يرتكب محللو أعمال مجموعات إرهابية مثل "داعش" خطأ من اثنين في تحديد وضعها، فإما يعتبرون هذه المجموعة غير منطقية البتة، مطلقة شرورها من دون تفكير أو تخطيط، أو يفترضون أن هذه المجموعة تنهمك في التفكير الاستراتيجي المكثف، متخيلين إياها ماكرة، وبعيدة النظر، وقادرة على توقع رد فعل الحكومات تجاه استفزازاتها، فترسم خططها وفق ذلك.

Ad

لكن المجموعات الإرهابية تشكل أساساً مجموعات سياسية، في حين أن تفاعلات القوى فيها، فضلاً عن التخطيط والسياسة، تبقى ثابتة، وكما هي الحال مع سائر المجموعات السياسية، تنشأ اختلافات في الرأي تقود إلى أخطاء في الحسابات، وتُتخذ قرارات يتضح أنها خاطئة أو غير مثمرة.

ومن هذا المنطلق علينا التأمل في اعتداءات باريس، فربما أساء تنظيم "داعش" احتساب تأثير هذه الاعتداءات، ليس في فرنسا أو الغرب فقط، بل داخل هذه المجموعة المقاتلة بحد ذاتها، فتمثل اعتداءات باريس انطلاقة جديدة لـ"داعش"، إذ يكمن الاختلاف بين تنظيم "القاعدة" و"داعش"، الذي تفوق على القاعدة كمجموعة مهيمنة على الجهاد الدولي، في طموحاتهما السياسية.

في أفغانستان سعى تنظيم القاعدة إلى تشكيل قاعدة ينطلق منها لشن اعتداءاته ضد الغرب بغية إرغام هذا الأخير على تغيير سياسته وترك العالم الإسلامي، فلم يصب هذا التنظيم كل اهتمامه على تأسيس دولة والسعي لجذب المجندين إليها.

في المقابل يدّعي داعش اليوم أنه يملك نظاماً ناشئاً، ويشير إصراره على إعلان نظامه كـ"خلافة" وعلى تسميته

بالـ"دولة" إلى أنه يعتبر نفسه يؤسس دولة فاعلة، دولة تستطيع الدفاع عن حدودها وإدارة شؤونها الداخلية.

في هذه الحال تبدو اعتداءات باريس محيرة للوهلة الأولى، فلمَ يستفز "داعش" الغرب ويخاطر بنشوب حرب، في حين لا يزال في طور بناء دولة وترسيخها؟

يشير أحد الأجوبة إلى أن اعتداءات باريس شكلت نسخة "داعش" من السياسة الخارجية، فقد سعت هذه المجموعة إلى زرع الخوف في قلوب أعدائها من خلال القتل الوحشي الموثق في أشرطة مسجلة واسعة الانتشار، معتبرة هذه الأشرطة طريقة لتقويض معنويات ائتلاف يواجهها أو وسيلة إلى إحداث شرخ بين الشعب والسياسيين.

هذا هو المنطق عينه وراء اعتداءات باريس، فباستهداف الدول التي تهاجم "داعش" راهناً، يأمل هذا التنظيم إحداث تغيير في السياسة العسكرية، ولكن مع اعتداءات باريس، يبدو أن النتيجة جاءت معاكسة، بما أن التغيير الوحيد الذي ستشهده السياسة على الأرجح تبني رد عسكري أكثر تشدداً.

لكن الأخطاء التي اقترفها "داعش" لا تقف عند هذا الحد، بل تتخطاه إلى تفاعلات هذه المجموعة الداخلية، إذ تخطت المناظرة الأوسع بين المجاهدين، تلك المناظرة التي تعود إلى أسس القاعدة وما وراءها، حدود المألوف، فالسؤال الذي ينشأ اليوم: هل دور الجهاد الملائم بناء دولة أم أن الجهاد العالمي ما زال حياً؟

فقد مكّن تنظيم "داعش"، بتنفيذه اعتداءات باريس، مَن يسعى في هذه المجموعة وراء الجهاد العالمي لا مَن يريدون قتالاً على نطاق أضيق بغية تأسيس دولة، وما زال التوتر قائماً بين بقايا نظام صدام داخل "داعش"، أي ضباط الاستخبارات والمسؤولين العسكريين السابقين الذين يتخذون القرارات، وبين مَن يمارسون أعمال الجهاد القادمين من مختلف أنحاء العالم، فيبدو أن الفئة الأولى تحلم باستعادة السلطة على شكل دولة أو أمة، في حين تغذي الفئة الثانية أحلام صراع كارثي عالمي.

مع تحوّل التركيز من بناء دولة في المنطقة التي يسيطر عليها "داعش" إلى شن جهاد في الخارج ضد الغرب، لا شك أن تخطيط هذه المجموعة ومواردها سيميلان بدورهما في هذا الاتجاه، فلا يشكل "داعش" مجرد مجموعة إرهابية بل له طموحات سياسية تتخطى إيقاع عدد من الضحايا المدنيين في الغرب، وهكذا، بعد اعتداءات باريس، سيزداد مَن ينادون داخل المجموعة بالجهاد العالمي نفوذاً، مما يقلل بالتالي من احتمال تحقق أهداف تأسيس دولة سياسية... إذاً قد تحمل اعتداءات باريس بذور تفكك "داعش".

حقق "داعش" النجاح حتى اليوم كمجموعة إرهابية بتفاديه الأخطاء التي ارتكبها تنظيم القاعدة، فقد انتظر بصبر، عقد التحالفات، وسعى إلى استغلال الانقسامات داخل سورية والعراق، وغزا مناطق وسيطر عليها، وواصل التقدم.

لكن شن جهاد عالمي مختلف تماماً، فهذا الجهاد يدفع الفريق الآخر إلى الرد، فضلاً عن أنه يؤدي إلى أعداء جدد ويضع مجموعة صغيرة من الثوار في وجه الصفوف المحتشدة في العالم المتمدن، ومن الناحية العقائدية قد يكون هذا موقفاً مريحاً لمجموعة مثل "داعش"، إلا أنه مميت من الناحية السياسية، ويكفي أن تسألوا القاعدة.

* فيصل اليافعي | Faisal Al Yafai