كان المخرج والمنتج حلمي رفلة يستعد لإنتاج فيلم «ألمظ وعبده الحامولي»، وأسند مهمة الإخراج لنيازي مصطفى، إلا أن نيازي انشغل في إخراج فيلمين هما «الحساب»، و«دماء على النيل»، وعندما جاء موعد تصوير الفيلم لم يستطع حلمي أن ينتظر حتى ينتهي نيازي من إخراج الفيلمين، فاضطر أن يقوم بإخراج الفيلم بنفسه، واختار الوجه الجديد عادل مأمون، ليقوم بدور عبده الحامولي، كما اختار الفنانة شريفة فاضل لتلعب دور ألمظ، إلا أنه بعد ذلك وجد أنها لا تصلح للدور، وأنها لن تستطيع إقناع الجمهور أنها المطربة ألمظ، فعرض الدور على الفنانة نجاة الصغيرة التي وافقت عليه، وقبل التصوير بأيام قليلة دخلت في مناقشة طويلة معه حول أجرها الذي لم ترض به، وأرادت زيادته، إلا أن حلمي كمنتج قال لها:

الفيلم ميزانيته كبيرة جدا، والأجر الذي أعطيته لك لا غبار عليه.

Ad

ردت نجاة وقالت: الفيلم صعب، ويحتاج مني مجهودا كبيرا، ولا تنس أن لي اسمي، الذي سيلعب دورا في إقبال الجمهور على مشاهدة الفيلم، خصوصا أن البطل أمامي وجه جديد لا يعرفه أحد.

فقال لها حلمي: الفيلم ده ممكن يزود رصيدك عند الجمهور، وكمان حيدخل التاريخ، لأنه بيتكلم عن فترة مهمة في تاريخ مصر، ومسألة الأجر في النهاية نسبية، وأنا متأكد أنك كفنانة تستحقين أضعاف هذا الأجر، لكني كمنتج لا أستطيع أن أدفع أكثر من ذلك، وكانت النتيجة هي اعتذار نجاة عن الفيلم، ما أوقع حلمي في ورطة لم يستطع الخروج منها، وظل يفكر في الفنانة التي يمكن أن تتحمل مسؤولية فيلم بهذا الحجم.

وفي يوم كان في زيارة للموسيقار محمد عبدالوهاب الذي رآه متجهماً، وفي حالة نفسية ليست على ما يرام فقال له:

مالك يا حلمي يا خويا؟

رد علية باقتضاب: عندي مشكلة عويصة مش عارف أحلها.

- مشكلة أيه لا سمح الله.

- بأعمل فيلم عن ألمظ وعبده الحامولي، واخترت صوت جديد اسمه عادل مأمون، لكن مش عارف ألاقي ألمظ.

ابتسم عبدالوهاب وقال له: وإذا قلت لك أنا مين اللي حتعمل ألمظ.. حتديني إيه؟

بانفعال أجاب حلمي: يا سلام.. ده أنا أديك عينيه.

ضحك عبدالوهاب بصوت عال ضحكته الشهيرة، وقال: لا.. أنا مش عاوز عينيك.. لكن عاوز أعمل لحن في الفيلم ده للبطلة اللي قلت لك عليها.

قال حلمي: بس كده.. ياريت تاخد أنت كل ألحان الفيلم.. هو أنا أطول أن عبدالوهاب يلحن أغاني الفيلم بتاعي.

قال له عبدالوهاب: هو الفيلم فيه كام أغنية؟

أنا لسه ما حددتش، وده حيتوقف على البطلة، وعلى عادل مأمون سواء كانوا حيغنوا دويتوهات مع بعض أو كل واحد حيغني لوحده.

فقال له عبدالوهاب: شوف.. أنا كنت في بيروت، وسمعت صوت بنت جديدة ممكن تكون نجمة في عالم الغناء خصوصا أن شكلها حلو، وصوتها كمان حلو، واسمها وردة من الجزائر.

قال حلمي: من الجزائر يعني حتتعبني في مخارج الألفاظ..

- بالعكس دي هايلة في الغناء باللغة العربية الفصحى وباللهجة المصرية كمان، ومش حاتحس أبدا أنها مش مصرية، لكن ممكن تاخد شوية دروس بسيطة علشان تعرف مبادئ اللغة العربية، ولو حفظت بعض آيات القرآن حتسهل علينا المهمة دي.

- كده يبقى تمام.. الفيلم بطولة وجهين جداد علشان ما تحصلش مشاكل بينهم.

وتابع: هات لي عنوان وردة علشان أروح لها واتفق معاها.. معنديش وقت.. لازم أصور بسرعة.

