فؤاد المهندس {الأستاذ} الذي لم يزعجه تألق تلامذته، بل أسهم في منحهم {صك النجومية}، كما حدث مع شريكة مشواره الفني والحياتي الفنانة شويكار، التي التقط موهبتها وفتح أمامها آفاقاً رحبة قبل أن يتحرَّك مؤشر قلبه نحوها ليقدما معاً عشرات الأعمال الخالدة. كذلك اكتشافه الفنان عادل إمام ابنه {البكري}، كما كان يحب أن يناديه أو يصفه، والذي تخرج في مدرسته ولمع على خشبة مسرحه، ولم يتردد في مساندته والوقوف وراءه لدعمه في أعماله الفنية.

Ad

هو {الأستاذ} الذي رفض أن يستجدي عملاً بعدما انسحبت عنه الأضواء، رافضاً طوال مشواره الفني الرد على الإشاعات أو الانتقادات، أو حتى الاشتباك في معارك من شأنها أن تعطل مسيرته الإبداعية.

هو {عمو فؤاد} أو {فيفا ظلاطة} نجم {ساعة لقلبك} أو{شنبو في المصيدة}، {أخطر رجل في العالم} و{جناب السفير} أو {السكرتير الفني}، الذي ذهب إلى {أرض النفاق} وأعمال كثيرة حفرت مكانتها بدأب ولا تزال تحظى بمكانة مميزة على الخريطة الفنية.

حلقاتك برجلاتك

كان العالم اللغوي زكي المهندس عائداً إلى منزله في حي العباسية، أحد أحياء القاهرة الراقية في هذا الزمان، وذلك بعد يوم عمل شاق تنقل خلاله بين مجمع اللغة العربية، وكلية دار العلوم حيث كان يعمل أستاذاً، ليفاجأ بزوجته السيدة جمالات تخبره ببشرى سارة، أنها تنتظر مولودها الثالث. لم يخف المهندس سعادته، آملاً بأن يرزقه المولى هذه المرة بصبي ليكون سنداً لشقيقاته صفية ودرية. وما هي إلا بضعة أشهر، حتى استجابت له السماء، تحديداً في السادس من سبتمبر العام 1924. كان صراخ {فؤاد} يملأ الدنيا ضجيجاً معلناً عن قدومه.

المهندس الأب ورغم أنه كان عالماً له مكانته العلمية والاجتماعية، فإنه كان حريصاً على رعاية أسرته ومتابعة أطفاله عن قرب. لم يفرق بين ولد أو بنت بين أطفاله الأربعة (رزق لاحقاً بابن رابع هو سامي)، خصوصاً في ما يتعلق بالتعليم رغم أن تعليم الفتيات في تلك الفترة لم يكن منتشراً، إلا في أوساط اجتماعية محددة، إضافة إلى حرصه الدائم على تلقينهم أصول تعليم اللغة العربية، وتثقيفهم بالاطلاع على أمهات الكتب، والتي كانت تزخر بها مكتبة المنزل، كذلك فن الخطابة وإلقاء الشعر.

غرام الأب باللغة العربية وتذوقه في إلقائها دفعاه إلى التمسك بالحديث بها حتى في منزله ووسط عائلته، ما يفسر تفوق فؤاد لاحقاً فيها، كذلك شقيقته الإعلامية الكبيرة صفية المهندس. ورغم أنه لم يقدم طوال مشواره الفني عملاً فنياً باللغة العربية الفصحى، فإنه أظهر من خلال عدد من أدواره إجلالاً واحتراماً للغة العربية عموماً، وللمعلم خصوصاً، ربما أبرزها شخصية {ياقوت أفندي}، والتي قدمها في مسرحية {السكرتير الفني} في الخمسينيات من القرن الماضي، واستهل بها مشواره مع النجومية. كذلك ساعدته محبته للغة وحرص الأب على تثقيف أولاده، في اطلاعه على كثير من الكتابات الإبداعية، ما أسهم في تشكيل وعيه ووجدانه الذي بات مرتبطاً بالفن في أشكاله كافة، خصوصاً مع حرص الأب على اصطحابه وأخوته إلى دور العرض السينمائية والمسرحية.

