في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

Ad

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

بيروت احدى حواضر المسلمين التي عانقت التاريخ فاصبحت احدى حكاياته التي بها من الاسرار والذكرى وعبق الماضي وقصصه ما يستحق ان يروى.

الشعبانة والسيبانة

كان المجتمع المسلم في بيروت متدينا حيث اعتاد ان يستعد للصوم منذ شهري رجب وشعبان اللذين يسميان اشهر الهلة حيث كانا ينقلان تباشير رمضان بقدومهما فكان البيارتة يصوموا اول رجب والنصف من شعبان وكل اثنين وخميس منهما لتعويد النفس على الصوم وتهيئتها لاستقبال رمضان، وليلة النصف من شعبان كانت ليلة مشهودة لدى البيارتة حيث تقام الاحتفالات في المساجد والزوايا الصوفية ويحضر الاحتفالات كبار الشخصيات البيروتية والعثمانية أيضا أيام الحكم التركي.

وقد استمر القائمون على الجامع العمري الكبير في وسط بيروت القديم على إقامة احتفال سنوي فيه منذ عشرينيات القرن الماضي، وقد تعود المفتي والقاضي الشرعي ومعظم الوجهاء والشخصيات الدينية والسياسية على حضور الاحتفال في الزمن الماضي، وكان التجار وميسورو الحال يغتنمون الحفل فيوزعون في هذه الليلة المؤن والأغذية والأموال على المحتاجين والايتام والفقراء لمساعدتهم في تحمل نفقة رمضان، كما توزع محلات الحلوى وبعض أصحاب المحلات الأخرى بعض الحلويات على الأطفال والمارة والسابلة بالقرب من المساجد والمحال.

كما اعتاد الناس في تلك الليلة على شراء نوع من الحلوى يسمى المشبك ويوزعونه على الاهل والاقارب لتعزيز عرى التواصل والتلاحم ودوام المحبة والصلة، وقد جرت العادة والتقليد في تلك الحقبة الجميلة من الزمن على ان توزيع المشبك يزيد في التشابك الاسري.

وكان البيارته يستبشرون خيرا بقدوم شهر رمضان فيودعونه بطريقة خاصة اسموها السيبانة، ولا يعرف للتسمية اصل وان نسبها البعض الى الاستبانة أي الاستيضاح، فكانوا يخرجون الى الساحات او البساتين والاشجار القريبة أو الشواطئ في نهار اليوم الأخير من شهر شعبان هم واسرهم وربما أقاربهم أيضا فيمارس الصغار اللعب بجوار اهلهم ويقوم الاهل رجالا ونساء بالشواء وتدخين الاراجيل القديمة وتبادل الاحاديث والابتسامات، ولا يعودون الى منازلهم الا عصرا وقد حزموا النيات واستعدوا للصيام بقلوبهم قبل أجسادهم، على ان الباحثين البيارتة ما زالوا في اختلاف على تفسير السيبانة فبعضهم يرى انها الاستهلال لرمضان ومن هنا جاء معناها الاستبانة او الاستيضاح لرؤية الهلال، وكانوا يأخذون معهم بعض الأطعمة ويذهبون مبكرا الى الشواطئ البيروتية كالاوزاعي والرملة البيضا والروشة والصمطية والمنارة، وحين يوفق بعض المستهلين في رؤية الهلال فانهم يتوجهون الى قصر الوالي العثماني ليشهدوا برؤية الهلال، واما بعد انهيار الدولة العثمانية وفي فترة الانتداب الفرنسي فكان المستهلون يتجهون الى دار الإفتاء او المحكمة الشرعية ليدلوا بشهاداتهم، ومن دار الإفتاء او المحكمة الشرعية يتم اعلان غرة الشهر المبارك.

