تحدث فرانك ويلكزك مع صحيفة «شبيغل» بشأن التماثل المدهش في الكون، والتداخل بين الجمال وعلم الفيزياء، والسبب الذي يجعلنا نوشك أن تحقق اكتشافاً أهم من جزيئة «هيغز».

Ad

أستاذ ويلكزك، قال غوته في إحدى المرات إن الشخص يجب أن يستمع إلى بعض الموسيقى وأن يقرأ بعض الشعر وينظر إلى صورة جميلة كل يوم كي لا تنسف هموم الدنيا حس الجمال الشخصي لدى كل فرد منا. هل سبق أن أخذتَ جرعتك من الجمال اليوم؟    

أخذتُ جرعة كبيرة منه اليوم. كنت أقرأ كتباً عن تاريخ الفن وأنظر إلى الصور. ولديّ برنامج قراءة طموح جداً لفصل الصيف. اليوم، أنا أقرأ كتاب خيال علمي بعنوان Starmaker لأولاف ستابليدون. قد لا يكون تحفة أدبية، لكنه يعج بالرؤى المُلهِمة. كما أني أعزف البيانو قليلاً لكن أصبح البيانو الخاص بنا غير متناغم أثناء وجودنا في الخارج.

في كتابك الجديد، {سؤال جميل} (A Beautiful Question)، كتبتَ أن علم الفيزياء يحفّز بدوره حس الجمال لدينا. هل يلهمك الفن حين تدرس قوانين الطبيعة؟

يصعب أن نقول إنه عامل مُلهِم بشكل مباشر، لكني مقتنع بأن الفن والعلم ينشّطان بعض أجزاء الدماغ. الدماغ يكافئنا على التفاعل مع أمور جميلة. بهذه الطريقة، يريد التطور تشجيعنا على القيام بما يفيدنا. ينطبق ذلك على عوامل عدة طبعاً، لكن يتعلق أحدها بفهم طريقة تطور الأمور.

نحاول جعل الأمور منطقية.

نعم. وحين ننجح في ذلك، نعتبر ما فعلناه جميلاً.

ما هو الجانب {الجميل} في علم الفيزياء؟

أليس أمراً جاذباً مثلاً أن تكون المعادلات التي تطورت لوصف الآلات الموسيقية شبيهة جداً بالمعادلات التي تحكم عمل الذرات؟ في الكمان أو البيانو، تَصدر الأصوات عبر ذبذبات من ألواح أو أوتار صوتية. وفي الذرات، تكون العناصر التي تتذبذب أكثر غموضاً: فهي ترتبط بألوان الضوء التي يميل نوع معين من الذرات إلى بثها أو امتصاصها. بهذه الطريقة، تنعكس الفكرة التي كان فيثاغورس يطرحها حين ربط بين حركة الكواكب وموسيقى المجالات. تتحرك الإلكترونات حول نواة الذرة مثلما تدور الكواكب حول الشمس. يمكن أن نعتبر الذرات أشبه بالآلات الموسيقية التي تنتج شكلاً حقيقياً ومثالياً جداً من موسيقى المجالات.

لكن هل تكون نقاط التشابه هذه بين الموسيقى والذرات ومدارات الكواكب أكثر من مجرّد صدفة؟

إذا كان الأمر مجرّد صدفة، فهي صدفة مدهشة. إنها نعمة.

لكل فنان أسلوبه الخاص. حين تدرس قوانين الطبيعة، هل تشعر بأن الطبيعة لديها أسلوبها الخاص أيضاً؟

طبعاً. العالم تحفة فنية يتم إنتاجها وفق أسلوب غريب جداً. أكثر ما يصدمني هو دور التماثل المدهش.

