في ذاكرة الأيام حكايات للشعوب تناقلتها أجيالها، فيها من البساطة والأصالة والخصوصية ما يستحق أن يروى، وفيها لنا عبر ودروس ومواعظ تخرجنا من عصر السرعة والمادة والتعلق بأستار الرغبات وحطام الدنيا الى مساحات واسعة من الخيال وفضاءات رحبة من التقرب الى الله بنوايا صادقة.

Ad

فللشعوب الإسلامية علاقة روحية برمضان، وعشق أزلي يتجدد باستمرار، تنتظره كل عام بشوق وفرح، ارتبطت به روحا وعانقته وجداناً، وكلها باختلاف ديارها وأصولها اتفقت عبادة واختلفت طباعا وعادات وسلوكاً.

للجغرافيا والمجتمع والتاريخ آثارها في صياغة العقل الكلي وتكوين الإرث عبر السنين.

ونحن في بحثنا هذا نحاول ان نعود بالزمن الى الوراء، ونعيد الرحلة في اتجاه المنابع لأن ما تعيشه شعوب اليوم أتى من بعيد، فهناك ولدت الأسرار. نسافر من منطقة إلى أخرى نبحث عن اخبار رمضان في ذاكرة الزمن الجميل وذاكرة الناس البسطاء، لننقل اخبارا بسيطة مثل اهلها لكنها تخبرنا عن الجذور وعن التاريخ حين يدون برغبة صادقة للوصول الى الحقيقة التي تشير جميعها الى نقاء العبادة والنفوس المطمئنة.

نجران الواقعة في أقصى الجنوب السعودي لها من الخصوصية الاجتماعية لأهلها والمكانة المناطقية ما يستحقان أن نرويهما في هذه الحلقات.

التاريخ في نجران

تعد نجران منطقة تاريخية تكاد تكون واحدة من أقدم المناطق التاريخية في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، وقد وجدت بعض النقوش التي تعود الى عام 660 ق م، وتحكي عن غزوة تعرضت لها نجران على يد يسع بن المجرب حاكم سبأ، وقام ابن المجرب بقتل الأهالي ودمر القرى في ذلك العام، كذلك وجدت بعض النقوش التي كتبت بالخط المسند، وهو الخط الذي كانت مملكة حمير اليمانية تستخدمه في السنوات المائة قبل الميلاد، وقد اعتنق أهل نجران النصرانية في القرن الخامس الميلادي، ولم يأت القرن السادس إلا وكانت نجران كلها نصرانية.

وفي نجران توجد اليوم آثار مدينة الأخدود أو رقمات عاصمة المنطقة القديمة، حيث قام الملك ذو النواس (آخر ملوك مملكة حمير) بمحاصرة نجران وطلب من أهلها التحول من النصرانية الى اليهودية التي كانت حمير تعتنقها، وحين رفض أهل نجران ترك دينهم، غزا جيش ذي النواس المدينة وأحرق الأهالي في الأخدود وهم أحياء، وهي القصة التي ذكرت في سورة البروج.

ولنصارى نجران قصة المباهلة مع النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، وقد تراجعوا وخافوا بعد أن رأوا الوجه النوراني والهيبة العظيمة للرسول الكريم وأهل بيته الذين أخرجهم معه.

نجران قبل مئة عام

حينما كان الفقر والعوز يعمان جزيرة العرب من أقصاها الى أقصاها، كانت الأطراف أفضل حالا من الوسط، فالحجاز والأحساء أفضل من نجد عاليتها وسافلتها، ونجران ربما كانت أفضل حالا من الحجاز والأحساء ايضا، فبساتينها تزود أهلها بالخيرات وأسواقها تمتلئ بالبضائع والمنتجات والصناعات، ومواشيها تملأ الفياض، فلا تشعر إلا بأن من يسكن نجران هم قوم أتوا من عالم آخر وانقطعوا عن محيطهم إلا في بعض الوشائج والأنساب والنعرات والأخوة والتعاملات التجارية مع الجوار.

