في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

Ad

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

عمان سلطنة عشقت البحر فاحتضنته، وسافرت في بحار من شموس حتى عانقت سهيلا فبكى على فراقها حين غاب، شعبها الأصيل صنع مجدا فنثره على صدر التاريخ، وأنبتت الجذور عادات وتقاليد عكست رقيا في الروح ونفوسا راضية، حيث للعماني تراث رمضاني لا تجده في مكان آخر، ونهار أبيض كقلبه، إذ التأنق في السلوك والتألق في الخضوع لله يعنيان البساطة والإصرار والابتسامة.

عمان الأرض والحياة

عمان جغرافيا تقع في الجنوب الشرقي للجزيرة العربية، وكان لمساحتها الشاسعة وشواطئها الطويلة الممتدة على الخليج العربي وخليج عمان وسيطرتها على مساحات شاسعة من شرق إفريقيا خلال القرنين الماضيين، ثأثير على التاريخ والسكان، حيث كثرت الهجرات الى مركز السلطنة وتنوع العنصر السكاني وتعددت اللهجات، لذلك فان اللغتين البلوشية والسواحلية منتشرتان بوضوح في عمان رغم ان العرق العربي الأصيل هو الغالب، واللغة العربية بلهجة عمانية هي الرسمية والمتداولة عند العامة.

لكن ما تتميز به عمان ثلاثة أمور غالبة، أولها هامش التسامح الديني الكبير الذي يجد معه اتباع المذاهب الإسلامية المختلفة حرية مطلقة في ممارسة معتقداتهم دون تضييق من الدولة او الناس، وثانيها المساواة بين المواطنين والعيش المشترك دون تفضيل عنصر على عنصر أو عرق على عرق، ودون مساس بحقوق المهاجرين الذين قدموا إلى السلطنة من المستعمرات أو الجوار طلبا للسلامة والامن والعيش الكريم، وثالثها العمق الحضاري الضارب في الأعماق، حيث ارتبط التاريخ العماني بحضارات قديمة معروفة تركت ارثا كبيرا وارخت بظلالها على السلوك الإنساني لسكان السلطنة حتى يومنا هذا فكان ان تم تسجيل العديد من المواقع الاثرية في التراث الإنساني للأمم المتحدة ليكون شاهدا على ارض تتنفس التاريخ وشعب عميق الجذور لا يشبهه الا القليل من ساكني المنطقة.

على أن للأنماط المعيشية التي مارسها العمانيون عبر التاريخ خاصة في القرنين الماضيين أثرا واضحا في السلوك الراقي والانقطاع الى الذات دون الشعور بالحاجة الى الآخرين ودون وجود نفس عدائي يلحق الضرر بالآخرين ايضا، فقد كانت للعمانيين اليد الطولى في السيطرة على اقدم الطرق التجارية القديمة في العالم، وهو الممر القادم من المحيط الهندي الى الخليج العربي.

كما كان للساحل الطويل الممتد لأكثر من الف وثلاثمائة ميل أثره في علاقة العمانيين بالبحر، حيث عرف خليج عمان بغزارة الإنتاج السمكي وتنوعه، وعرفت عمان بأنها واحدة من اهم الدول المنتجة للاسماك في المنطقة، ولا يخفى ان للثروة الحيوانية وتربيتها أهمية قصوى في حياة العمانيين وانماط معيشتهم وتنوعها أيضاً، حيث اشتهرت عمان بتربية الجمال والماعز والاغنام والابقار وأنواع المواشي الاخرى.

وقد قدرت أعداد المواشي العمانية في بداية القرن العشرين بـ50 الفا من الجمال ومثله من الابقار، وأكثر من مائتي ألف من الأغنام وضعفها من الماعز، كما ان الواحات الزراعية في عمان كانت واسعة ومتنوعة المحاصيل، حيث عرفت المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية والسهول الوسطى الداخلية بالزراعة المتنوعة، هذا عدا الموانئ العمانية التي كانت ناشطة مع شرق افريقيا والهند وبلاد فارس والتي جعلت من سكان السواحل القريبين من الموانئ تجارا او عاملين في التجارة.

