كان فريد شوقي داعياً في أفلامه إلى الخير، حتى وهو يؤدي أعتى أدوار الشر، يقتل ويسرق ويخطف ليقول في النهاية إن {الجريمة لا تفيد}. كان رمزاً لعدد من الفترات الفنية المختلفة، بداية من أعمال الأربعينيات مع يوسف وهبي وزكي طليمات، مروراً بفترة الواقعية وتعاونه الناجح مع كل من صلاح أبو سيف ونجيب محفوظ، وصولاً إلى فترة الانفتاح التي شارك فيها بأعمال استهلاكية تقليدية، قدَّم خلالها تنويعة مختلفة لوجبات فنية اتسمت بالشر تارة والميلودرامية الحزينة تارة، أو الأنماط السطحية المكررة لفنان {جماهيري} طوراً.

Ad

 في العام الأول من اشتغاله في السينما، كان يعمل بصورة ذهنية واحدة وهي {رجل العصابة}، يتحدَّث بصوت عميق مستعار كأنه يأتي من أعماق العصابات الشهيرة في أفلام تلك الفترة. في {اللعب بالنار} عام 1948 تظهر في عين الشرير فريد شوقي النظرة المتنمرة، ويرفع حاجبه الأيسر... ذلك من ضمن أدوات كان يعتمد عليها في تلك الفترة.

وفي أعمال أخرى تُضاف إلى {بورتريه} الشرير ملامح أخرى مثل سيجارة في زاوية فمه، أو شارب رفيع، أو يصبح مجرماً بعين واحدة. ولكنها ظلَّت تغييرات على مستوى الشكل فحسب، وكان أبرزها فيلم {الصقر} 1950. كان شوقي في تلك الأدوار يدبر المؤامرات والمكائد ويلهو بالخنجر كأنه دمية أو لعبة معتمداً على قوته البدنية المفرطة. تعاون شوقي في تلك الفترة مع عدد مخرجين  ركزوا على شخصية {الشرير} مثل هنري بركات في {أمير الانتقام}، وحسن الإمام في {حكم القوي}، وإبراهيم عمارة في {أشكي لمين}، وفطين عبد الوهاب في {بعد الوداع}، كذلك قدم أعمالاً مسرحية وسينمائية لرموز الإبداع العالمي كشكسبير وموليير وفيكتور هوغو، بالإضافة إلى يوسف شاهين وصلاح أبو سيف ونجيب محفوظ.

يقول الناقد كمال رمزي عن {العملاق الشرير} فريد شوقي: {اختيار شوقي لأعماله صنع له ملامح فنية وأبعاداً إنسانية تدل عليه هو وحده، استطاع من خلالها تشكيل قاعدة جماهيرية حاشدة من العاشقين لاسم {فريد شوقي}، والذي اعتمد على تيمة {الشر} التي جعلت منه {ملك الترسو} بلا منازع}. وعن مراحل شوقي، يتابع رمزي: {لم يخرج في البداية عن نمط الشرير التقليدي، مسطح الأبعاد والأعماق، والذي يقوم دوماً بدور غريم البطل، وقدم أعمالاً شريرة لم تكن لها دوافع اجتماعية أو نفسية، في شكل {الشرير الجاهز}، شأنه شأن إستيفان روستي أو محمود المليجي. ولكن في السنوات اللاحقة تخلص شوقي من الكلاشيهات والأدوار الجاهزة، وعلى مدار عشر سنوات قدم أعظم كلاسيكيات السينما المصرية: حميدو، فتوات الحسينية، جعلوني مجرماً، صراع في الوادي، رصيف نمرة 5، باب الحديد، بداية ونهاية}.

وكانت نقطة التحول الفارقة بحسب خبراء ونقاد على رأسهم سمير فريد، الذي يشير إلى بلوغ شوقي مرحلة {النضوج الفني} عبر شخصية {الأسطى حسن} في فيلم يحمل الاسم ذاته، من خلال مخرج الواقعية الأول في مصر صلاح أبو سيف، فلم يعد شوقي يدور في فلك الشكل التقليدي للشرير، ولكنه يحكي عن إنسان لم يرض بما قسمه الله له وتتعرض أسرته لمحن تعكس فوارق طبقية هائلة آنذاك، وتناقش مشكلات مجتمعية بين الأغنياء والفقراء. يرتدي شوقي في الفيلم لباس العمال، ويمسك بأدواتهم ويعيش حياتهم، على عكس ما اعتاد عليه الجمهور من شخصية {الشرير} أو {المجرم والفتوة}. ومن المفارقات أن يظهر في تلك الفترة أيضاً رشدي أباظة في أدوار {الشرير}، ما كان له بالغ الأثر على تحويل مسار حياة شوقي الفنية، الذي كان عليه بذكائه وموهبته أن يبحث عن شخصية فنية جديدة.