 فـ{يام» الهمدانية بعد أن سكنت الشرق والجنوب الشرقي عادت لتقترب من الجذور البعيدة، حيث إن للجغرافيا دوما أثرا في النفس لا تدركه العقول، فقد بدا لها أن في الأرض ضيقا فسكنت بعض فروعها نجران، وكان الأمان يخيم على أهلها وساكنيها، وقد انصهر حسن الطباع مع حسنات الحضارة وتاريخ الأرض، فقيل «يام قتالة جبانها»، أي إنها شجاعة لا تقبل أن يكون من أولادها من يجبن في الوغى.

وقد بلغت يام من الجود مبلغا حتى طربت «للخشرة» في الزاد، كانت العادات والتقاليد الأصيلة تقود أهل نجران الى الوئام والسكينة والرضا، ولذا فإن عشقهم لتراب الأرض كان مثاليا، وقد قال شاعرهم:

البلاد أهي العساكر ونجران الأمير

يا فقيد العقل ما مثل زاده وماه

وسط بطنه طلع واربعماية عد غزير

كل ما تشرب سوانيه ما تلحق مداه

رمضان قادم

كان رمضان محسوب الأيام معروف الوقت عند أهل نجران، ففي حسابهم الفلكي الدقيق يعرفون يومه ويعرفون ليلته، ويتواعد الأهالي على البداية التي حسبوها حسابها وكأنهم رأوها رؤيا العين، وكذلك أيامه الثلاثين لا تنقص أو تزيد عندهم يوما، لأنها في الحساب ثابتة، إذن لأهل نجران قاعدتهم الفريدة، ولذلك تجدهم قد استعدوا لليلة الأولى واليوم الأول من دون تردد أو خوف من تغير الحسابات، فللمذهب الإسماعيلي خصوصيته مثلما لبقية المذاهب الإسلامية خصوصيتها، والاختلاف رحمة ودين الإسلام دين يسر في أوله وأوسطه وآخره.

وربما في وفرة الغذاء في السنين الخوالي ما جعل أهل نجران يوفرون حاجاتهم المنزلية بشكل متقارب بين الجميع، فلم يكن التفاوت الطبقي بين أهالي نجران كبيرا، كما كان في بقية حواضر وبلدان المسلمين، كما لم تكن الأحوال المالية للناس قبل مائة عام كما هي عليه الآن في نجران، فلبساطة العيش والتكافل المجتمعي الفطري والعلائق والوشائج ما جعل متطلبات شهر رمضان بسيطة وممكنة وفي متناول اليد، ولا تخرج في عمومها عن التمر والبر واللبن، وربما الذبيحة والخضار المتوافرة في المزرعة أو لدى مزارع الأقارب والجيران، وإن لم تكن متوافرة، فالسوق الشعبية النجرانية القديمة كانت تعج بما يحتاج إليه أهل نجران لفطورهم أو سحورهم، هذه الصورة الرومانسية كانت حقيقية عايشتها نجران وعاشها أهلها في السنين الخوالي.

التسامح في عالم متشدد

كانت البيئة الاجتماعية في الجزيرة العربية ومحيطها والشرق الأوسط، وربما العالم الثالث أيضا متشددة لا تعرف التسامح، سواء في السنوات الأخيرة او في السنوات البعيدة، فكل مذهب أو دين يرى الحق كله معه والباطل كله مع الآخرين، ومع كل هذا التشدد فإن الإقصاء وعدم احترام عقائد الآخرين كانت ومازالت سمة عامة في المنطقة ويمارسها معظم النخب المتدينة.

لكن نجران كانت ومازالت تختلف عن سواها من الحواضر والمناطق، فقد تجاورت فيها ثلاثة مذاهب مسلمة هي السنية والزيدية والإسماعيلية، والأخيرة هي الأكثر انتشارا، ومع ذلك لم تعرف نجران طوال تاريخها مشكلات تتعلق بالمذاهب، بل تجاورت ثلاثتها وتآخت وتحابت وتواصلت بشكل لم تعهده المنطقة في هذه الأيام، أو في الحقب الماضية، وهذا النوع من التسامح كان نابعا من سماحة أهل نجران ولين طباعهم.