المدفع وعائلة ميقاتي

يقال ان اول مدفع رمضاني دخل بيروت كان الذي ادخله الوالي إبراهيم باشا عام 1859م بعد أن اعجبه المدفع المصري الذي حضر اطلاق طلقاته في رمضان الذي سبق ذلك العام، وكان المدفع الأول بعجلتين يشبه العربة القديمة وتجره البغال، وكان يجهز صباح يوم التاسع والعشرين من شعبان وعند ثبوت الرؤية مساء اليوم يتم اطلاق احدى وعشرين طلقة، ويقال ان الهدف من هذا العدد الكبير من الطلقات كان لإيصال صوت المدفع وخبر بداية الشهر الكريم الى كل سكان بيروت القديمة من المسلمين، وقد كانت الطلقات عبارة عن كيس من قماش الكتان محشو بالبارود يوضع في الماسورة وخيط مربوط بالقداحة فتنطلق الحشوة حين يقوم العامل عليه بجر الخيط فتحدث الطلقة دويا كبيرا، وقد تم وضع المدفع الأول في ثكنة عسكرية تقع على احدى الروابي المطلة على بيروت القديمة والتي أصبحت اليوم مقرا لمجلس الانماء والاعمار، واشرف على طلقات المدفع الأول عسكري {مدفعجي} من الجيش العثماني، وفي عهد الانتداب الفرنسي تم نقل مسؤولية الاشراف على المدفع الى المفوضية العليا لشؤون الإفتاء والاوقاف الإسلامية، وقامت سلطة الانتداب بتعيين عسكري متقاعد اسمه جيناردي مدفعجيا له ولا يعرف ان كان هذا العسكري مسلما ام على ديانة أخرى او ان كان لبنانيا او فرنسيا، ثم أوكلت المهمة بعد ذلك الى رجل من اسرة آل زغلول البيروتية واستبدل المسمى من مدفعجي الى ميقاتي بعد ان تحولت الوظيفة من عسكرية الى مدنية باعتبار ان الميقاتي هو الذي يعتمد عليه البيروتيون في ميقات الصوم والافطار وهو المسمى الأقرب لتوصيف الوظيفة، ومن هذه المهنة اخذت اسرة ميقاتي الحالية المعروفة لقبها حيث اصبح جدها في أواخر القرن التاسع عشر مدفعجيا ثم عاد ميقاتيا للمدفع الرمضاني بعد الانتداب، وقد تم نقل المدفع من التلة القديمة الى تلة الخياط وهي الأعلى في بيروت ثم نقل مرة أخرى الى تلة زريق بالقرب من دار الايتام الإسلامية ليتوسط بيروت الإسلامية ويصل صوته الى اكبر عدد من الصائمين، واستمر المدفع بأداء المهمة رغم تلاشي أهميته بعد ان انتشر استعمال المذياع والتلفزيون حتى عام 1975 بداية انطلاق الحرب الاهلية حيث توقف العمل به.

البيارق والتوحيش

كانت فرحة البيروتيين بقدوم الشهر لا توصف، فمنذ اللحظة التي يعلن فيها عن اول أيام رمضان تبدأ فرق الانشاد الديني التي كانت معروفة في أوائل القرن العشرين بتنظيم مسيرات الانشاد وهي تجوب شوارع ودهاليز بيروت رافعة البيارق، فيشارك المسلمون البيروتيون بهذا الكرنفال الديني الذي يستمر حتى منتصف الليل، ولشدة تعلق الناس برمضان فإنهم يمارسون ما كان يعرف بالتوحيش في العشر الاواخر من الشهر وهو اللجوء الى المساجد وحلقات الذكر واحياء الليالي بالعبادة والانشاد وقراءة القرآن كاعلان رغبة باستمرار أيام الشهر الفضيل ولياليه وعدم رغبة الناس بانتهائها.

الأسواق البيروتية

وتزداد حركة التسوق بشكل لافت في الأيام الأخيرة من شهر شعبان والأيام الأولى من رمضان حيث كان البيروتيون قد اعتادوا شراء الأغذية وما يرتبط بها والملابس وبعض الحاجات الأخرى التي يحتاجونها في شهر رمضان، فكان رب الاسرة في الغالب يقوم بشراء ما كان يسميه البيروتيون المونة، وهي شراء تموين شهر رمضان بكميات كبيرة حيث يتنقل بين محلات الخضار واللحوم والاسماك يرافقه عتال السل الذي استأجره لحمل المونة وكلما اشترى شيئا أعطاه العتال ليضعه في السل حتى يجمع معظم ما يحتاجه هو واسرته في رمضان من عدة أسواق متجاورة ثم يذهب الى منزله برفقة العتال الذي يوصل السل الى منزل المتسوق ويأخذ أجرته وهي خمسة قروش في عشرينيات القرن الماضي بعد ان يوصل المونة الى المنزل.

