بعد المجزرة المريعة التي نفذها تنظيم "داعش" في باريس، يطرح بعض المحللين السؤال عينه الذي طرحوه في صيف عام 2014، حين قطع "داعش" رأس رهينتين أميركيتين على شاشة التلفزيون: لمَ يقومون بأمور مماثلة؟ ألا يدركون أن هذا يؤدي إلى نتائج عكسية؟ أولا يدفع هذا العالم إلى إنزال الهزيمة بـ"داعش"؟

Ad

يسيطر "داعش" على الأراضي ويقترف فظائع أخطر بكثير منذ سنتين، فما كان رد فعل الغرب؟ اقتصر على عمليات قصف عشوائية محدودة ساهمت في الحد من تقدمه وسلبته بعض مكاسبه على الهوامش، إلا أنها لم تهز حقاً سيطرته على المنطقة الواسعة التي يحتلها، والتي تشمل مدناً مثل الرقة، وتدمر، والموصل، والرمادي. لا عجب، إذاً، في أن أبو بكر البغدادي، الذي أعلن نفسه "الخليفة" على هذه الدولة، يزداد عجرفة ويفترض أن "داعش" يستطيع التغلب على رد الفعل تجاه اعتداءات "داعش" في باريس بالسهولة عينها التي تغلب فيها على رد الفعل تجاه قطعه رأس الرهينتين، والجرائم الجماعية التي يرتكبها، وتدميره الآثار، وعمليات اغتصاب النساء واستعبادهن، وفظائع كثيرة أخرى يطول شرحها.

إن كان هذا حقاً ما يفكر فيه البغدادي، فإن الأدلة تشير حتى اليوم إلى أنه محق، فقد تحدث فرانسوا هولاند عن شن حرب "لا ترحم" ضد "داعش"، إلا أن فرنسا منهمكة في منطقة الساحل الإفريقي وتفتقر إلى القدرة على شن هجوم على الأرض بمفردها. نتيجة لذلك، يقتصر أقصى ما تستطيع فرنسا تحقيقه على قصف بضعة أهداف تابعة لـ"داعش"، كما تفعل اليوم.

تبقى الولايات المتحدة الأميركية القوة العالمية الوحيدة التي تستطيع توجيه هجوم عسكري مباشر حقيقي ضد "داعش"، لكن أوباما أوضح أنه لا ينوي القيام بأمر مماثل، فقد رفض رفضاً قاطعاً وضع جنود أميركيين في موقع يمكنهم من خلاله المساهمة في دحر "داعش" بالتعاون مع الحلفاء المحليين.

الوقوف مكتوفي اليدين: أعلن أوباما في قمة مجموعة الدول العشرين، عندما سئل عن إنزال الجنود على الأرض: "ليست هذه وجهة نظري وحدي، بل وجهة نظر مستشاري العسكريين والمدنيين المقربين أيضاً. نعتقد جميعنا أن هذا خطأ، ليس لأن جيشنا لا يستطيع السير إلى الموصل أو الرقة أو الرمادي والقضاء مؤقتاً على "داعش"، بل لأننا قد نرى تكراراً لما شهدناه من قبل، ألا وهو: إن لم يكن السكان المحليون ملتزمين بحكم شامل، ويقاومون التطرف العقائدي، فسيعاود "داعش" الظهور، ما لم نحتل هذه الدول بشكل دائم".

صحيح أن ثمة حاجة إلى قوة "تحصين" عقب مرحلة "التمشيط" الأولى، لكن جواب أوباما المبسط يتجاهل واقع أن الجيش الأميركي يستطيع، على غرار عملية زيادة عدد الجنود السابقة في العراق عام 2007 والتي عارضها (وما زال لا يفهمها بكل وضوح)، حض الحلفاء المحلين على التحرك، بما أن المشاركة الأميركية الحالية المتدنية المستوى تضمن أن السنّة خصوصاً لن يتمكنوا من مواجهة "داعش" وحدهم، ولا سيما أنهم يخشون أن يمهد القضاء على "داعش" الطريق أمام السيطرة الشيعية.

لم يشر أوباما إلى الحاجة إلى تكرار تجربة صحوة الأنبار بعرض الاستقلال الذاتي على السنّة داخل بنية عراقية فدرالية، علماً أن هذا أمر تستطيع الولايات المتحدة ضمانه بفاعلية من دون تعاون بغداد، فبإمكان الولايات المتحدة ببساطة تدريب وتسليح المقاتلين الثوار السنّة، ومن ثم إعلان (كما فعلت مع الحكومة الإقليمية الكردية عام 1991) أن الولايات المتحدة ستحمي الاستقلال الذاتي السني في المستقبل. ولا شك أن حكومة إقليمية سنية تستطيع الاستمرار بفاعلية من دون دعم بغداد، وذلك باستغلالها مواردها من النفط والغاز التي تُظهر عمليات المسح الجيولوجية أنها وافرة تحت رمال محافظة الأنبار.

إن لم يشأ أوباما إرسال المزيد من الجنود الأميركيين أو عقد صفقة مع السنّة، فلن يحقق أي هدف غير تعزيز استراتيجية فاشلة، وسيساهم هذا بدوره في تأكيد صواب مراهنة البغدادي على أن الولايات المتحدة والغرب برمته يشكلان، كما اعتاد أسامة بن لادن القول، "حصاناً ضعيفاً" يمكن مهاجمته من دون مواجهة أي عواقب.

لا شك أن هذه رسالة خطرة، سبق أن قرأنا عن تهديدات "داعش" لواشنطن، لكن وزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة ترد عليها قائلة: "صحيح أننا نأخذ كل التهديدات على محمل الجد، إلا أننا لا نملك معلومات محددة عالية المصداقية عن هجوم على الأراضي الأميركية".

لكن هذا لا يبدو مطمئناً، فلا تتوافر دوماً "ملعومات محددة عالية المصداقية" قبل أي اعتداء إرهابي ناجح كذاك الذي نُفذ في باريس، فقد أظهر التاريخ أننا عرضة دوماً للاعتداءات المفاجئة، ونتيجة لذلك يبقى تدمير "خلافة داعش" الطريقة الوحيدة لنعزز أمننا، إلا أن أوباما يرفض خطوة مماثلة لأنه يعتقد أن مخاطر هذا العمل كبيرة؛ لذلك سنواصل دفع ثمن الوقوف مكتوفي اليدين.

* ماكس بوت | Max Boot