وقد عرفوا ببساطتهم وطيبتهم وشجاعتهم، ولذا فإن المجالس في الماضي كانت تغص بالحضور من مختلف المذاهب والقبائل، وتضع الكبار والمسنين في مواضعهم الذي يستحقونها، وفي رمضان كانت المجالس تبدأ بعد العشاء وتتوقف قبل منتصف الليل، وتبدأ الزيارات عادة من أجل التهاني في أول الشهر الكريم، ثم تستمر طوال شهر رمضان كنوع من الأنس والترفيه والتواصل.

وتدور الأحاديث في الماضي حول الأخبار والأحوال التي تخص البلاد والعباد في تلك الفترة، دون أن تهمل أحوال الأقارب والجيران وأهالي الحي والأحداث المحلية كالمواليد والوفيات والمناسبات الاجتماعية الأخرى.

ونجران منطقة شاسعة جبلية وصحراوية وقروية زراعية، ولا تقتصر زيارة الدواوين على أهل المنطقة، وإنما يأتيها الغريب والقاصد والضيف وعابر السبيل والمتسوق والتاجر، حيث عرفت بأنها أحد انشط الأسواق القديمة في الجزيرة العربية، وعادة كانت كلمة «إرحب» تسبق السلام وبقية أنواع الكلام. و»إرحب» هي دعوة للضيف بالدخول وعرض الضيافة بما يمكن للقادم أن يأنس له، وقد كان الغريب مميزا بلباسه الذي سيكون مختلفا عن لباس أهل نجران قديما، فالدشداشة البيضاء والعصبة البيضاء أو الغترة هما اللباس الدائم والثابت الذي يرتديه أهل نجران ويتميزون به، وربما مازال اللباس ذو اللون الأبيض مميزا لأهالي نجران الى يومنا هذا، وإن دخلت العديد من أنواع الألبسة النجدية والحجازية الى نجران حديثا، وأصبح بعض الشباب يميل الى ارتدائها في بعض الأحيان.

ولعل التنوع البيئي وما يتبعه من تنوع اجتماعي جعل الإلمام بكل أحوال نجران في الماضي صعبا، وخاصة في أحوال أهل نجران الرمضانية القديمة، ولذلك فإن التركيز على المنطقة الزراعية المستقرة كان واضحا لتوافر الأخبار التي تخصها وغيابها عن الجبل والصحراء.

المائدة النجرانية القديمة

كانت المائدة النجرانية القديمة مختلفة عن المناطق المجاورة لها، حيث عرفت بأنها متنوعة وغنية، كما عرفت بخصوصية بعض الأطعمة والأكلات التي لا تجدها إلا في نجران.

ومن هذه الأكلات التي تكون عادة موجودة في أغلب الموائد أهل نجران القديمة البر والسمن، وهي خبز القمح السميك المكور والسمن الذي يضيف له البعض حليبا.

وهناك أكلة أخرى تشبه الأولى، وإن اختلفت المكونات وهي الوفد والمرق، والوفد خبز من القمح مكور أيضا وبجانبه يوضع المرق، وأما الرقش فهو شبيه بتشريب اللحم المعروف عند الخليجيين قديما وحديثا.

ورغم ما للمائدة النجرانية من خصوصية في رمضان، إلا انها تتشابه في العديد من الأطعمة مع بقية مناطق الخليج والجزيرة العربية مثل التمر واللبن والمرقوق وبعض الأكلات الأخرى المنتشرة في المنطقة.

كما تأثرت المائدة النجرانية ببعض الأطعمة اليمنية كالحلبة واللحوح اللذين كانا يباعان في السوق الشعبي القديم، ويقبل أهل نجران على شرائهما في رمضان.

نجران الواقعة في أقصى الجنوب السعودي لها من الخصوصية الاجتماعية لأهلها والمكانة المناطقية ما يستحقان أن نرويهما في هذه الحلقات.

