استطاع رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم في كلمته بافتتاح دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الرابع عشر، في حضرة صاحب السمو الأمير وسمو ولي العهد والسلطتين التشريعية والتنفيذية، وعبر هواء ممتد بين القارات، أن يناغم باقتدار غير مسبوق بين المعنى والمبنى، وأن يجمع بين جَرْس العبارة ورصانة المضمون، وحسن الإلقاء والأداء، ويؤسس لفكر المرحلة القائمة والقادمة للكويت بروح شبابية وقّادة، فلامست كلمته الوجدان الوطني، الذي يكاد أن يتيه بين ماضٍ قريب ملتهب، وحاضر مستنفَرٍ مشتعل يحيط به لظى النيران الإقليمية والعربية والعالمية، وتكاد بوصلتنا أن تتوه في بحوره المتلاطمة، والتي زادتها وعورة التقارير المتتالية عن تراجعنا في مراتب التنافسية العالمية بجميع مؤشراتها، والأوضاع الاقتصادية المترنحة بفعل ضربات الانحدار المتوالي بأسعار النفط ووصولها إلى مستويات متدنية مثيرة للفزع على المستقبل، بعد تحقق الانكشاف على مخاطر اعتماد موارد الدولة على تلك السلعة الناضبة، بالرغم من توافر الاحتياطيات المالية المتينة الراقدة في المحفظة الكويتية السيادية الضخمة.

Ad

وبعد أن حدَّد النطق السامي خارطة طريق الوعي بالمخاطر وسبل تجنبها لبلوغ شواطئ الأمان، جاءت كلمة رئيس البرلمان لتنعش الأمل بالغد الأفضل، لجيلٍ أصبح لا يُخفي ترديد عبارة "ماندري شنهو مصيرنا ولا وين رايحين؟!".

الكلمة تجوّلت في القلوب والعقول، لتلامس الأحداث المريرة التي عايشناها ملامسةَ من يسعى نحو الارتفاع فوق الجراح والتمسك بالوحدة الوطنية، ويسابق الزمن لبلوغ سبل الارتقاء، لا الاحتباس في دوائر جَلد الذات، والبكاء على اللبن المسكوب.

توجهت الكلمة إلى صاحب السمو الأمير بالقول البليغ "ستبقى أنّتك الخافتة الصابرة الحزينة/ هاذولا عيالي/ تناسم أسماعنا، فتهتز لها راياتنا زهواً وولاءً، ويلتهب بها حماسنا عجباً وثناءً، ويتكسر أمامها حقد المجرمين خزياً وحسرةً وانكفاء"، وجاءت تلك الالتفاتة على وقع ما حدث في يوم الجمعة الرمضانية الحزينة حين ضرب الإرهاب ضربته الموجعة في مسجد الإمام الصادق عليه السلام، وشخّص بذلك القول ترددات الموقف الإنساني والأبوي النبيل لصاحب السمو الأمير الذي طمر نيران فتنة كادت ألا تبقي ولا تذر والعياذ بالله. ولم تتجاوز الكلمة الإشارة إلى خلية العبدلي الآثمة وأبعادها التآمرية على الوطن، واثقة بما سيصدر عن العدالة من أحكام بشأنها، ومؤكدة المبدأ الدستوري القائم على فردية المسؤولية الجنائية للجريمة، ومحذّرةً من مخاطر أخذ الجماعة بجريرة الفرد إعمالاً للمبدأ الربّاني "أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".

وتوجهت الكلمة إلى السلطتين التنفيذية والتشريعية بالقول:

 "لابد لكل دولة، مهما كان حجمها ونظامها، أن تقف أمام استحقاق التغيير كشرط للاستمرار، وأكاد أجزم حين أزعم أننا في الكويت نواجه اليوم مثل هذا الاستحقاق، ذلك أن التحديات التي نواجهها أمنياً واقتصادياً واجتماعياً، أضحت أخطر من أن تحتمل تمديداً في الأجل، وأقرب من أن تسمح بمزيدٍ من الجدل"، فاستدعت بذلك ما عسى أن ينتهجه صناع القرار من سبلٍ تحقق للدولة التغيير المستحق كشرط للاستمرار، وهو ما انتظرناه طويلاً ولم يحدث من أغلبية من تصدى لمسؤوليات الإدارة والتخطيط للمستقبل.

ثم توجه رئيس المجلس بكلمته إلى الشعب بالقول:

"إن وفاء المواطن بحقوق الوطن عليه يجب ألا يقل أبداً عن تمسكه بحقوقه تجاه الدولة، فذلك هو ميثاق الأحرار، أما المطالبة بحقٍّ لا يستدعي واجباً وبامتياز لا يرتب التزاماً، فهذا ليس من شيم أهل الكويت"، وهنا يستقيم ميزان القسط بين حقوق الوطن وموجبات المواطنة، وهي سمة الشعوب الحية التي حققت المعجزات في بلدانها.

إبحار الكلمة كان بليغاً وشاملاً ورصيناً، وقد تناولت منها ما ظننت أنه أبرز عناوينها، وبما يسمح به مجال المقال.

شكراً بوعلي، فقد كانت كلمتك الصادقة وثيقة من وثائق رسم ملامح مشرقة لمستقبل هذا الوطن المبتلى بحالة مؤسفة من "الفالج" الذي أصاب مفاصل كثيرة فيه، والمحتاجة إلى هبّة إصلاحية شاملة، كما أشرت في مقالتي السابقة وتساءلت في ختامها: "هل للفالج عندنا من معالج؟".

 ولعل مضامين كلمتك الأخيرة تبعث بنفحات من الأمل للبدء بتلك المعالجة، وهو ما نرجوه، بعد أن بلغ الإحباط مداه! متطلعين إلى ما ستبذله أنت وكل المخلصين المنشغلين بمصلحة البلد العليا، لتحويل مضامين ما جاء في كلمتك إلى تنفيذ على أرض الواقع، "فاليد الواحدة ما تصفّق"... والله المستعان.