في مطلع هذه السنة، نشرت منصة مركز "كارنيغي أوروبا" الممتازة المخصصة للاتحاد الأوروبي،Strategic Europe (أوروبا الاستراتيجية)، سلسلة مفصلة تقيم طموحات السياسة الخارجية في كل من الدول الأعضاء الثماني والعشرين في الاتحاد الأوروبي، وقد اختصرت رئيسة التحرير جودي دمبسي الكثير، عندما اعتبرت أن أوروبا، سواء كاتحاد أمم أو الأجزاء التي تكوّنه، تقصر عن بلوغ وعودها.

Ad

أما زميلها في كارنيغي، يان توشو، فلاحظ أسباباً تثير الاشمئزاز واليأس في هذا الصدد، ففي افتتاحية مشتعلة، وصف توشو قارة أوروبية يكثر فيها الضجيج من دون إنجازات وتعجز عن ممارسة نفوذها، ويعتقد توشو أن هذا لن يتغير، مع أن مقدار المخاطر التي تواجهها القارة بات واضحاً على نحو مقلق في باريس قبل أيام.

كتب: "باختصار، بخلاف الكلمات القوية التي أعلنها السياسيون عقب اعتداءات باريس، لن تشهد سياسة أوروبا الخارجية تجاه الشرق الأوسط تبدلات تُذكر، فلا أحد يتمتع برأس المال السياسي أو المهارة الاستراتيجية للاضطلاع بدور أكثر فاعلية في أوروبا، لذلك سيبدو مثيرو كل هذا الضجيج بعد أحداث باريس أغبياء، ولا شك أن "داعش" سيفرح، فسيواصل الحكام المحليون شن حرب ضد شعوبهم، وسيقع الاعتداء الإرهابي التالي، وسيبدأ هذا النقاش من جديد".

غطينا هنا بشكل مفصل إلى حد ما في Europe Memo كيف تتخبط الأمم الأوروبية، مع الاتحاد ككيان واحد، لتعرّف السياسة الخارجية، ففي أفضل الأوقات تتمحور هذه المسألة حول تحديد مصالح وطنية متجانسة، فتحدد بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا المصلحة في إطار خاص بالمعاملات والصفقات؛ لذلك تمد بريطانيا يدها إلى الصين، وتعقد ألمانيا صفقات في مجال الطاقة مع روسيا، إلا أن هذه المسألة تقف عند هذا الحد، ولكن فيما يُحدَّد إطار المصالح هذا اليوم، كما هي الحال دوماً في الشؤون الدولية، وفق مخاطر خارجية بارزة، لا تفتقر العواصم الأوروبية إلى الأساليب الضرورية لفرض مصالحها فحسب، بل أيضاً إلى القدرة على تحديدها في إطار محلي.

كما ذكر ستيفان أوير في مقال نُشر أخيراً في International Affairs، ندرك اليوم بالتأكيد أن التاريخ لم يتوقف مع انتهاء الحرب الباردة، إلا أنه دخل في سبات فترة من الزمن، ولم يغرق أحد في النوم بقدر أوروبا، وما يزيد المشاكل التي تواجهها أمم هذه القارة تعقيداً واقع أن السياسات الأساسية، التي تتخطى الحدود القومية في أوروبا (من التوسع ومنطقة اليورو إلى شنغن وفتح الحدود بين الدول)، ولدت أو تشكلت خلال تلك الفجوة، فتحولت بالتالي إلى بنى غير مكتملة هدفها استغلال مرحلة من الازدهار وتعزيز الحريات. ما كانت الغاية منها مواجهة الأزمات، وقد طُبقت قبل إرساء قواعد واضحة، ثابتة، ومفهومة، لنتأمل مثلاً رفض تبادل المعلومات التي تجمعها قواعد بيانات مثل نظام معلومات شنعن وEurodac، بالإضافة إلى ذلك لم توازن حريةَ عبور الحدود بدون أي عوائق ضوابطُ حذرة ومنطقية تحد من الحريات عندما تنتهك الخصوصية. رغم ذلك، قُدمت هذه البنى على أنها ثابتة ولا يمكن العودة عنها، ونتيجة لذلك باتت أوروبا تشبه دراجة هوائية، على حد تعبير جاك ديلور، فإما تدير الدواسات أو تقع.

أدى هذا بدوره إلى فجوة، فباتت سياسة الاتحاد الأوروبي قائمة في المساحة بين السياسات المحلية وفرض المصلحة الوطنية التي قد تقوض، إن لم تُضبط وتُعدَّل، مصداقية السياسيين الأساسيين وتحد من الهامش المتاح أمامهم لتطبيق السياسة الوطنية.

بلغنا اليوم مرحلة من الوضوح، فقد تحدث الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند بوضوح عن الخطر الذي يواجه بلده، ولا شك أن كلامه هذا يشمل كامل أوروبا، ومن المؤكد أن توشو محق في اعتباره هذا مجرد كلام، ولكن إن كانت أوروبا ستستفيق من سباتها وتقدم على مبادرة ما (في السياسة الخارجية، وفي الدفاع، وفي تحديد معنى أن يكون الإنسان أوروبياً)، فلا يمكنها أن تبدأ إلا من الكلام. ولا شك أن إشارة هولاند إلى معاهدات الاتحاد الأوروبي، بدل دعوة حلف شمال الأطلسي إلى رد جماعي، مفيدة جداً، فلم يكتفِ الرئيس بالدعوة إلى إنفاق أكبر في مجال الأمن في الداخل وموقف عسكري أكثر حزماً ضد خطر واضح وجلي، بل دعا أيضاً شركاءه الأوروبيين لتقديم الدعم، علماً أن هذه الدعوة لا أساس لها في تشريعات الاتحاد الأوروبي، وإن استيقظت فرنسا أخيراً وتنبهت لضرورة التوصل إلى سياسة خارجية ودفاعية تلائم القرن الحادي والعشرين، يبدو أن هولاند يسعى إلى مضاهاة هذا الطموح في بروكسل.

تبقى هذه خطوة صغيرة تقوم على الكلام، ولا شك أن قوة الكلام ستخبو إلى أن تحل المأساة مجدداً، لكنها تشكل نقطة انطلاق في الوقت الراهن.

 * جويل وايكينانت