يكفي أن نعيد إحياء تجاربنا الخاصة من دون الحاجة إلى تضخيمها أو تجميل السنوات الماضية كي ندرك أن الحب يمكن أن يؤدي فعلاً إلى الشعور بالاكتفاء التام. لكن يعني هذا المفهوم أيضاً أن حالة الاكتفاء تكون دائمة وغير عابرة. لكل شخص وضعه الخاص، لذا تختلف علاقات الحب التي تناسبه. أحياناً، قد لا يناسبنا أي شكل من أشكال الحب، أو أننا قد نضطر في المقام الأول إلى فهم ذواتنا قبل التمكن من بلوغ الاكتفاء التام.

Ad

حب الأهل

إنه حب طبيعي! الأهل هم الذين يعتنون بنا على جميع المستويات حين نعجز عن فعل ذلك. إنه أول شكل من الاكتفاء الذاتي وهو يعكس الحالة شبه المثالية التي يعيشها المولود الجديد. يستفيد الأخير من جو الحب في محيطه ومن الدلال والشبع الدائم والابتسامات التي يتلقاها من جميع الاتجاهات... لا ندرك مظاهر الاهتمام هذه للأسف مع أن الأشهر الأولى من الحياة تطبع نفسيتنا على المدى الطويل بحسب رأي علماء النفس.

نتيجةً لذلك، يسمح لنا هذا الحب الطبيعي الذي نكنّه لأهالينا ببناء شخصيتنا وثقتنا بنفسنا والانطلاق في الحياة. لكن لا يعبّر هذا الوضع عن المعنى الدقيق للاكتفاء التام لأن هذه المشاعر تكون تلقائية ويبقى مستوى الإدراك لهذه الحالة مجهولاً أو غير كامل أحياناً. خلال الطفولة، يسمح هذا الحب بالنمو وملء قلب الطفل بالمشاعر تجاه والديه الخالدَين بنظره. لكن سرعان ما تأتي فترة المراهقة لتضع حداً لهذا الشكل من اللاوعي الإيجابي.

حب الشريك

إنه الحب الذي نسمع عنه طوال الوقت، أي الشعور الذي يترافق مع العلاقة العاطفية. يتخذ هذا الحب أشكالاً متعددة بحسب الظروف السائدة، وتتعدد أشكاله بحسب شخصية كل طرف من العلاقة وبحسب عمر الفرد حين يشعر بهذا الحب: هل هو الحب الأول أم الحب الذي ينشأ بعد سلسلة من الخيبات العاطفية؟

يمكن أن يأخذ هذا الحب مظاهر متنوعة وأن يتطور مع مرور الوقت. نادراً ما يرتبط مفهوم الاكتفاء التام بالأشهر الأولى من هذه المغامرة مع أنه يتماشى معها جيداً. تعني بداية الحب إيجاد شخص يسلب قلبنا وعقلنا وكامل حواسنا. إنها اللحظة التي نشعر فيها بأننا {امتلأنا} من الشريك لدرجة أننا لا نعود قادرين على التفكير بشخص آخر أو العمل بشكل صحيح لأننا نصبح مهووسين بالطرف الآخر فيفقد كل شيء معناه ما عدا اللحظات التي نمضيها مع الشريك! لكن لا تعني هذه اللحظات بلوغ الاكتفاء التام لأنها تكون مرادفة أيضاً للقلق والعصبية والشغف والسعادة الجنونية والتعاسة الهائلة لأبسط سبب. يصعب التعايش مع هذه المرحلة أحياناً لكن نادراً ما نندم على هذه اللحظات بعد مرور سنوات.

في المرحلة اللاحقة، يتخذ الحب شكلاً أكثر تنظيماً وهدوءاً. وإذا بقيت المشاعر قوية، قد يترسخ الاكتفاء التام. يجب الاعتراف بصعوبة تحقيق ذلك بالنسبة إلى الجميع لأن هذا الحب يعني بدء حياة جديدة وتنظيم الأحداث ضمن سياق ملموس وروتيني بعد انتهاء المرحلة الأولى من الحب.

لا ينتهي الشعور بالاكتفاء في مرحلة معينة بل يمكن عيش هذه اللحظات من السعادة الحقيقية في ظروف متنوعة، مثل تمضية أوقات ممتعة والتخطيط لمشاريع مشتركة والضحك على الدعابات نفسها. تسمح اللحظات المشتركة بإقناعنا بأننا لم نسلك الاتجاه الخاطئ، لكن يبقى الحذر واجباً في مطلق الأحوال. يسمح الحب في سن الرشد بإحراز التقدم، مع أننا نحتاج أحياناً إلى خوض تجارب عدة قبل إيجاد التوازن المناسب.

حب الأم

حب الأم لا يكون فطرياً دوماً كما يظن الكثيرون، إذ يعدد علماء النفس بعض الحالات التي لا تشعر فيها المرأة بفيض المشاعر الذي يُعتبر طبيعياً في معظم الحالات. قد تشتق هذه المشاعر من طريقة تربيتنا أو غريزة الحفاظ على الجيل المقبل، لكن لا تكون المرأة مضطرة لإجبار نفسها على تطوير حب كبير تجاه الكائن الصغير الذي ينمو في أحشائها.

