من اطعمة والبسة من البلدان البعيدة التي تصلها سفنهم، فقد كان خور دبي من اهم موانئ الخليج في الماضي قبله كان دبا الحصن.

وفي أواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين اصبحت دبي اهم امارات الساحل على الاطلاق، حيث كانت مركزا تجاريا هاما ومستوى معيشة سكانها كان الأفضل بين بقية امارات الساحل، وفي دبي كان السوق الأهم الذي يأتيه الحضر والبدو في الامارات في الأعوام المئة والخمسين الماضية.

وانقسمت الامارة الى ثلاث مناطق رئيسية هي ديرة على الضفة الشرقية للخور، وهي المنطقة الاهم، والشندغة في الضفة الغربية من الخور وفيها قصر الامارة، وبر دبي الذي يفصله عن الشندغة ساتر رملي يسمى الغبيبة.

اما أبوظبي فتتشابه في نمط الحياة وسبل العيش مع دبي، وإن كانت بحجم اقل، على ان العديد من الواحات الزراعية المنتجة للتمور والخضار في رأس الخيمة وعجمان والفجيرة والعين وبعض الامارات الأخرى كانت توفر معظم حاجة السكان من الخضار والتمور.

بدو الإمارات

أما بدو الامارات فقد كانوا كسائر بدو الجزيرة العربية يتنقلون من مكان الى آخر وراء الكلأ والماء، وقد تعودوا على الصحاري الواقعة خلف السواحل مباشرة وخبروها، كما تعودوا ان يحضروا حاجاتهم الغذائية والملابس على بساطتها من أسواق الساحل المعروفة، خاصة دبي وأبوظبي.

وكما يشترون من هذه الأسواق فإنهم يبيعون ما لديهم من منتجات يغلب عليها مشتقات الالبان والاصواف المصنعة محليا والحطب الذي يستخدم وقودا، واشتهر بدو الامارات بتربية الابل ورعيها ودرايتهم بطرق الصحراء والأجواء، وعلى العكس من سكان الساحل فإن بدو الامارات كانوا متجانسين حيث كانوا يتحركون ككيانات اجتماعية قبلية متماسكة فيما كان الحضر مجاميع من المهاجرين القادمين من البادية او عبر البحر.

وقد شكل المهاجرون القادمون عبر البحار من الساحل الإيراني او من ماكران ما يقترب من نصف عدد سكان الساحل، لكن الغلبة والرئاسة بقيت لبني ياس في دبي وأبوظبي، وللقواسم في بعض الامارات الأخرى.

رمضان على الأبواب

كان للاماراتيين اهتمام خاص بقدوم الشهر الفضيل، لذا تجدهم قد استعدوا لاستقباله منذ اول شعبان بتجهيز القمح وطحن الهريس التمر، ولعل اهم أدوات المرأة الإماراتية قبل مئة عام الرحى التي تعتمد عليها في الطحين، لذا فإن بعض أهل الصنعة من المهاجرين تخصصوا في إصلاح الرحى وتخشينها، بعد ان تكون أسنانها قد استهلكت من الاستخدام، من خلال طرق وجهها الداخلي وتخشينه بأدوات معدنية خاصة.

وتستخدم الرحى في طحن القمح لعمل الخبز، كما تطحن بها بعض البهارات ومواد الحلويات، اما بشأن الهريس فإن القمح يوضع في الايوان، وهو وعاء خشبي كبير له مدق طويل مصنوع من الخشب أيضا، وتتم عملية الدق بضربات متتالية ترش على أثرها كميات من الماء لإزالة قشور القمح، ثم تقوم النساء بنسف القمح المدقوق لإخراج السبوس من الحب.

اما القهوة فتحمس على الفحم العماني وتدق بالهون وكذلك الهيل، ولعل عملية تبريد الماء اهم ما تقوم به المرأة الإماراتية في رمضان قديما، حيث تملأ الحب، وهو اناء فخاري كبير، منذ الصباح الباكر ثم تغلقه بقطعة من الخيش لحمايته من الذباب والحشرات، وربما دخل الناس في أجواء رمضان منذ منتصف شعبان حيث تعود الحضر منهم على الاحتفال بيوم 15 شعبان بتوزيع الحلوى والمكسرات على الصغار، لكن بساطة الحياة وتدني القدرة الشرائية للناس كانت ترخي بظلالها على نوع الحاجات وحجم الشراء في تلك الأيام.