المؤكد أن فؤاد لم يكن طفلاً عادياً على الأقل بين أقرانه وأشقائه، وهو ما كشف عنه الراحل في كثير من حواراته، مشيراً إلى أن شقاوته كانت ملحوظة وبشدة إذا ما قورنت تصرفاته بمن حوله، ما سبب له الكثير من المشاكل...

يقول فؤاد: {شقاوتي كانت زيادة حبتين، وكانت سبباً في أن أتلقى عقاباً بالضرب مرات عدة، خصوصاً من والدتي رحمها الله، والتي كانت مثالاً للانضباط والحرص على التقاليد والأصول}.

اكتشاف مبكر

تداخلت عوامل كثيرة لتصيغ شخصية فؤاد المهندس بشكل عام، وفنياً على الخصوص، فالالتزام والانضباط، والحرص دوماً على التمسك بالتقاليد لم تكن فقط سلوكاً شخصياً اكتسبه فؤاد من التربية الحازمة في طفولته وصباه، ولكنها انعكست أيضاً في عدد من أعماله الفنية والتي وصفها البعض بأنها أعمال تربوية موجهة. إلا أنه ورغم الضبط والربط والحزم، كانت شقاوته تتصادم كثيراً مع تلك الثوابت، خصوصاً عندما بدأ يشتهر وسط الجيران بقدرته على تقليد الكبار (والده أحياناً أو أباء وأمهات أقرانه)، والسخرية منهم على طريقته، ما أوقعه بالطبع في مشاكل كثيرة كانت سبباً في تلقيه الكثير من {وصلات الضرب} ومن والدته تحديداً والتي كانت دائمة الشكوى منه.

 الأم: أنا مش عارفة أعمل إيه مع الولد فؤاد ده؟

الأب: إيه اللي حصل بس؟

الأم: النهارده برضه لقيته بيقلد الجيران، وهيعملنا مشاكل معاهم، وكل مرة بأضربه، وهو مفيش فايدة اللي في دماغه بيعمله.

الأب: طيب أهدي بس الموضوع مش مستاهل كل ده، العفريت ده بكرا يكبر ويبقى حاجة تانية خالص.

الأم: أهو دلعك فيه ده اللي حيبوظ أخلاقة ويخيب أملنا فيه.

كان فؤاد يجد في حديث والده وابتسامته الخفية إعلاناً بأن ما يفعله رغم تصنيفه في إطار العيب و{قلة التربية}، يحمل شيئاً ما، ربما نظرات والده التي تلمع بالسعادة، وتعرب عن إحساس بالزهو تجاه تميز ابنه وسط من حوله. المؤكد أن نظرات الأب، وكما أوضح فؤاد المهندس في حديثه عن والده، كانت مزيجاً بين لوم لخروج ابنه عن المألوف اجتماعياً، وبين سعادة لما يتميز به من خفة ظل تدفع الجميع للتحلق حوله ومطالبته بتقليد هذا أو ذاك. حتى إنه وفي بعض المرات طالبه بتقليده هو شخصياً، إلا أن احترام فؤاد لوالده منعه من الاستجابة.

المؤكد والأهم أن خفة الظل التي تميز بها فؤاد لم تكن غريبة عن الأب، وهو ما أشار إليه فؤاد مراراً، مؤكداً أن والده صاحب الفضل الأكبر في صياغة موهبته، فبالإضافة إلى تثقيفه واطلاعه على روائع الأدب العالمي والذهاب به إلى دور العرض والمسارح، أدت أيضاً العوامل الوراثية تحديداً خفة الظل والروح المرحة، دوراً كبيراً في تشكيل شخصيته الفنية، كما أشرنا.

أول خطوة

التحق فؤاد بمدرسة العباسية الابتدائية القريبة من منزله، ما أسعد أمه تحديداً، ليس فقط لأنه كبر وسيبدأ مشواره التعليمي أسوة بشقيقاته، ولكن لأن المدرسة كانت فرصة بالنسبة إليها كي تتخلص من شقاوته المبالغ فيها، والتي أوقعتها في كثير من المواقف المحرجة مع جيرانها وأقاربها، فهو لم يفوت فرصة لتقليد أقاربه أو زملاءه  والتندر عليهم. لذا اعتقدت الأم أن في المدرسة فرصة للخلاص من المشاكل، خصوصاً مع انشغاله بالدراسة. إلا أن الرياح أتت بما لم تحبه الأم أو ترضاه، فقد كانت المدرسة فرصة ذهبية كي يكتشف فؤاد وبوضوح موهبته كممثل ويخطو نحوها خطوته الأولى.