التاريخ في نجران

تعد نجران منطقة تاريخية تكاد تكون واحدة من أقدم المناطق التاريخية في الجزء الجنوبي من الجزيرة العربية، وقد وجدت بعض النقوش التي تعود الى عام 660 ق م، وتحكي عن غزوة تعرضت لها نجران على يد يسع بن المجرب حاكم سبأ، وقام ابن المجرب بقتل الأهالي ودمر القرى في ذلك العام، كذلك وجدت بعض النقوش التي كتبت بالخط المسند، وهو الخط الذي كانت مملكة حمير اليمانية تستخدمه في السنوات المائة قبل الميلاد، وقد اعتنق أهل نجران النصرانية في القرن الخامس الميلادي، ولم يأت القرن السادس إلا وكانت نجران كلها نصرانية.

وفي نجران توجد اليوم آثار مدينة الأخدود أو رقمات عاصمة المنطقة القديمة، حيث قام الملك ذو النواس (آخر ملوك مملكة حمير) بمحاصرة نجران وطلب من أهلها التحول من النصرانية الى اليهودية التي كانت حمير تعتنقها، وحين رفض أهل نجران ترك دينهم، غزا جيش ذي النواس المدينة وأحرق الأهالي في الأخدود وهم أحياء، وهي القصة التي ذكرت في سورة البروج.

ولنصارى نجران قصة المباهلة مع النبي الأكرم، صلى الله عليه وسلم، وقد تراجعوا وخافوا بعد أن رأوا الوجه النوراني والهيبة العظيمة للرسول الكريم وأهل بيته الذين أخرجهم معه.

نجران قبل مئة عام

حينما كان الفقر والعوز يعمان جزيرة العرب من أقصاها الى أقصاها، كانت الأطراف أفضل حالا من الوسط، فالحجاز والأحساء أفضل من نجد عاليتها وسافلتها، ونجران ربما كانت أفضل حالا من الحجاز والأحساء ايضا، فبساتينها تزود أهلها بالخيرات وأسواقها تمتلئ بالبضائع والمنتجات والصناعات، ومواشيها تملأ الفياض، فلا تشعر إلا بأن من يسكن نجران هم قوم أتوا من عالم آخر وانقطعوا عن محيطهم إلا في بعض الوشائج والأنساب والنعرات والأخوة والتعاملات التجارية مع الجوار.

 فـ{يام» الهمدانية بعد أن سكنت الشرق والجنوب الشرقي عادت لتقترب من الجذور البعيدة، حيث إن للجغرافيا دوما أثرا في النفس لا تدركه العقول، فقد بدا لها أن في الأرض ضيقا فسكنت بعض فروعها نجران، وكان الأمان يخيم على أهلها وساكنيها، وقد انصهر حسن الطباع مع حسنات الحضارة وتاريخ الأرض، فقيل «يام قتالة جبانها»، أي إنها شجاعة لا تقبل أن يكون من أولادها من يجبن في الوغى.

وقد بلغت يام من الجود مبلغا حتى طربت «للخشرة» في الزاد، كانت العادات والتقاليد الأصيلة تقود أهل نجران الى الوئام والسكينة والرضا، ولذا فإن عشقهم لتراب الأرض كان مثاليا، وقد قال شاعرهم:

البلاد أهي العساكر ونجران الأمير

يا فقيد العقل ما مثل زاده وماه

وسط بطنه طلع واربعماية عد غزير

كل ما تشرب سوانيه ما تلحق مداه

رمضان قادم

كان رمضان محسوب الأيام معروف الوقت عند أهل نجران، ففي حسابهم الفلكي الدقيق يعرفون يومه ويعرفون ليلته، ويتواعد الأهالي على البداية التي حسبوها حسابها وكأنهم رأوها رؤيا العين، وكذلك أيامه الثلاثين لا تنقص أو تزيد عندهم يوما، لأنها في الحساب ثابتة، إذن لأهل نجران قاعدتهم الفريدة، ولذلك تجدهم قد استعدوا لليلة الأولى واليوم الأول من دون تردد أو خوف من تغير الحسابات، فللمذهب الإسماعيلي خصوصيته مثلما لبقية المذاهب الإسلامية خصوصيتها، والاختلاف رحمة ودين الإسلام دين يسر في أوله وأوسطه وآخره.