هل يمكنك شرح فكرتك؟

طبعاً. يمكن وصف مبدأ التماثل كما نستعمله في علوم الفيزياء والرياضيات بـ}التغيير من دون تغيير}. قد يبدو المفهوم غامضاً أو غريباً، لكنه يعني أمراً بسيطاً جداً. ما الذي يجعل الدائرة مثلاً جسماً متماثلاً؟ يمكن تحريكها حول محورها ولكنها تبقى دائرية. في ما يخص المثلث متساوي الأضلاع، ستغيره الحركات الدائرية الصغيرة. لكن إذا جعلناه يدور بزاوية 120 درجة، سيعود إلى شكله الأصلي. هو يكسب بذلك طابعاً متماثلاً معيناً لكنه لا يصبح دائرياً بنسبة كاملة. يمكن تعميم هذا المفهوم عن التماثل المبني على {تغيير من دون تغيير} بكل سهولة على قوانين الفيزياء أو على المعادلات التي تعبّر عنها.

هل يساعدك هذا التصوّر على فهم العالم؟

طبعاً. وفق افتراض أساسي في نظرية النسبية، إذا شاهدنا العالم من قطار متحرك، قد يبدو المشهد مختلفاً لكن تبقى قوانين الفيزياء على حالها. في مجال الديناميكا الكهربائية، يمكن إحداث عدد من التغيرات في الحقول الكهربائية والمغناطيسية لكن تبقى المعادلات المستعملة صحيحة. يمكن البحث عن معادلات مثالية لا تتغير نتائجها في ظل تحولات كثيرة. هذه هي {الدوائر} بين المعادلات وهي التي تحكم العالم على ما يبدو.

اعتبر كثيرون أن لوحات الرسامين التعبيريين وموسيقى الإثنتَي عشرة نغمة بشعة جداً. ويدور جدل واسع حول الفنون التي يجب اعتبارها {جميلة}. هل من توافق أكبر بين العلماء؟

لا. كما يحصل في مجال الفنون، يُبنى التوافق عموماً استناداً إلى التجارب الماضية. لنأخذ الفيزياء الكمية مثلاً: واجه عدد كبير من مؤسسيها، مثل بلانك وأينشتاين وشرودنغر، صعوبة في إثباتها حتى وفاتهم. يجب تفعيل مفهوم الجمال عبر حوار موسّع مع الطبيعة إلى أن يحظى بالتقدير المناسب.

متى اكتشف علماء الفيزياء أن التماثل يحمل أهمية خاصة؟

برزت هذه الفكرة بشكلها المعاصر في القرن العشرين. لكن يبدو أن أفلاطون توقعها. فقد طرح نظاماً من أربعة عناصر، الأرض والهواء والنار والماء، وهو يتألف من وحدات أساسية تتشكل من أربع مواد أفلاطونية صلبة ومتماثلة. تلك الرؤية اللامعة توقّعت نشوء فكرة معاصرة مفادها أن الطبيعة تستعمل التماثل لبناء العالم، مع أن تفاصيل نموذجه كانت مضلِّلة طبعاً.

متى أدركتَ جمال قوانين الطبيعة؟

بما أنها عملية واعية، حصل ذلك حديثاً. بدأتُ أفكر بهذه المواضيع منذ خمس سنوات، حين طُلب مني إلقاء محاضرة عن الجمال الكمّي.

قبل ذلك، ألم يوجّهك الجمال في عملك؟

وجّهني طبعاً لكن بشكل ضمني. حين أفكر بتلك الفترة، أدرك أنني كنت أبحث دوماً عن أبسط وأجمل وصف وأكثره تماثلاً. لكني لم أركز على ذلك الجانب صراحةً. كنت غارقاً في المهام اليومية وأحاول إحراز التقدم.

أشهر عمل لك جعلك تفوز بجائزة نوبل وحصل في عامَي 1972 و1973.

