يرصد الروائي والكاتب الليبي الدكتور صالح السنوسي في روايته «يوميات زمن الحشر» الحقبة الزمنية التي سبقت مباشرة فترة ما يسمى الربيع العربي، وتتبع في القلب منها صراع المجتمع الليبي، وما شهده من أحداث. يرى السنوسي الرواية أكثر الأجناس تعبيراً عن الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي. عن الرواية وأعماله الأدبية التقته «الجريدة» في هذا الحوار.

Ad

كيف تتجلى صورة المشهد الثقافي الليبي الراهن؟

يعاني المشهد الثقافي الليبي انفلاتاً ثقافياً مثل أي شيء ولكنه إيجابي. يتكوَّن الآن مشروع ثقافي، حتى وإن لم تُحدد ملامحه بعد. نجد نوعاً من الكتابة في جميع المجالات، وكماً هائلاً من التعبير الذي كان مكبوتاً ومقمعاً بداخلنا. بالتالي، ثمة ظاهرة تعبر عن الإحساس بالقمع السابق. ينطلق المشروع الثقافي من قرينه المشروع السياسي في فرض الحرية والاستقرار والديمقراطية، ما سينعكس على الثقافة، وبالتالي لا بد من أن يسير المشروعان على الوتيرة والنهج نفسيهما.

من خلال إقامتك في الغرب لفترة طويلة، كيف ترى حضور الأدب العربي خارجياً؟

أقمت في فرنسا في فترة السبعينيات والثمانينيات، وهي فترة غنية في التلاقح الثقافي في باريس، حيث شهدت ظهور مؤسسات ثقافية وصحافية لم نتعرَّف إليها سابقاً. كذلك شهدت عدداً كبيراً من المثقفين العرب، فكانت فترة ثرية حاضرة في الأدب العربي، وقد أطلقوا عليها الفترة البترولية. بالتالي، أنشأ بعض الأنظمة والحكومات العربية مؤسسات في هذه الدول الأوروبية. كذلك تميزت هذه المرحلة بخروج عدد كبير من المفكرين والناشطين العرب إلى هذه الدول الأوروبية بسبب ازدياد الضغط من الأنظمة العربية، وقد تعرفت إلى عدد من هؤلاء المثقفين هناك مثل عبدالمعطي حجازي ومحمود أمين العالم، وغيرهما.

لكن ما الفرق بين تلك الفترة الزمنية والمرحلة التي تشهدها الثقافة الحالية؟

اختلفت هموم الأدب العربي، لا سيما الرواية عن الهموم التي عاصرناها في الستينيات عن تلك التي جاءت بعد التسعينيات. في الفترات السابقة، كانت الظروف السياسية والرؤية الثقافية مختلفة. كان ثمة ما نسميه بالنفس القومي في الأدب العربي عموماً، فوجد نوع من الإحساس بالوطنية سواء على الصعيد القطري أو العربي. بالتالي، تجلى هذا في كثير من الكتابات. ولكن بعد التسعينيات اختلف الأمر، حيث جاءت مرحلة العولمة واختلاط الفضاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في العالم. كذلك ظهور تيارات مختلفة لم يعد لها الهموم السابقة نفسها للمثقف العربي في الثمانينيات وما قبلها، ما انعكس بالطبع على الإبداع، فبدأ يركز على نواحٍ إنسانية عامة مشتركة وليس على الجانب القومي والوطني الذي كان سائداً في روايات الحي اللاتيني وعصفور من الشرق وموسم الهجرة من الشمال. لم تعد لقضايا الكتابة في المرحلة التابعة للعولمة الهموم نفسها، إنما حملت اهتمامات كونية أكثر منها وطنية أو قومية.

ما وجه استفادتك من تجربة الاغتراب؟

استفدت كثيراً من الغرب، عندما ذهبت هناك كان معنى الآخر بالنسبة إلي ليس المعنى الذي وجدته هناك. فهمت ذلك المعنى ثقافياً وحضارياً ليس الآخر الذي يوجد بجانبي، ولكن اكتشفت أبعاده وكيف أنه يقيمني، له طابع ثقافي وحضاري في مواجهتي. عندما كنت أعيش في ليبيا لم أكن أشعر بذاتي، لأنه لا أحد يذكرني بها، ولكن عندما التقيت بهذا الآخر من خلال أفعاله وردودها في مواجهتي شعرت بذاتي وحدودي الثقافية. أصبح سؤال الهوية مطروحاً بشدة. عندما تعيد التفكير بذاتك سينتج عنه أفعال وردود فعل ومن ضمنها الكتابة. تمحورت كتابتي في الخارج، خصوصاً الرواية، حول قضية العلاقة الثقافية والحضارية بيني كعربي وبين الآخر. قدمت روايات لا تتشابه مع الحي اللاتيني وعصفور من الشرق أو موسم الهجرة إلى الشمال، لأن هذه الروايات كلها تعاملت مع البطل القادم من الشرق بحيث جعلته ينتقم من الحضارة الغربية وتفوقها بالانتقام على سرير المرأة الأوروبية، جعلوا من الرجل المهاجر {دنجواناً} بينما هو مهزوم ثقافياً وحضارياً.يحاول أن يقاتل الغرب من خلال المرأة. ثمة عنصرية على مستويات الحضارة والثقافة والعواطف، فأنا لم أشأ لعدنان، بطل روايتي، أن يكون فارساً ينتقم مثل بطل الروايات المذكورة سابقاً، فأطروحة البطل وهمومه مختلفة تماماً.

