يتخلى البشر عن حيواتهم في أنحاء الكرة الأرضية كل يوم، فإذا ما اشتد اليأس أو الألم أو الفقر، إذا ما سُدت الأبواب وثقل الحمل، إذا ما تفشى عذاب أو انكشف عار أو تألم جسد حتى ما عاد العقل يحتملها، يتخلى البشر عندها عن هذا الجسد تحرراً منه ومن كل عذاباته. تلك هي ضريبة تطور العقل الذي يفكر ويحلل ويعذب نفسه بمحاسبتها، بالشعور بتأنيب الضمير، بالشعور بالخزي، بالشعور بالألم، بالشعور بالحرمان، ضريبة تدفعها كل المخلوقات القادرة على التفكير المتطور في المملكة الحيوانية ومنها على سبيل المثال، غير الإنسان، الحيتان التي يعرف أن لها حالات انتحار فردية وجماعية.   

Ad

تطورت العقول البشرية كثيراً ومعها كثرت أعطالها، ولربما هذا سبب ونتيجة طبيعيان، فكلما تقدم الشيء وتعقد زادت أعطاله، وكلما زادت قدرتنا على الفهم والتحليل وإدراك الكون من حولنا، إدراك لا نهائيته ونمنمتنا، إدراك لا هدفيته وعدميته وعجزنا، ارتفعت نسب الاكتئاب والخوف والشعور بالضآلة والفراغ، فتزداد أعداد البشر المتخلين عن حيواتهم الذين قادتهم عقولهم لاستنتاج فراغها ولا هدفيتها.

ولكن بعيداً عن كل تلك التحليلات الفلسفية للعقل البشري ورفاهية تفكيره التي تقوده للتخلي عن جسده، هناك بشر يموتون جوعاً وألماً ويأساً من الدنيا، وعندما ينتظم هذا التخلي عن الحياة ويتحول إلى ظاهرة في بقعة جغرافية معينة، لابد أن تنتظم معها تساؤلاتنا وترتفع سريعاً إلى مستوى الأمور بالغة الأهمية والاستعجال. في بلد مثل الكويت صغير بحجمه، منتعش بأمواله، دافئ بأهله وبحبهم لفعل الخير، لماذا أصبحت ظاهرة الانتحار متفشية بين فئتي العمالة الوافدة والبدون؟ ولماذا أصبح خبر انتحار عامل آسيوي أو عاملة فلبينية خبراً معتاداً له ظهور شبه منتظم في جرائدنا؟ ولماذا أصبحت قصة انتحار شاب بدون معتادة مكررة حتى إنها لا تستدعي الكثير من تعليقاتنا أو تفاعلنا؟

عندما يصبح الانتحار ظاهرة وفي بلد مثل بلدنا يصبح الموضوع مرعباً، خصوصاً أن المشكلة ليست في عقل متطور، وليست في إدراك متسع، وليست في فكر فلسفي يقود لليأس، المشكلة في جوع وألم ويأس تقود للتخلي عن الحياة، الحياة التي هي أغلى ما نمتلك والتي هي الثروة الحقيقية لأي بلد، سواء كانت محلية من أبنائه، أو خارجية من وافديه.

 يعيش الوافدون بيننا، ويشترك البدون معنا في الأرض والتاريخ والحياة بأكملها، لا يفصلنا عنهم سوى ورقة الجنسية، فكيف يموت هؤلاء بيننا ولماذا؟ هل لنا يد في موتهم؟ وإن لم تكن لنا يد مباشرة، فهل سكتنا عما يجب ألا يسكت عنه، فدفعناهم، بغير علمنا، الدَفعة الأخيرة من فوق قمة جبل عذاباتهم؟ أن تعذب إنساناً حتى يقرر التخلي عن حياته، وأن تشهد هذا العذاب دون أن تنبس بكلمة، أليس هذان الفعلان متشابهين؟ أن تكون مسؤولاً فتحرم فتى من أوراقه الثبوتية ومن تعليمه وعمله وطبابته حتى من مقدرته على امتلاك تلفونه باسمه، فيقرر هذا الفتى أن يترك هذه الحياة التي ليس له فيها معنى ولا قيمة ولا وجود حقيقي، وأن تكون مجرد شاهد صامت على كل هذا الحرمان وإن لم تتسبب فيه، ألست، كما المسؤول، مساهماً في إدراك اليأس لهذا الفتى حتى قرر التخلي عن حياته؟ أن تكون صاحب عمل فتقهر عاملتك أو عاملك وتهينه وتحقره كل يوم وتحرمه الدخل الذي يستحق حتى يقرر أن الفقر وحده كان محتملاً أما الفقر المعجون بالإهانة فهو فوق طاقته فينتحر، وأن تكون شاهداً على جار لك يأتي هذا السلوك، ألست، كما جارك، مساهماً في تمكن الفقر واليأس والشعور بالطغيان والاضطهاد من هذا العامل حتى قرر الهرب إلى الموت؟ أليس الفاعل كما المشاهد الصامت؟ أليس الصمت نوعا من حماية الفعل الشائن والتغطية على أذاه بل الموافقة الضمنية عليه؟

في الأسبوع الماضي وصلنا خبر انتحار شاب بدون متبوع بخبر انتحار عامل آسيوي في نظارة أحد المخافر، في أسبوع واحد وبصمت شبه مطبق منا فقدنا إنسانين على أرضنا، كلنا يمكن أن نستنتج أسباب تخليهما عن حياتيهما، وكلنا يمكن أن نعدد عذاباتهما وحرمانهما، وكلنا نعرف ونسكت ونستمر في الحياة، وكل هذا يحدث في الكويت... المركز الإنساني.