نعم، كنت شاباً جداً حينها وكان عمري 21 أو 22 عاماً. لفهم ما فعلناه، يجب الاطلاع على أربع قوى أساسية في الطبيعة: الجاذبية والقوة الكهرومغناطيسية وهما قوتان تقليديتان. ثم تبرز قوتان إضافيتان اكتشفهما علماء الفيزياء حين بدأوا يدرسون نواة الذرة في القرن العشرين. إنها قوة هائلة وهي تضمن تماسك النواة وتضعف القوة المرتبطة بعمليات الانحلال المتنوعة. ما فعلتُه بالتعاون مع ديفيد غروس كان تحديد معادلات القوة الهائلة. لقد أصبنا حين أطلقنا التكهنات بشأنها لأننا كنا نبحث بشكل تلقائي عن معادلات جميلة ومتماثلة على نحو خاص.

هل كنت تعلم حينها أنك في صدد الكشف عن حقيقة عميقة بشأن الطبيعة؟

نعم. قلتُ لديفيد: {إذا سارت التجارب كما نتوقع، سنفوز بجائزة نوبل على هذا الاكتشاف}. وهذا ما حصل فعلاً.

هل اختبرتَ لحظة من الوحي العميق؟

اختبرتُ لحظات مماثلة لكنها ليست كما تتصور.

كان مسار التجارب غامضاً لذا لم نستطع شرح مختلف الوقائع والتوصل إلى نتائج مثالية بكل بساطة. لم يتم رصد أيٍّ من الوحدات الأساسية في نظريتنا، أي جزيئات الكواركات والغلوونس. في أواخر عام 1974، حصلت تجارب جديدة وأصبحت الصورة أكثر وضوحاً.

قال هاينريش هيرتس في إحدى المرات إن معادلات القوة الكهرومغناطيسية ذكية جداً، حتى أنها أذكى من الأشخاص الذين اكتشفوها.

ينطبق ذلك تحديداً على الديناميكا اللونية الكمية، وهو اسم نظرية القوة الهائلة. بدأنا ببضع فرضيات عن الجمال والتماثل والتماسك وجميع ظواهر الفيزياء النووية التي يجب اكتشافها. نحن نتوصل دوماً إلى نتائج تفوق ما نتوقعه.

اليوم، أصبحت النظرية التي طورتها جزءاً من {المعيار النموذجي} الذي يصف عالمنا بطريقة دقيقة على نحو مدهش. لكن لا تزال أنت وزملاؤك غير راضين.

لا. للمعيار النموذجي شوائب بارزة من الناحية الجمالية. يجب أن تكون آخر كلمة للطبيعة أكثر جمالاً.

ما الذي يزعجك تحديداً؟

للمعيار النموذجي جوانب مبهمة. تنشط فيه أربع قوى مختلفة. لكن من الأفضل طرح وصف موحّد لجميع القوى. كذلك، تنشط مواد مختلفة لكن من الأفضل أيضاً تقليصها إلى مادة واحدة. أكثر ما يثير الاهتمام بشأن الوضع الراهن هو وجود اقتراحات لمعالجة تلك الشوائب.

ما هي طبيعة هذه الاقتراحات؟

في المقام الأول، تبدو المبادئ التي نستعملها لصياغة نظرية معاصرة عن المجال الكهرومغناطيسي والقوة الضعيفة والهائلة متشابهة بشكل غامض، وكأنها تحتاج إلى التوحد ضمن نظرية شاملة. على مستوى الرياضيات، يمكن تحقيق هذا الهدف بسهولة. عند القيام بذلك، يجب أن تكون القدرة الجوهرية في جميع القوى متساوية. لكنها لا تبدو كذلك عند مراقبتها. في البداية، بدا وكأننا وصلنا إلى طريق مسدود ثم أدركنا ضرورة إضافة الآثار الكمية ضمن مسافات صغيرة جداً. عند أخذ هذه العوامل بالاعتبار، تصبح ثلاث قوى أكثر تشابهاً مثلما تتوقع أي نظرية موحّدة.