وجد المهندس في المدرسة الفرصة الكبرى لممارسة هوايته في التقليد ومن دون قيود. لكن هذه المرة لم يكن  يقلِّد أقاربه وأصدقاءه، ولكن مدرسيه وناظر المدرسة، ما جعل زملاءه يحبونه، ويلتفون حوله في فسحة المدرسة يطالبونه بتقليد هذا وذاك.

زملاؤه: فؤاد فؤاد قلد لنا الناظر في طابور الصباح.

فؤاد وقد اتخذ موقعه على المنصة إلى جوار العلم، ممسكاً بعصا بوصفها الميكرفون وبدأ في التقليد، وسط ضحكات زملائه، وفجأة وجدهم جميعاً يفرون من أمامه ويد ضخمة تنهال عليه ضربا.

الناظر: إيه اللي أنت بتعمله ده؟ أنت بتسخر مني؟

لم يجب فؤاد وواصل البكاء بصوت مرتفع، فيما عصا الناظر كانت تنهال عليه.

الناظر: بكره تجيب ولي أمرك معاك، فاهم؟

أومأ فؤاد برأسه موافقاً، قبل أن يتركه الناظر وينصرف. في طريق عودته إلى المنزل، ظلَّ شارداً يفكر كيف سيخبر والدته بما حدث. وعلى غير عادته ظل صامتاً منذ وطأت أقدامه المنزل، لا يحدث ضجيجاً ولا جلبة كعادته كل يوم، ما دفع والدته لأن تسأله مراراً عن السبب، ولكنه التزم الصمت تماماً.

وعلى مائدة الطعام، ظلَّ فؤاد صامتاً لا يتناول طعامه، وسرعان ما انخرط في نوبة بكاء، ما دفع والده إلى أن ينتحي به جانباً ليتفهم ما حدث، فيما وقفت والدته تترقب بقلق سر بكاء طفلها.

الأب: مالك يا ابني في إيه، بطل تعيط وفهمني؟

واصل الأب قائلاً: بطل عياط وفهمني إيه اللي حصل؟

مسح الأب دموع فؤاد وضمه إلى صدره حتى هدأ نسبياً، وبدأ يحكي له ما حدث، وأنه لن يسمح له بدخول المدرسة ما لم يحضر معه.

صمت الأب وطلب منه الدخول إلى حجرته لأداء واجباته المنزلية، وهو ما التزم به فؤاد، إلا أن عينيه اتجهتا إلى والدته التي كان الشرر يتطاير منها.

الأم وقد انتحت بالأب جانباً: حتعمل مع الولد ده إيه؟

الأب: حأشوف اهدي أنت بس؟

الأم: لازم تعاقبه بشدة المرة دي... ده مش بيتنأور على الجيران والقرايب بس... ده وصل لناظر المدرسة، بيهزأ ناظر المدرسة ويضحك الأولاد عليه، لازم تضربه.

الأب: مانا وبخته وطلبت منه يدخل أودته ميطلعش منها.

الأم ممتعضة: وده كفاية؟

الأب وقد هم بالانصراف من أمامها: حأشوف حأشوف.

مساءً، كان فؤاد قد نسى تماماً ما حدث، وسرعان ما بدأ ممارسة شقاوته المعتاده، لذا انتهزت والدته فرصة خروج والده وانهالت عليه ضرباً وتوبيخاً.

وفي الصباح، اصطحبه والده إلى المدرسة، ووبخه بحدة أمام الناظر، واعتذر له بنفسه، على وعد بعدم تكرار ما حدث. إلا أن ريما عادت إلى سابق عهدها، ونسى فؤاد {العلقة الساخنة} وواصل السخرية من الجميع أصدقائه وأساتذته.حتى ناظر المدرسة أيضاً ناله من {الحب جانب}، فحالة الانبهار والسعادة التي يشاهدها في عيون زملائه عندما يبدأ فقرة التقليد كانت تدفعه لممارسة الفعل نفسه ومن دون تردد، ولكنه تعلم أن يكون أكثر حرصاً في اختيار مكان التقليد.