وربما في وفرة الغذاء في السنين الخوالي ما جعل أهل نجران يوفرون حاجاتهم المنزلية بشكل متقارب بين الجميع، فلم يكن التفاوت الطبقي بين أهالي نجران كبيرا، كما كان في بقية حواضر وبلدان المسلمين، كما لم تكن الأحوال المالية للناس قبل مائة عام كما هي عليه الآن في نجران، فلبساطة العيش والتكافل المجتمعي الفطري والعلائق والوشائج ما جعل متطلبات شهر رمضان بسيطة وممكنة وفي متناول اليد، ولا تخرج في عمومها عن التمر والبر واللبن، وربما الذبيحة والخضار المتوافرة في المزرعة أو لدى مزارع الأقارب والجيران، وإن لم تكن متوافرة، فالسوق الشعبية النجرانية القديمة كانت تعج بما يحتاج إليه أهل نجران لفطورهم أو سحورهم، هذه الصورة الرومانسية كانت حقيقية عايشتها نجران وعاشها أهلها في السنين الخوالي.

التسامح في عالم متشدد

كانت البيئة الاجتماعية في الجزيرة العربية ومحيطها والشرق الأوسط، وربما العالم الثالث أيضا متشددة لا تعرف التسامح، سواء في السنوات الأخيرة او في السنوات البعيدة، فكل مذهب أو دين يرى الحق كله معه والباطل كله مع الآخرين، ومع كل هذا التشدد فإن الإقصاء وعدم احترام عقائد الآخرين كانت ومازالت سمة عامة في المنطقة ويمارسها معظم النخب المتدينة.

لكن نجران كانت ومازالت تختلف عن سواها من الحواضر والمناطق، فقد تجاورت فيها ثلاثة مذاهب مسلمة هي السنية والزيدية والإسماعيلية، والأخيرة هي الأكثر انتشارا، ومع ذلك لم تعرف نجران طوال تاريخها مشكلات تتعلق بالمذاهب، بل تجاورت ثلاثتها وتآخت وتحابت وتواصلت بشكل لم تعهده المنطقة في هذه الأيام، أو في الحقب الماضية، وهذا النوع من التسامح كان نابعا من سماحة أهل نجران ولين طباعهم.

وقد عرفوا ببساطتهم وطيبتهم وشجاعتهم، ولذا فإن المجالس في الماضي كانت تغص بالحضور من مختلف المذاهب والقبائل، وتضع الكبار والمسنين في مواضعهم الذي يستحقونها، وفي رمضان كانت المجالس تبدأ بعد العشاء وتتوقف قبل منتصف الليل، وتبدأ الزيارات عادة من أجل التهاني في أول الشهر الكريم، ثم تستمر طوال شهر رمضان كنوع من الأنس والترفيه والتواصل.

وتدور الأحاديث في الماضي حول الأخبار والأحوال التي تخص البلاد والعباد في تلك الفترة، دون أن تهمل أحوال الأقارب والجيران وأهالي الحي والأحداث المحلية كالمواليد والوفيات والمناسبات الاجتماعية الأخرى.

ونجران منطقة شاسعة جبلية وصحراوية وقروية زراعية، ولا تقتصر زيارة الدواوين على أهل المنطقة، وإنما يأتيها الغريب والقاصد والضيف وعابر السبيل والمتسوق والتاجر، حيث عرفت بأنها أحد انشط الأسواق القديمة في الجزيرة العربية، وعادة كانت كلمة «إرحب» تسبق السلام وبقية أنواع الكلام. و»إرحب» هي دعوة للضيف بالدخول وعرض الضيافة بما يمكن للقادم أن يأنس له، وقد كان الغريب مميزا بلباسه الذي سيكون مختلفا عن لباس أهل نجران قديما، فالدشداشة البيضاء والعصبة البيضاء أو الغترة هما اللباس الدائم والثابت الذي يرتديه أهل نجران ويتميزون به، وربما مازال اللباس ذو اللون الأبيض مميزا لأهالي نجران الى يومنا هذا، وإن دخلت العديد من أنواع الألبسة النجدية والحجازية الى نجران حديثا، وأصبح بعض الشباب يميل الى ارتدائها في بعض الأحيان.