هل لديك إذاً نظرية موحدة عن القوى الثلاث كلها؟

تصبح القوى الثلاث شبه متساوية لكن ليس بالكامل. هي تصبح كذلك عند طرح فرضية أخرى عن التماثل واسمها {التماثل الفائق}. مثل نظريات التماثل الأخرى، هي ترتكز على مبدأ {التغيير من دون تغيير}. لكن في هذه الحالة، يمكن تبادل الجزيئات والقوى في ما بينها من دون تغيير القوانين. إنها خطوة جريئة، لكن لن تنجح النظرية إلا بعد اتخاذها: على مسافات قصيرة جداً، تصبح قدرة القوى الثلاث كلها متشابهة.

تبدو هذه النظرية أفضل من ألا نصدّقها.

هذا صحيح. وإلا ستكون الطبيعة قد مازحتنا بطريقة مريعة.

كيف يمكن أن تتأكد من أنها ليست مزحة؟

يجب أن نجد بعض الجزيئات الإضافية التي تتوقعها فرضية {التماثل الفائق}. يمكن أن يحدث ذلك في الأسبوع المقبل في {المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية}، لكن سيحصل ذلك على الأرجح بعد سنة أو سنتين أو ربما خمس سنوات. وفق نظريتنا، لا يمكن أن تكون هذه الجزيئات ثقيلة أكثر من اللزوم، ما يعني وجود فرصة ممتازة لتسريع إيجادها في {المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية}.

هل راهنتَ على حصول ذلك؟

نعم. أراهن بمئة قطعة نوبل بالشوكولا على أنهم سيجدون جزيئات {التماثل الفائق} بحلول عام 2020.

قطع نوبل بالشوكولاتة؟

نعم. إنها قطع شوكولاتة مغلّفة بغطاء ذهبي وهم يقدمونها في احتفال في ستوكهولم. لدي بعض القطع المتبقية منها. لكن إذا خسرتُ الرهان، سأطلب من أصدقائي أن يجمعوا المزيد منها في الاحتفال. يمكن جمعها وتهريبها.

واقع مبهر

• هل سيكون اكتشاف جزيئات {التماثل الفائق} أكثر إبهاراً من اكتشاف جزيئة {هيغز}؟

بالنسبة لي نعم. جزيئة {هيغز} مبهرة لكنها مبنية على التصرف بحذر والتنبه إلى أدق التفاصيل ضمن نظرية {المعيار النموذجي}. في المقابل، سيكون اكتشاف جزيئات {التماثل الفائق} خطوة عميقة تتجاوز حدود تلك الجزيئة.

• هل أدهشك أن تطيع الطبيعة القوانين التي نستطيع نحن البشر فهمها؟

لهذا الواقع معنىً عميق وهو ليس مضموناً بأي شكل. بما أنها تجربة فكرية، لنفترض أن العالم كله هو مجرد محاكاة لحاسوب عملاق وخارق حيث نكون جزءاً من تلك المحاكاة. نحن نتحدث إذاً عن عالمٍ يظن فيه {سوبر ماريو} أن عالمه حقيقي. لن تكون القوانين في ذلك العالم جميلة أو متماثلة بالضرورة. بل إنها ستتخذ الشكل الذي يحدده مُبَرمِجها، ما يعني أن هذه القوانين قد تكون عشوائية ويمكن أن تتغير فجأةً أو تختلف من مكان إلى آخر. ولن يكون وصف هذه القوانين أبسط من برنامج محوسب طويل جداً. نشوء هذا العالم ممكن منطقياً، لكنّ عالمنا مختلف. من المبهر أن نتمكن من فهم عالمنا حين نتعمق فيه.

• تقول إنه واقع مبهر. لكن لا يمكن أن يرضي هذا الموقف علماء الفيزياء. ألا تبحث عن تفسير لهذا الواقع؟

لست واثقاً من نوع التفسير الذي يمكن إيجاده. لقد وصلنا إلى أدنى المستويات في وصفنا للعالم. التفسير المحتمل الوحيد الذي يمكن أن أفكر به هو وجود مبتكِر أو مهندس معين مسؤول عن هذا التصميم.