أما الزراعة فقد اشتهرت الواحات العمانية الداخلية بإنتاج الخضراوات بمختلف أنواعها، إضافة الى التمور، واما سهلا ظفار والباطنة فقد اشتهرا قديما بإنتاج العديد من الفواكه والحمضيات كالموز وجوز الهند والليمون والعديد من المنتجات الزراعية الأخرى.

وقد كانت تضاريس عمان عامل استقرار وامان للعمانيين دوما، حيث كانت الجبال حاجزا طبيعيا لحماية مسقط والعديد من المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة كصحار ونزوى وصور وغيرها من أي خطر وفرغتهم للاعمال الزراعية والبحرية.

كما كانت رمال الربع الخالي حامية طبيعية للقبائل العمانية التي عملت بالزراعة والرعي في الماضي، حيث لم تواجه يوما هجمات القبائل واطماعها، وما كان معروفا في الجزيرة العربية في القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين.

استقبال الشهر الكريم

تعود العمانيون على ان يستعدوا لاستقبال الشهر الكريم منذ النصف الثاني من شعبان بشراء حاجاتهم المنزلية القديمة التي تعارفوا عليها كالاواني ومعدات المطبخ والحاجات الغذائية كالبهارات والحنطة والأرز والسكر والشاي والقهوة والتمور وغيرها، كما تعودت العمانيات على ان يقمن بتنظيف منازلهن في اليومين الأخيرين من شهر شعبان، فلم يكنّ يتركن فراشا او حائطا الا وينال نصيبه من النظافة.

وقد كان العمانيون يستهلون لهلال شهر رمضان جماعات في الغالب، ففي القرى والواحات والمناطق المجاورة للشواطئ كانوا يخرجون كبارا وصغارا الى بعض الأماكن القريبة المكشوفة او المرتفعة التي يكونون قد تواعدوا في الخروج اليها قبل المغرب بقليل.

وحين تتم رؤية الهلال يستبشر الناس ويتبادلون التهاني ويقومون بإبلاغ من لم يحضر الاستهلال او من لم يصله خبر الرؤية برؤية الهلال، وكان بعض الأهالي في بعض المناطق العمانية خاصة المدنية منها كمسقط يصعدون سطوح المنازل للاستهلال، ومن يرى الهلال يقوم بمساعدة الآخرين على تحديد مكانه ورؤيته.

وتعددت الطرق القديمة لتبادل خبر رؤية الهلال، فكان ساكنو الواحات الداخلية يطلقون نيران بنادقهم احتفالا بالرؤية واخبارا للآخرين، بينما كانت المساجد رغم قلتها وسيلة مهمة في بعض المناطق المدنية لإبلاغ الاهالي برؤية الهلال، من خلال صعود المؤذن الى سطح المسجد والمناداة على الأهالي.

وكانت الوسيلة الشائعة في معظم المناطق خاصة الساحلية منها هي تبادل الاخبار بين الناس، من خلال تواصل الجيران وعبر المجالس الرجالية المنتشرة في مختلف الاحياء وخاصة مجالس الأثرياء والوجهاء.

العادات الرمضانية

عرف الشعب العماني بالأصالة والخلق الرفيع والدين القويم والتراحم والتواصل، وكان الأقارب يتذاكرون فقراءهم ويبرون بهم عبر شراء بعض الحاجات الرمضانية وايصالها لهم، كما كان إفطار اليوم الأول من شهر رمضان هاما، حيث يكون عادة جامعا لكل افراد الاسرة.

وللفطور العماني القديم طقوسه الخاصة، حيث تعارف الأهالي في معظم مناطق عمان على البدء بالتمر والقهوة او التمر واللبن، ثم القيام من السفرة لأداء صلاة المغرب والعودة للمائدة من جديد، وكان الرجل الكبير هو المتحكم بالسلوك الجماعي للأسرة فيتبعه افراد الاسرة دون تردد.