ولعل التنوع البيئي وما يتبعه من تنوع اجتماعي جعل الإلمام بكل أحوال نجران في الماضي صعبا، وخاصة في أحوال أهل نجران الرمضانية القديمة، ولذلك فإن التركيز على المنطقة الزراعية المستقرة كان واضحا لتوافر الأخبار التي تخصها وغيابها عن الجبل والصحراء.

المائدة النجرانية القديمة

كانت المائدة النجرانية القديمة مختلفة عن المناطق المجاورة لها، حيث عرفت بأنها متنوعة وغنية، كما عرفت بخصوصية بعض الأطعمة والأكلات التي لا تجدها إلا في نجران.

ومن هذه الأكلات التي تكون عادة موجودة في أغلب الموائد أهل نجران القديمة البر والسمن، وهي خبز القمح السميك المكور والسمن الذي يضيف له البعض حليبا.

وهناك أكلة أخرى تشبه الأولى، وإن اختلفت المكونات وهي الوفد والمرق، والوفد خبز من القمح مكور أيضا وبجانبه يوضع المرق، وأما الرقش فهو شبيه بتشريب اللحم المعروف عند الخليجيين قديما وحديثا.

ورغم ما للمائدة النجرانية من خصوصية في رمضان، إلا انها تتشابه في العديد من الأطعمة مع بقية مناطق الخليج والجزيرة العربية مثل التمر واللبن والمرقوق وبعض الأكلات الأخرى المنتشرة في المنطقة.

كما تأثرت المائدة النجرانية ببعض الأطعمة اليمنية كالحلبة واللحوح اللذين كانا يباعان في السوق الشعبي القديم، ويقبل أهل نجران على شرائهما في رمضان.

عادات جميلة

كان لأهل نجران العديد من العادات الجميلة في رمضان، فقد كان الغريب القادم الى نجران من بعيد لا يشعر بين أهلها بالغربة، خاصة في رمضان حيث تنهال عليه الدعوات من كل بيت، كما كانت الموائد الجماعية موجودة في معظم المجالس النجرانية في المدينة او في المناطق الزراعية والبدوية التابعة لنجران.

فلا يشعر الغرباء بالغربة كما لا يجد السابلة حاجة إلى شراء فطورهم من الأسواق، كما كان التواصل بين الجيران كبيرا، فيرى الناظر في فترة ما قبل الفطور النساء والصغار يحملون الأواني المليئة بالأطعمة، ويوصلونها من منزل الى منزل يتبادلونها بينهم ويشركون بعضهم في الطعام.

ويتزاور الأقارب والأصحاب والجيران بعد الفطور، مهنئين بالشهر الكريم وكلمة «إرحب» تسبق رد السلام، ورغم أن معظم هذه العادات الجميلة

مازالت باقية إلا أن التغير الحياتي والتطور المعيشي الذي عم العالم والمنطقة ونجران أيضا قد غير كثيرا من السلوكيات، وقلل في العادات الجميلة وأصبحت الحالة الفردية أكثر بروزا من الجماعية.

الأسواق القديمة

إن موقع نجران الاستراتيجي الذي يصل الجنوب اليمني بالشمال الحجازي والشامي والشرق الساحلي بالغرب العسيري جعل من نجران منطقة تجارية من الطراز الأول ومنذ الازل، وفي السنوات المئة الماضية وقبلها بقليل تميزت نجران بأنها ملتقى للبضائع القادمة من المناطق اليمانية المجاورة وإمارات الساحل وما تنتجه نجران من بضائع ومحاصيل، كما كانت مقصدا للمتبضعين القادمين من عسير وجيزان والدواسر ونجد الجنوبي وبعض المناطق والوديان الشرقية.

وهذا الموقع الاستراتيجي ميز أسواقها، وأنعشها طوال العام بشكل عام وفي رمضان على وجه الخصوص، ولذلك فقد تعددت الأسواق وتعددت البضائع أيضا، فكانت إحدى عادات التسوق الجميلة في نجران أن تقيم كل قبيلة سوقا في يوم من أيام الأسبوع، وتعرض في كل سوق مختلف البضائع، وتشرف القبيلة على تنظيمه والحفاظ على أمن المشاركين وسلامة بضائعهم.