الفنان الصاعد

عشرات الصور القديمة تركت أثرها البالغ في وجدان الطفل فريد شوقي الذي ولد وتربى في أسرة من الطبقة الوسطى، في وسط أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة. في أسرة هادئة مترابطة، وهو الجو الأسري الدافئ الذي تعبر عنه أفلام شوقي في مختلف مراحل حياته الفنية، حتى تلك التي يبدو فيها البطل متمرداً على حياته، فلا يلقى إلا الهوان، ليدفعه الحنين مرة أخرى، وإن بعد فوات الأوان إلى الانضواء في عالم الأسرة. لكن صورة أخرى قاسية انطبعت في ذهن شوقي كان لها بالغ الأثر على مشواره، وهو تنفيذ حكم الإعدام في زوج عمته الفدائي، وكان المشهد دافعاً أصيلاً وراء نزعة وطنية متدفقة ظهرت في أفلام عدة له، كلاسيكية أو قريبة من زماننا.

موهبة التقليد

كان أبوه الموظف في مصلحة الأملاك الأميرية واحداً من الذين تعلموا الإلقاء والخطابة على يد زكي طليمات، وكان شوقي يذهب معه إلى المسرح وكان يعود محاولاً تقليد الممثلين الكبار مثل علي الكسار ونجيب الريحاني. وكان يجمع الأطفال الصغار حوله، ويوزع عليهم مصروفه اليومي ليشاهدوه ويشجعوه وهو يمثل.

كان يهوى رياضة الملاكمة وحصل فيها على جوائز وميداليات. وكان يقلد يوسف وهبي في مسرحياته، وعشق إفيهات نجيب الريحاني الكوميدية، وكان بصوته الجهوري العريض يقود تظاهرات الطلبة ضد الإنكليز، ومن هذه المتناقضات تألفت شخصية الفتى فريد شوقي.

استطاع فريد في فترة شبابه المبكر أن يجمع بين الدراسة في مدرسة الفنون التطبيقية وبين انضمامه إلى فريق التمثيل، فتتلمذ على يد عزيز عيد الذي أضاف إليه الانضباط والتفاني في العمل، وفي مسرح المدرسة الصغير أدى أدواراً رئيسة في أعمال لشكسبير وموليير، وكان حريصاً على أن يحضر العروض الأولى لأفلام كل من يوسف وهبي ونجيب الريحاني، ويذهب إلى باب الممثلين في المسرح لمشاهدة الريحاني عند دخوله، ويتتبع يوسف وهبي في الشارع، وكان سعيداً لأن ممثلاً كبيراً تبادل معه حواراً قصيراً، ينهره فيه وينهاه عن أداء تلك الأفعال الصبيانية.

استطاع أن يكون فرقة مسرحية مع أصدقائه، وكتب أحد العروض المسرحية باسم {الفاجعة} اقتبسها من مجموعة مسرحيات ليوسف وهبي، وهي البوادر الأولى التي أنبأت عن موهبته في مجال {التأليف}، وساعده أبوه على الالتحاق بفرقة {رمسيس} حيث التقى بكبار الممثلين مثل علوية جميل وحسين رياض. وسط هؤلاء العمالقة، وقف كومبارساً صامتاً في مسرحية {بنات الريف}، وأثبت قدرة فائقة في حفظ وإجاده أدواره في ما بعد، لذلك اختاره يوسف وهبي لمسرحية {بيت تهدم} ليقوم بأكبر دور ويصبح ممثلاً محترفاً للمرة الأولى في حياته.

في هذه الفترة، تعيَّن مهندساً بمصلحة الأملاك الأميرية وقد وقع {شرير السينما المصرية} في حيرة بين الوظيفة الميري وطريق الفن الشاق، الذي تبدو بدايته واضحة تحت الأقدام، لكن نهايته تظل في علم الغيب، كأنها {الحلم أو السراب}.

بين الوظيفة والفن

اختار شوقي أن يستقيل من فرقة رمسيس، على عكس ما تمناه قلبه وعقله، ويتجه إلى العمل في مصلحة الأملاك كمهندس معماري في منتصف الأربعينيات، وكانت ثمة تيارات مجتمعية عدة في الفن والفكر والسياسة. وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، التقي مصادفة بمجموعة من الموظفين في المصالح الحكومية، يحبون هواية التمثيل فكوَّن شوقي {الرابطة القومية للتمثيل}.

بعد أعوام قليلة أصبحت هذه الأسماء لامعة في عالم الفن مثل: عبد الرحيم الزرقاني وأحمد الجزيري وكمال إسماعيل وعبد الفتاح البارودي... واستأجروا مسرح الريحاني وقدموا مسرحيتهم الأولى {الفاجر}. في هذه الأثناء، ظهرت الملامح الفنية الشريرة لشوقي ولازمته طويلاً. شارك حينها في إحدى مسرحيات الكاتب العالمي أنطون تشخيوف وشاهده فيها يوسف وهبي وازداد اقتناعاً بموهبة {الشرير}، فأعطاه دوراً في فيلم {ملاك الرحمة} في العام 1947، وبعدها عمل في أفلام عدة وقرر الاستقال من الوظيفة الحكومية ويصبح راهباً في محراب الفن.