أصدرت رواية {يوميات زمن الحشر} فما هي أهم المعالم التي يدور حولها هذا النص الأدبي؟

تؤرخ الرواية لمرحلة مهمة في تاريخ ليبيا وهي تبدأ من 1976، ومن حادثة شهيرة وهي تظاهرات القنصلية في بنغازي وكان السبب الواضح فيها ظهور الرسومات المسيئة للرسول عليه الصلاة والسلام. ولكن سرعان ما انقلبت التظاهرة إلى تظاهرة ضد النظام السابق وتدخلت القوة وحدثت مذبحة أنذاك. وفي ذكرى هذه التظاهرة قامت الثورة في 17 يناير عام 2011، فكانت نقطة تحول في الصراع مع نظام الحكم. تحاول الرواية أن تؤرخ للصراع في المجتمع الليبي، ولكن في الوقت نفسه هي ليست تأريخا وإنما تتكئ فحسب على وقائع تاريخية بينما شخوصها ليسوا حقيقيين وإنما من صنع المؤلف. ولكن عندما يلتقي القارئ بها يعتقد أنه يلتقي بشخصيات حقيقية عانت واصطدمت ودفعت أثماناً باهظة.

أصدرت روايات عدة، فكيف ترى الرواية العربية اليوم؟

تتطوَّر الرواية العربية بتطور المجتمع العربي، وهي تعيش حالياً عصرها الذهبي، عصر العولمة والثقافات والانتماء الكوني وليس الانتماء الوطني. بالتالي، فللشخوص التي تطالعنا في كثير من الروايات العربية جانب إنساني يبدو أكثر ظهوراً حيث تعالج قضايا عامة. نذكر أن توفيق الحكيم عندما كتب {عصفور من الشرق} تعرض لقضايا الحضارة والشرق والغرب، تلك القضايا التي بدأت تتراجع نسبياً في الثقافة العربية. بدأ البحث حالياً عن قضايا شخصية وإنسانية. بالتالي، صار الهم الإنساني أكثر من طرح قضايا بذلك الحجم والتي كانت موجودة في الرواية العربية مثل القومية العربية والوحدة، وفلسطين، والعدل الاجتماعي والاشتراكية. نجد الرواية الحالية تهتم بالجانب الإنساني غير المتعين وطنياً أو سياسياً. قطعت الرواية العربية شوطاً كبيراً في هذا التطور، بدأت الآن تظهر روايات مضادة وهي التي لم تعد تهتم بالسياق السردي أو التعاقب الزمني والخط الموضوعي للزمن، فبدت وكأنها حصيلة لالتقاء مجموعة من المعارف التي يراها الكاتب في إطار يطلق عليه رواية. شخصياً، لا أكتب هذا النوع وإنما التزم بالنص الذي يعتمد على الحكاية والتعاقب الزمني والسياق الروائي. ولكن أيضاً يجب أن أحترم النوع الحديث من هذا النص الأدبي. أرى كثيراً من الكتُاب يحاولون بقدر الإمكان أن يتماهوا مع هذا النموذج الجديد في الغرب. والبعض يقول إنه لا يوجد نص مقدس للرواية لا ينبغي الخروج عنه، وهذا صحيح، ولكن للرواية هوية أيضاً مثل القصيدة، والخروج عن هوية الشيء سيجعله يخرج عن كونه الأصلي. فما حدث من تطور الرواية العربية في الأسلوبية والنموذج المتبع في الغرب أطُلق عليه نص جديد.

تشكيل التجربة

• هل تعتقد أنه تم الاحتفاء بأعمالك كما يجب، وما هي العوامل التي ساهمت في تشكيل تجربتك الإبداعية؟

من الصعوبة أن يتحدَّث الإنسان عن نفسه. أتحرج دائماً من هذا وأعتقد أن للاحتفاء في المشهد الثقافي العربي شروطه وهذه الشروط لا تتوافر فيّ، ومن بينها وجود علاقات ومصالح بين شلل، نوع من المافيا الثقافية ذات المصالح المشتركة، وهذا يعتمد على العصبة والغنيمة ومعظمها قريبة من السلطة. أنا في النهاية لا أنتمي إلى عصبة، وكي يحصل الكاتب على الشهرة يلزمه أحد طرفين: إما السلطة وبالتالي تحصل على جزء من غنيمتها، أو يتبناه الغرب الثقافي لأسباب سياسية وليست ثقافية يستطيع منها أن يخرجه إلى المشهد ويصنع منه كاتباً عالمياً، إذا ما كانت كتابته تستجيب لقضايا سياسية يحتاجها الغرب السياسي. ثمة غربان {الثقافي والسياسي}، والغرب الثقافي في خدمة الغرب السياسي.

 بالنسبة إلى تجربتي الإبداعية، ما ساهم في تشكيلها تجربتي في ليبيا أو في الغرب بالإضافة إلى التفاعل سواء على مستوى المنطقة العربية أو العالم أجمع، حيث أتطلع إلى تجارب الآخرين، كذلك شخصيتي كبدوي وهذا الإرث الذي عرفته من المجتمع الليبي والأحداث داخل المشهد الثقافي العربي منذ الستينيات وحتى الآن. التقاء هذه العناصر كافة وضع خطوطاً عريضة لإدراكي للواقع وفهمي له، وبالتالي خرج ذلك الفهم على شكل إنتاج أدبي.