في حالات أخرى، يكون هذا الحب مفاجئاً بعض الشيء في البداية لأنه مرتبط بجزء من جسم المرأة. بحسب الظروف السائدة، قد تطغى مشاعر الخوف والسعادة، لكنّ هذه الحياة التي تتطور داخل المرأة قد تعكس شعوراً فعلياً بالاكتفاء التام. يمكن أن يعيق بعض الظروف هذا الشعور كأن لا يكون الطفل مرغوباً فيه أو أن يبرز بعض المشاكل الصحية. مع ذلك، تستفيد المرأة خلال هذه الفترة من الدلال والمراعاة واللطف أكثر من العادة.

بعد الولادة، تؤدي العناية التي يحظى بها الطفل إلى نشوء رابط وثيق بين الأم وابنها. في هذه الحالة، يمكن أن يستمر شعور الاكتفاء خلال الأشهر الأولى. سرعان ما تستعيد الحياة اليومية مسارها الطبيعي، فينمو الطفل ويذهب إلى المدرسة ثم الجامعة وتصبح اللحظات المشتركة نادرة وصعبة في المرحلة اللاحقة...

الحب الصوفي

جرت دراسات عدة حول هذا النوع من الحب الذي يرتبط بالإيمان أو المعتقد. يثير ممارسو اليوغا دهشة الجميع، وحتى غير المؤمنين، لأنهم يستطيعون متابعة التأمل طوال ساعات. ينطبق الأمر نفسه على الرهبان الذين يعزلون أنفسهم في الأديرة طوال سنوات للصلاة من أجل الخير العام. لا شك في أن هذا الحب المميز يثير حيرة الناس. بغض النظر عن الديانة أو فلسفة الحياة، نجد دوماً أشخاصاً مستعدين لتخصيص كامل وقتهم للتأمل والصلاة والتقرب إلى الله...

يمكن تعريف التصوف بأنه شعور باطني بوحدة العالم الكاملة والنهائية رغم تعدد مظاهره: إنه معنى {كونيّ} للوحدة. لا يمكن عيش أي نوع من التصوف من دون حب، ويقع هذا التصوف بين ضرورة التحرك والتعامل مع واقع الحياة. يُعتبر مفهوم الاكتفاء التام اعتيادياً في الحياة الروحية. تتنوع المقاربات وتختلف الوسائل المستعملة لكن يكون الاكتفاء هدفاً بحد ذاته دوماً. الهدف النهائي هو التقرب من الإله الذي يُعتبر أصل الوجود كله وسرعان ما يصبح الاكتفاء نتيجةً لهذا السعي الطوعي والحماسي.

الحب والاكتفاء: ثنائية ناجحة

يضمن الحب الصادق، بغض النظر عن نوعه، لحظات من الاكتفاء التام. حتى لو كان الحب عابراً أو دائماً، هو يشكّل بكل وضوح قوة هادئة تقودنا نحو شعور السعادة. يتماشى الاكتفاء التام مع السلام الداخلي والهدوء والسكينة والثقة بالنفس وبالآخر. هذه هي ميزة الثنائيات المسنّة التي يسخر منها الشباب أحياناً نظراً إلى الحياة الرتيبة التي يعيشها هؤلاء الأزواج، لكن لا يجب الحكم على الوضع من الخارج. يرتكز الاكتفاء على مشاعر قوية وصلبة يمكن أن نتابع بناءها على مر السنين. لا تتعلق تلك القوة بالشباب لأنها لا تترسخ إلا مع مرور الوقت وهي تبقى صلبة على نحو مدهش.

قد يضعف هذا الشعور أحياناً حين تصبح هشاشة الحياة واضحة مع التقدم في السن، بعدما كنا نظن نفسنا بعيدين عن الموت في عمر العشرين. يكفي أن يمرض أحد الأولاد أو يموت أحد الوالدين أو يتعب الشريك كي نصطدم بالواقع ونوشك على الانهيار. يُقال إن الخوف يرافق السعادة التي تطبع ولادة الأطفال لأن الحب يعني أيضاً القلق على الشخص الذي نحبه. نحن ندرك هذا الجانب الهش من الحياة حين نعلم أنها قد تنهار فجأةً. في المقابل، تسمح هذه الهشاشة بالاستفادة من اللحظات السعيدة من دون أحكام مسبقة ونوايا سيئة. هذا النمط من الحياة يفرض علينا التمتع برغبة قوية في تحقيق السعادة. لهذا السبب، يجب أن ندرك ضرورة أن يكون الحب طوعياً، ما يسمح في المرحلة اللاحقة بإنشاء جميع الظروف اللازمة لبلوغ سلام داخلي حقيقي.

باختصار، يُعتبر الحب وسيلة أساسية لبلوغ ذروة الاكتفاء التام، حتى لو لم تكن هذه الحالة دائمة بل اقتصرت على لحظات معينة. الطريق الذي يجب سلكه واضح، لذا يكفي أن نتبعه...