أشهر الأسواق

ورغم انتشار الكثير من الدكاكين في مختلف الاحياء الإماراتية التي توفر أهم الحاجات المنزلية كالشاي والسكر والقهوة والأرز والقمح وبعض الاواني الفخارية وأدوات الإضاءة البدائية، والتي كان بعض الاماراتيين يتبضعون لشهر رمضان منها، فإن الدكاكين نفسها وبعض الميسورين ومتوسطي الحال يتجهون للتسوق من أهم الأسواق الموجودة في أبوظبي ودبي والشارقة، لما توفره من تنوع في البضائع وأسعار مناسبة.

ولعل أهم أسواق الإمارات القديمة التي كانت مقصدا للمتسوقين من أهل الإمارات والمناطق العمانية والسعودية القريبة من إمارات الساحل ثلاثة أسواق رئيسية: دبا الحصن وهو سوق تاريخي مشهور تعود جذوره الأولى الى العصر الجاهلي، حيث كان يوازي أسواق العرب المشهورة في تلك الحقبة من الزمن وان كان قد تغير كثيرا وربما تغير مكانه أيضا.

وكان دبا الحصن يقع قبل مئة عام على شاطئ خليج عمان في منطقة دبا الشهيرة بالشارقة، وكانت معظم بضائعه من المواد الغذائية التي كانت تتنوع بين المحاصيل الزراعية التي تنتج في دبا والشارقة ذات التربة الخصبة، والتمور القادمة من الواحات المجاورة والمانجا القادمة من المناطق العمانية المجاورة، كما يباع بها القمح والبهارات ومواد العطارة القادمة من شرق إفريقيا والهند، من خلال السفن الدباوية التي كانت تجوب البحار، كذلك كان السوق عامرا بالأسماك التي عرف أهل الشارقة بصيدهم لها وعرف خليج عمان بكثرة الأسماك وتنوعها، وكان هذا السوق مقصدا لمعظم سكان الساحل، حيث كان يشهد نشاطا ملحوظا في شعبان ورمضان.

وسوق البانيان وهو أهم أسواق ابوظبي في بداية القرن العشرين، حيث ساهم في تراجع أسواق رأس الخيمة والشارقة وعجمان وسقوط لنجة بيد الإيرانيين بنشوء السوق وازدهاره، وكان في بدايته سوقا لتجارة اللؤلؤ ونشاط الطواويش وتجمعا للبحارة وحكاياتهم، ثم انتشرت المحلات والبضائع المختلفة بعد ذلك، مثل الأغذية كالأرز والدهن والقهوة والتوابل والبهارات.

كما انتشرت محلات الأقمشة التي تأتي من بومباي، وكذلك محلات الخياطين والأسلحة، ويرتاد السوق الكثير من سكان أبوظبي وبدو الامارات، لما يوفره من بضائع تقليدية وطويلة الأمد، كما تنشط تجارة الملابس في النصف الثاني من رمضان استعدادا للعيد.

اما سوق الخور في دبي فهو أشهر أسواق الخليج وأكبرها في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ووصفه بعض الرحالة الاوروبيين بأنه انشط الأسواق وانظفها واكبرها على الاطلاق، حيث بلغ عدد الدكاكين فيه 350، وكانت الممرات بين الدكاكين مسقوفة ومضاءة، حيث تتوزع المصابيح الزيتية في المحلات وامامها ويجلس التجار في الممرات امام دكاكينهم فيعقدون الاتفاقات ويعالجون مشاكلهم ويبحثون في أحوال الناس واخبار التجارة.

وربما كان لعدد السكان الكبير لدبي بأجزائها الثلاثة القديمة والحالة المادية الجيدة لسكانها أثرهما بالنشاط الكبير الذي عرفه سوق الخور خاصة في موسم رمضان، وكانت أهم العملات المتداولة في السوق، والتي تتم بها عمليات البيع والشراء الروبية الهندية والتومان الإيراني والليرتين البريطانية والنمساوية.

المدفع والمسحر

لم يكن مدفع رمضان دخل الخدمة في إمارات الساحل الا قبل خمسين عام تقريبا، أي في ستينيات القرن الماضي، وعرفته دبي وأبوظبي وكان مصنوعا في بريطانيا بين عام 1930 و1942م، ثم توقف استخدامه في بداية العقد السابع من القرن الماضي أيضا، بعد ان كانت تطلق طلقاته في فطور شهر رمضان.