ولعل اكثر الأسواق ارتيادا من قبل البيارته في أواخر شعبان سوق الخضار الذي كان يسمى سوق النورية لأنه يقع بجوار كنيسة سيدة النور، وكان السوق يبيع الخضار بالمفرق ويتزود بالبضائع من تجار الجملة الذين كان لهم سوق خاص يسمى سوق المعلمين ليس ببعيد عن سوق الخضار، واما سوق أبو النصر فكانت محلاته تبيع القمح والحبوب والمكسرات والمواد الغذائية الأساسية.

وقد اشتهرت العديد من الأسواق البيروتية القديمة التي ارتبطت بالتاريخ التجاري للمدينة، وتنوعت بشكل كبير حتى ان بعضها قد اشتهر بالصناعات او تخصص ببعض أنواع السلع، فيما اطلقت التسميات على بعض الأسواق نسبة الى أسماء بعض الأشخاص، ولذا فإنك تجد أسواق الصناعات كسوق اللحامين وسوق الخمامير وسوق العقادين وسوق النجارين وسوق الدلالين وسوق الحدادين وسوق المنجدين وسوق الاسكافية وسوق البياطرة وسوق البوابجيّة وسوق العطارين وسوق الصاغة، كما سميت بعضها نسبة الى تخصصها ببعض البضائع مثل سوق الحرير وسوق الجوخ وسوق الخرّاطين وسوق القزاز ويختص ببيع المصنعات الزجاجية وسوق القطن وسوق القطايف الذي يبيع الحلويات، كما سميت بعض الاسواق باسم اشخاص كسوق رعد وتويني وعيتاني وهاني وادريس واياس والشهابي، ولكل سوق من هذه الاسواق حكاية تستحق ان تروى، ولولا ان المقام لا يتسع للمقال لمررنا بها جميعا، ولذا فقد اخترنا ثلاثة منها للاستدلال على عراقة الاسواق البيروتية القديمة التي يرتادها البيارتة في رمضان والمناسبات الاخرى خصوصا وبقية ايام السنة عموما.

سوق السكافية أو الاسكافية، وهو السوق الذي اختص بصناعة الاحذية وبيعها واصلاحها، وهو من اسواق الصناعات الذي كان يرتاده البيارتة وغير البيارتة لما عرف عن العاملين به من مهارة وتنوع بضائع ورخص اسعار، وكان سوق الأسكافية يقع في باطن بيروت قرب الجامع العمري، وفي السوق كان يوجد مقهى يسمى مقهى الاسكافية ومعظم رواده من اصحاب الدكاكين حيث كان يقدم لهم الشاي والقهوة والنارجيلة، وقد اشتهرت بعض محلاته باسماء بعض الاسر البيروتية التي تخصصت بصناعة الاحذية واصلاحها.

سوق البازار او البازركان، وهي تسمية فارسية معروفة ومتداولة في الحواضر العربية وتعني السوق، ويشبه البازركان سوق الحميدية الدمشقي من حيث التصميم والتخصص، واشتهر السوق بالملابس التي كانت تتوفر في تلك الحقبة من الزمن، وكان يقع على الجدار الشرقي لجامع النوفرة، وكان السوق مسقوفا ولذا كان البعض يسميه سوق القيسارية، وربما سمي بالقيسارية بسبب ملاصقته لقيساريتي الصاغة ومنصور الشهابي، وكانت بعض دكاكينه تختص بخياطة الملابس الرجالية البيروتية وهو الامر الذي جعل محلاته تنشط بشكل ملحوظ في العشر الاواخر من رمضان وبقي السوق حتى ثلاثينيات القرن الماضي ثم تم هدمه بعد ذلك تدريجيا.

سوق العطارين، وكان يقع غرب الجامع العمري وقد تخصصت دكاكينه ببيع البهارات ومواد العطارة والمواد العطرية وادوية الطب الشعبي والزينة النسائية القديمة، وكان البيارته يأتونه قبل رمضان لشراء ما يحتاجونه من مواد الطبخ ومحسنات الطعام والعديد من المواد والبضائع الاخرى.

الحمّامات العامة

اعتاد البيروتيون ان يرتادوا الحمّامات العامة في الأيام الأخيرة من شهر شعبان كعادة سنوية يستعدون بها لشهر رمضان في الماضي، حيث تشهد هذه الحمامات ازدحاما شديدا في النصف الثاني من شعبان، ومن الحمامات البيروتية الشهيرة في العصر العثماني حمام فخر الدين الذي كان يقع بالقرب من ساحة الشهداء وحمام الأوزاعي قرب زاوية الاوزاعي في سوق الطويلة وحمام السرايا قرب جامع منذر التنوخي وحمام الشفاء المعروف بالحمام الصغير والحمام العمومي في محلة الدرك والحمام الفوقاني في ساحة النجمة وحمام القيشاني الذي كان يقع في باطن بيروت.