وقد يقوم الكبير باستقبال المهنئين بالشهر المبارك اذا كان من الوجهاء، فيتم تجهيز المجلس بعد الفطور مباشرة واعداد الشاي والقهوة وبعض الحلويات التي تعدها النساء في المنزل، وكانت عادة تبادل الأطعمة مع الجيران من اجمل العادات العمانية، وان لم تكن مقتصرة على العمانيين وحدهم، فهي عادة كانت منتشرة في مناطق الخليج والجزيرة والحجاز والعديد من المناطق الاخرى.

وفي عمان قديما ترى الصغار يحملون اواني الأطعمة قبل وقت الفطور بقليل متجهين الى المنازل المجاورة لايصالها اليهم، وتتم العملية من الجميع في حركة دائبة كعادة رمضانية اصيلة تكرس العديد من معاني التواصل والتراحم والمحبة بين الأقارب والجيران.

وفي بعض المناطق الساحلية كان الأهالي يرسلون الأطعمة الى المساجد، حيث تقام بعض موائد الإفطار الجماعي التي يأتيها الغرباء والسابلة والعاملون على المراكب من غير العمانيين هناك، كما كانت الزيارات العائلية أحد معالم ومميزات الشهر الكريم، حيث يقوم الأهالي بزيارة أقاربهم بعد الفطور وتقديم التهنئة بالشهر والجلوس معهم وتبادل الاحاديث والاخبار الخاصة والعامة.

ولوجهاء القبائل والتجار والاثرياء العمانيين دور كبير في تكريس بعض المفاهيم الدينية والأخلاق الإسلامية، من خلال توزيع بعض الأطعمة كالارز والطحين على الفقراء من الجيران، وهي عادة كانت منتشرة في بعض المدن الساحلية مثل مسقط وصحار ونزوى كعرف اتبعه الأثرياء العمانيون إحساسا منهم بأن للسائل والفقير والمحروم نصيبا في أموالهم.

وإنك لتجد هؤلاء الأثرياء والوجهاء وقد فتحوا مجالسهم لاستقبال المهنئين بالشهر، وتبادل الحديث مع الجميع في مختلف الشؤون التي كانت تهم الناس في تلك الفترة، وسط جو من الوئام والكرم، حيث الشاي والقهوة والحلويات التي تقدم للزوار.

القرنقشوه والرعبوب

القرنقشوه عادة خليجية معروفة تسمى في الكويت قرقيعان، وفي امارات الساحل والاحساء والبحرين وقطر قرنعوه، وفي بعض الولايات العمانية الغربية والوسطى كان يسمى تلميس او رعبوب، فكان الأطفال يدورون على منازل الحي وهم يحملون بأيديهم بعض الاصداف البحرية يصفقون بها ويغنون قرنقشوه قرنقشوه عطونا شي حلواه قرنقشوه يوناس عطونا بيسة وحلوى دوس دوس في المندوس حارة حارة في السحارة، فيعطيهم الأهالي بعض الحلوى والمكسرات ليدخلوا السرور في قلوبهم.

ويقال إن تسمية قرنقشوه جاءت من الصوت الذي يحدثه ضرب الاصداف ببعضها، وكان انتشار هذه العادة قديما في المناطق الساحلية ثم بدأت تنتشر في بعض المناطق الأخرى التي كان أهلها يتواصلون مع المناطق الساحلية ويتعايشون معهم في رمضان.

المائدة العمانية

انعكست الاصالة العمانية على المائدة الرمضانية بشكل جلي فانفردت بأصناف عديدة لا تجدها الا في المائدة العمانية، ورغم اصالتها وخصوصيتها فقد كانت بسيطة وتعتمد على مواد متوافرة في السوق العماني قديما، وهي اكلات شعبية في الغالب، أي تتوافر في معظم الموائد العمانية.

وتنقسم الأطعمة العمانية الى ثلاثة أساسيات تتفرع منها بقية الأطعمة، أولها ما يصنع من القمح او ما يسمى المخبوزات كاللقيمات والرخال والباكورة والثريد، وهو الخبز المقطع والمقمور بالمرق واللحم والمطشش والحوج والتاوة والمبصل والكتنبورة واللولا والمقصص والهريس وغيرها الكثير.