أما المسحر او أبوطبيلة فقد عرفته معظم إمارات الساحل منذ نهاية القرن التاسع عشر، وكان يدور في الفرجان وهو يضرب على طبلته قبل وقت السحور، مرددا بعض الأناشيد والجمل المكررة، مثل يا نايم الليل قم اتسحر قم ويا نايم قم اتسحر قم قومك أخير من نومك، وكان عمل المسحر تطوعا لوجه الله، وإن كان بعض الأهالي يعطونه بعض النقود والاطعمة.

المائدة في رمضان

وكان التمر والحليب او اللبن ضيفين دائمين على مائدة رمضان الإماراتية القديمة، وربما تواجدا وحيدين في بعض أيام شهر رمضان على موائد الفقراء والمعوزين خصوصا ساكني بر الإمارات، بينما كان الهريس ضيفا هاما على المائدة.

لكن الحالة المادية للاماراتيين في اربعينيات القرن الماضي بدأت بالتحسن، فبدأت معها المائدة الرمضانية بالتنوع أيضا في الأصناف والكميات، فأصبح الأرز من الأطعمة الأساسية وكذلك الثريد، اما السمك فإن أشهر طبخاته الجشيد وربما طبخ البدو المالح وهو سمك مجفف، ويدخل التمر، الذي كان يتوافر في أسواق الامارات، بكثرة في معظم الحلويات القديمة كالبثيث والمدبس، كما عرف الاماراتيون بعض الحلويات الأخرى كاللقيمات والعصيدة والخنفروش.

أما البدو فكانت مائدتهم محدودة الأصناف، وتعتمد على منتجاتهم، والقليل يشترون من الأسواق القريبة من منازلهم، وغالبا ما تتوزع بين حليب الناقة والتمر والجامي واليقط، كما أنهم يذبحون من حلالهم ودبشهم في بعض الأحيان.

العادات الجميلة

وكانت لبساطة الحياة في البادية أثرها الكبير في استقبال البدو للشهر الكريم، فقد تعودوا على ان يتحروا قربه فيجمعوا الحطب والصخام والحشيش والثمام على ركابهم ويتجهوا الى الأسواق القريبة ليبيعوها ويشتروا بثمنها حاجاتهم من الأرز والطحين والقهوة والتمر، ثم يعودوا الى البادية مرة أخرى قبل مغيب الشمس، ثم يبدأوا في تحري الهلال في اليومين الأخيرين من شعبان، فإذا ثبتت رؤيته فإنهم يطلقون الطلقات المتتالية من بنادقهم، فإذا سمعها الآخرون اطلقوا بدورهم الرصاص الحي حتى يشيع الخبر لدى عموم أهل البادية.

أما اهل القرى والمناطق الحضرية فإنهم عانوا مشقة الصوم أيضا ان جاء رمضان صيفا، حيث لم تكن اجهزة التكييف والكهرباء قد دخلت الأرض الإماراتية بعد، فقد يصل الامر ببعضهم إلى ان يبلل ثيابه بالماء ليخفف وطأة العطش او يضع قربة الماء على صدره.

وتعود الغالبية منهم على استخدام المهفة المصنوعة من سعف النخل وجريده، وكان الجيران وأهالي الفريج يتبادلون الأطعمة قبل الفطور، وان من النساء من تكمل حاجاتها في الطبخ من جيرانها، ودأبت بعض الفرجان على بناء بعض الحظائر من السعف والخوص لتكون مقرا للفطور الجماعي والصلاة طوال أيام شهر رمضان ولياليه، لقلة المساجد المتوافرة، فيحضر الأهالي ما تيسر من الطعام ليتشاركوا بفطور جماعي.

وتستغل الحظيرة في الرمسة والالتقاء بالجيران، وتعود أهالي الامارات في الماضي على تعليم صغارهم الصلاة والصوم منذ سن السابعة رغم صعوبة الصيام في تلك الأيام، حتى انهم ليروا صغارهم يختلسوا شرب الماء فيغضوا الطرف عنهم ويتظاهروا انهم لم يروهم.

*كاتب وباحث كويتي