المسحراتي

وهو شخصية رمضانية محبوبة ومعروفة في معظم المدن العربية، وان اختلف اسمه من مكان الى آخر، وكانت مهمته التطوعية في ايقاظ النائمين قبل السحور تحظى بتقدير الاهالي واحترامهم، وقد يكون في الغالب من اهل الحي ويعرف البيوت بيتا بيتا، فيستعمل الطبلة والعصا وينادي بجمل منسقة جميلة ليصحو النائم فينهض لتناول سحوره، وكان المسحراتي البيروتي يرتدي هنداما شعبيا جميلا قوامه الجلباب والقنباز والطربوش، وفي الليلة الاخيرة وصباح يوم العيد يدور على المنازل فيقدم التبريكات بالعيد السعيد ويقدم له ارباب الاسر العيدية وهي بعض النقود مع شكره على ما قام به طوال ليالي الشهر الكريم.

الزغلولية والمعمول

تنهمك النساء البيروتيات في الايام الاخيرة من رمضان بصف الزغلولية وهي الاصل العثماني لما يعرف اليوم بالبقلاوة، كما تنهمك بصف المعمول وتجهيزهما للعيد، اذ لم يكن البيارته يشترون حلو العيد من الاسواق وانما تقوم النساء بصناعته وصفه في الصواني ويأتي العامل فيأخذ الصواني للفرن البلدي ثم يعيدها بعد تجهيزها فيأخذ بعض القروش أجرة للتجهيز، وكانت الزغلولية والمعمول مهمان في الفترات الماضية ولا يكاد يخلو منهما منزل في العيد.

المقاهي القديمة

كانت بيروت في العصر العثماني محصورة في الاحياء الواقعة داخل السور والميناء فقط، فكانت البسطة الفوقا غالبيتها مساكن للطبقة الفقيرة والبسطة التحتا التي تقع غالبية الادارات الرسمية بها، كما تقع فيها الاسواق والمساجد ويسكنها رجال الدولة والتجار والطبقة الوسطى واصحاب الدكاكين والمحال التجارية، وفيها بني اقدم واهم مقاهي بيروت وهو مقهى {المتوكل على الله} الذي اسسه سعيد حمد احد اشهر شعراء الموال البغدادي الذين عرفتهم بيروت، وفي هذا المقهى كان يجتمع شعراء الموال البغدادي المعروفون الذين يدخلون سباقا شعريا يشعل الحماس في نفوس رواد المقهى في ليل رمضان فتمتد السهرات الرمضانية الى قرب السحور ليتفرق الاحباب على امل الاجتماع في الليلة التالية، وقد استمرت العادة حتى ثلاثينيات القرن الماضي قبل ان يتحول المقهى الى مكان لاجتماعات السياسيين والقبضايات والعلماء والتجار والوجهاء، حيث كان يرتاده رياض الصلح وصائب سلام وعبدالله اليافي وبشارة الخوري، والعديد من السياسيين المشاهير في تلك الفترة، مما اضفى جوا رمضانيا جديدا على المقهى الذي اعتاد الناس على اقامته لمنافسات الشعر فأصبح منتدى سياسيا.

ولم يكن مقهى {المتوكل على الله} الوحيد الذي ينشط في بيروت القديمة ايام رمضان بل ان العديد من المقاهي كانت تفتح في المساء فتستقبل روادها وتقدم لهم المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة كما كان المدخنون يحضرون لتدخين النارجيلة، بينما كانت بعض المقاهي تحضر الحكواتية الذي يروون للحضور الحكايات الملحمية التراثية المعروفة كتغريبة بني هلال وعنترة ومجنون ليلى وبعض الحاكيات التراثية الأخرى، وكانت المقاهي المكان الاهم الذي يجتمع به اهالي الاحياء في رمضان ويلتقون بعضهم ببعض، ولذا فان قرب المقهى من الحي ومناسبته لمزاج الشخص هما العاملان اللذان يحببان الشخص بالحضور ويرغبانه بالجلوس على طاولته من عدمه، وبالاضافة الى الاشعار والحكواتي كان المقهى يوفر بعض وسائل الترفيه الاخرى كالنرد والورق والنارجيلة.

*كاتب وباحث كويتي