والأساس الثاني هو الأرز ومشتقاته، مثل اطباق الازر العمانية كالقبولي والمحمر والمكبوس، وما يضاف له من خضار ولحم ودجاج، وثالثها السمط بأنواعه وطبخاته، وهو معروف في بعض المناطق خاصة الساحلية منها، حيث يعتبر السمك طبقا مهما سواء اضيف الى الخبز او الى الأرز، مثل السردين والمطفاي والمالح والمدخن والشارفة.

أما الحلويات العمانية فأشهرها المسكتية، وهي حلوى مشهورة في عمان والمناطق المجاورة لها، تصنع من النشا والسمن والسكر والعسل والهال واللقيمات والنارجيل والفندال وبعض الحلويات الأخرى كالسخانة والساقو الخنسروس، والثلاثة تتشابه في التصنيع وتختلف في الأسماء بحسب المناطق والولايات العمانية.

ورغم التنوع السابق فإن المائدة العمانية لا تكاد تخلو من التمر ابدا وبمختلف المناطق، فيقدم رطبا او تمرا او معمولا بحسب المواسم والمناطق، كما ان اللبن والسنود والقهوة مشروبات أساسية في الإفطار العماني.

أبو طبلة والديك

إن التنوع الاجتماعي العماني واختلاف العادات في المناطق ساهم بالتنوع في طرق التسحير العمانية القديمة، فكانت المناطق الساحلية تعتمد على المسحراتي او أبو طبلة، وهو شخصية مشابهة للمسحراتي في الحواضر العربية القديمة مع احتفاظه بخصوصية الشخصية العمانية، فكان أبوطبلة يحمل بيده مرواسا يضربه بيده الاخرى، وينادي سحور سحور صايمين يا رقود قوموا ويدور على المنازل في السكك حتى يأتي عليها جميعا، ثم يعود الى منزله بعد إنهاء مهمته وبعد ان يجمع الهدايا التي قدمها له الأهالي، وهي في الغالب بعض الأطعمة، ليتناول بها السحور مع أسرته.

اما في المناطق الزراعية الداخلية فكان البعض يعتمد على الصيحة الأولى للديك في النهوض من النوم وتناول السحور، وقد عرفت الاحياء بعض الديوك التي يحتفظ بها الأهالي من أجل إيقاظهم للسحور او صلاة الفجر في غير رمضان، حيث حجمها الكبير وصوتها المرتفع ودقة مواعيدها، وكانت الديوك عادة معروفة في المناطق الزراعية العمانية، ويعتمد عليها الأهالي وهي بمنزلة مسحراتي قروي.

الأيام الأخيرة

يولي العمانيون الأيام الأخيرة من شهر رمضان أهمية قصوى، حيث صلاة القيام والليلة الموعودة والمساجد العامرة على قلتها في تلك الفترة، وفي بعض المناطق التي كان التعليم بها منتشرا مثل مسقط وصحار كانت تكثر قراءة القرآن في العشر الأواخر.

أما ربات المنازل فكنّ يقمن باعداد حلويات العيد وشراء الملابس وبعض المكسرات والفواكه استعدادا للعيد السعيد، وفي اليومين الأخيرين تقوم النسوة بتنظيف المنازل وتجهيز المجالس لاستقبال الزوار، بينما يذهب الرجال الى ما كان يعرف بالهبطة، وهو سوق مؤقت يقام في الهواء الطلق، وتخصص بضائعه لحاجات العيد، واهمها المواشي والملابس والحلويات، حيث تنشط تجارتها في اليومين الأخيرين من شهر رمضان.

وتنتشر الهبطات في كل المناطق والولايات العمانية في الماضي ويقصدها كل العمانيين، وفي الليلة الأخيرة من رمضان وبعد ان تثبت رؤية هلال شهر شوال تقوم النساء بعمل طبق {العرسية»، من حب البر والأرز ويؤكل صباحا قبل صلاة العيد، ولطبق المظبي أهميته القصوى في اليوم الأول من أيام العيد، وهو يصنع من اللحم المشوي الملفوف بأوراق الموز ثم سن الخيش بعد التتبيل والتبهير.

*كاتب وباحث كويتي