لحظة الميلاد

ذاع صيت فؤاد ليس فقط بين أطفال الفصول الأخرى أو طلبة الصفوف الأكبر منه سناً، ولكن بين المدرسين أيضاً وذلك بعد واقعة تقليده الناظر، حتى طلبه يوماً المدرس المسؤول عن المسرح المدرسي. في البداية، لم يفهم فؤاد لماذا يطلبه هذا المدرس تحديدا، وفي الطريق إليه حاول أن يتذكر هل طاوله التقليد أيضاً، وسيتعرض للعقاب؟ إلا أن ابتسامة المدرس شجعته على التقدم إليه، فقد أدرك بفطنته أن المسألة لا علاقة لها بالعقاب.

فؤاد: خير يا أستاذ قالوا لي إن حضرتك عاوزني؟

الأستاذ: أيوه... قالوا لي إنك بتعرف تقلد أي حد، ده صحيح؟

صمت فؤاد ولم يعرف ماذا يفعل، ولا بماذا يجيب أستاذه الذي واصل قائلا: ما تخافش مش حأ قول لحد، ولو قلدت الناظر كويس حاديلك الشيكولاته دي.

واصل فؤاد الصمت، فقطعه المدرس قائلا، طيب بلاش الناظر، تعرف تقلدني؟ أو تقلد أستاذ.

أومأ فؤاد برأسه علامة الإجابة، وبدأ بالفعل في تقليد أحد المدرسين المشهور بلازمة معينة، فابتسم المدرس، وأخبره بانضمامه لفريق التمثيل بالمدرسة.

طار فؤاد من الفرحة وأخبر والده، وكعادته رحب بانضمام ابنه إلى نشاط مدرسي، خصوصاً مع تميزه، فيما أبدت والدته اعتراضاً خشية أن تتعطل دراسته. إلا أن والده وأمام إلحاح فؤاد حسم مشاركته.

التزم فؤاد بالتمارين وبعد أيام قليلة أسند إليه المسؤول أحد الأدوار الرئيسة بالعرض بعدما لمس موهبته، رغم أن عمره كان لم يتجاوز حينها العشر سنوات. تدرب فؤاد جيداً على دوره، واتقنه لدرجة أن شقيقه سامي حفظه من كثرة تكراره، وفي التمارين الكثيرة التي أجريت قبل العرض أظهر فؤاد أداء جيداً أمام زملائه والأستاذ، ما جعل مسؤول المسرحية يراهن عليه، خصوصاً أن طبيعة الشخصية التي كان يقدمها تتسم بالكوميديا والسخرية.

في اليوم المنتظر، لم تسمح ظروف الدكتور زكي بحضور العرض المسرحي بسبب انشغاله بالجامعة، لذا ذهبت والدته مع أشقائه حريصة على الحضور. كان فؤاد سعيداً بحضورها، ولكنه لم يتخيل أن لحظة ميلاده هي نفسها نهاية علاقته بالمسرح المدرسي، إذ فوجئ فؤاد بوالدته تصرخ فيه وهو مندمج يؤدي دوره تطالبه بالنزول من على خشبة المسرح، قائلة: {انزل يا ولد... انزل... إيه المسخرة دي}.

وفعلاً، ووسط ذهول الجميع، نزل فؤاد منصاعاً لأوامر والدته، فهو لم يجرؤ يوماً على عصيانها، ليعيش بعدها أسوأ ليلة ظلت تفاصيلها محفورة في ذاكرته ووجدانه.

الأب

والد الفنان فؤاد المهندس هو الدكتور زكي المهندس الذي تخرج في كلية دار العلوم 1910، واستكمل دراسته في بعثة بإنكلترا، حيث حصل على دبلومة في التربية والأدب، ودرس علم النفس ليعود بعدها إلى مصر، ويساهم في وضع أسس التربية والتعليم. لاحقاً، عمل مدرساً في كلية دار العلوم، وتدرج في مناصبها حتى شغل منصب عميدها، وكان حريصاً على تطوير المناهج فيها، وأسلوب الدراسة من النظام المدرسي إلى الجامعي، كما كان عضواً في مجمع اللغة العربية.

هذا الأب هو صاحب الفضل الأول في تنمية موهبته الفنية، فقد أخذ عنه فؤاد كل شيء تقريبا خصوصاً خفة الدم وحضور البديهة.