فكان سوق الأحد في دحضة، وسوق الاثنين في بني سليمان، وسوق الثلاثاء في بدر الجنوب، وسوق الأربعاء قرب العام، وسوق الخميس في القابل.

لكن في فترة الأربعينيات انتشرت الأسواق الشعبية في كل مناطق نجران طوال أيام الأسبوع، فأصبح أهل نجران يشترون حاجاتهم ولوازمهم من أسواقهم من دون الحاجة إلى الذهاب لأسواق المناطق النجرانية الأخرى وخاصة في رمضان.

ومادمنا نتحدث عن الأسواق الرمضانية القديمة، فمن المهم أن نعرج على الأسواق الصناعية القديمة ايضا، فقد كانت نجران بحق منطقة الصناعات في الحقبة الماضية، وتعددت أسواقها التي تخصصت في أنواع معينة من المنتجات في الماضي.

ولعلك تجد سوق الحدادة وقد تخصص بتصنيع كل ما هو مرتبط بالصناعات المعدنية القديمة، كما تجد سوق الحاكة وهو سوق اختص بحياكة الملابس والأفرشة، وكل ما يتعلق بالصناعات الصوفية حتى أصبح مشهورا في المنطقة، وكان يؤمه الناس من كل المناطق المجاورة.

أما سوق الخرازين فقد كان مشهورا بالصناعات الجلدية المختلفة كالميزب، وهو كيس جلدي تضعه الأمهات على ظهورهن ويضعن به الأطفال، والمسبت، وهو حزام رجالي لرصاص البنادق، والزمالة والمسب وهما من الحقائب، والرهط والفردي وكلاهما من المفروشات، والعصم ويحفظ به الطحين وبعض الأطعمة الأخرى، والقطف لحفظ القهوة، كما يتم صناعة الأحذية الجلدية ايضا.

ومن الأسواق الأخرى سوقا الخواصين والنجارين، والأول يهتم أهله بصناعة الأوعية المصنوعة من خوص النخيل وجريده، وهي صناعة كانت رائجة جدا في الماضي، والثاني كان يختص بالنجارة والصناعات الخشبية، وكانت الأخشاب المستخدمة من شجر الأثل التي تجلب من أطراف نجران ويصنع منها الأبواب والشبابيك وبعض الأواني الخشبية.

أما سوق الفخاريات فكان يختص بمختلف الصناعات الفخارية، في حين كانت سوق الفضيات توفر أنواع الزينة النسائية المختلفة، وهو سوق كان مهما وفريدا في المنطقة قديما، وكان مقصدا للنساء، حيث يوفر الحلي النسائية الفضية للزواج والهدايا كالمرادع والخواتم والصمط واللازم واللبة وغيرها. كما يوفر السوق بعض الإكسسوارات أو أدوات التجميل والمتداولة قديما للخناجر والسيوف.

غير أن أهم الصناعات التي تميزت بها نجران سابقا، وكانت مقصدا للمتسوقين والتجار أيضا صناعة الخناجر والجنبيات، حيث كانت سوق الخناجر قبلة للباحثين عن هذه الصناعة وهذا النوع من البضائع, كما كانت سوق الأواني نشطة ويقصدها الناس من جميع المناطق المجاورة، حيث يتم تصنيع المطارح والدرجة والمهجان والغطايا والبرمة والزير والتنور والكوز وأنواع الأواني الأخرى.

ورغم أن جميع هذه الصناعات كانت رائجة، وكانت هذه الأسواق مقصدا للمتسوقين القادمين من مختلف أرجاء نجران والمناطق المجاورة، إلا أنها تصبح أكثر رواجا في شهر رمضان، حيث ألف الناس الاستهلاك وتجديد بعض أثاث وكماليات المنزل تفاؤلا بالشهر الكريم وحبا في استقباله بخصوصية واهتمام.

*كاتب وباحث كويتي

*كاتب وباحث كويتي