وسافر حلمي إلى بيروت، وذهب إلى ملهى «طانيوس»، واستمع لوردة التي أبهرته هو أيضا، وعرض عليها بطولة الفيلم، فوافقت على الفور، رغم معارضة الوالد الذي بذل حلمي رفلة جهدا كبيرا لإقناعه وبعدها سافرت وردة إلى مصر عام 1960 لتقوم ببطولة الفيلم، والذي تمرض فعلياً في دور السينما بعدها بعامين، حين كان عمرها 23 عاماً.

وأحضر حلمي لوردة شيخا أزهريا لتعليمها قراءة القرآن والمواظبة على الصلاة في أوقاتها، كما قام عبدالوهاب بتعليمها طريقة سهلة لحفظ القرآن، حيث حفظت خمسة أجزاء منه، لأن دور ألمظ كان يتطلب القدرة على نطق العربية بأسلوب سليم، وتم تصوير الفيلم في زمن قياسي، ليعرض في دور العرض يوم 4 يناير عام 1962، وكان بالألوان الطبيعية، وأحداثه تدور حول قصة حقيقية دارت تفاصيلها في القرن التاسع عشر بالقاهرة أيام الخديوي إسماعيل، وشارك وردة وعادل مأمون نخبة كبيرة من النجوم هم حسين رياض، وشكري سرحان، وفؤاد المهندس، وحسن فايق، وتوفيق الدقن، ووداد حمدي، ونادية الجندي، وفتوح نشاطي، وسامية رشدي، وعبد الغني النجدي وغيرهم، كتب قصة الفيلم عبد الحميد جودة السحار، وكتب الحوار وكلمات الأغاني صالح جودت، أما السيناريو فاشترك في كتابته محمد أبو يوسف، ونيازي مصطفى وحلمي رفلة، أما أغاني الفيلم فكانت لمحمد عبد الوهاب، وكمال الطويل، ومحمد الموجي، وبليغ حمدي، وعلي إسماعيل، وفريد الأطرش، الذي أصر أن تكون ألحان الفيلم شرقية تماما، وخالية من أية توزيعات موسيقية حديثة، وأن تكون بواسطة الآلات الموسيقية المعروفة في هذا العصر حتى تكون أقرب إلى الواقعية، وكانت أبرز أغاني الفيلم التي حققت نجاحا كبيرا «روحي وروحك حبايب»، «أسأل دموع عينيه»، «يا نخلتين في العلالي»، «زفة العروسة»، «نشيد النصر».

ولكن من هي ألمظ ومن هو عبده الحامولي؟

نبدأ بألمظ، واسمها الحقيقي سكينة من مواليد الإسكندرية عام 1860 واضطرتها ظروف الحياة والفقر الذي عانت منه إلى أن تعمل «فاعلة مونة»، تعمل مع البنائيين، وتسليهم بالغناء، لتخفف عنهم أعباءهم، وتزيد من نشاطهم أثناء العمل، وبالصدفة استمعت لصوتها عالمة من أكبر عوالم مصر واسمها ساكنة، وكانت تعيش في حي السيدة نفيسة بالقاهرة، فأخذتها معها، وربتها تربية فنية على كل أشكال الغناء، وبالفعل تفوقت ألمظ على معلمتها، وأصبحت أشهر وأهم مغنية مصرية في القرن التاسع عشر، وسميت ألمظ لشدة جمالها، وهو اسم محرف من كلمة ألماظ.

كانت ألمظ قمحية اللون، واسعة العينين، كثيفة الحاجبين، وكانت تبهر كل من يستمع إليها لجمالها وجمال صوتها، في نفس الوقت، وقررت ألمظ أن تترك فرقة ساكنة، وتنفصل عنها، وتكون فرقة خاصة بها بعد أن اكتشفت قدرتها على تحمل مسوؤلية موهبتها بمفردها دون الاستعانة بأحد، ووصلت شهرتها للقصر الملكي، حيث أعجب بها الخديوي إسماعيل باشا، وكان دائما يثني على صوتها الذي وصفه بأنه صوت نادر.

أما أشهر أدوارها الغنائية التي حققت نجاحا كبيرا فكان الدور الذي غنت فيه:

لازم أهشه دا العصفور

وأنكش له عشه دا العصفور

وابن الأكابر والعصفور

ع العشق صابر دا العصفور

طار وعلا وعلا وطار

ونزل على بيت العطار

وكبش ملبس وأداني

ولوز مقشر وعطاني

لازم أهشه دا العصفور

ياسيدي أنا أحبك

وربنا عالم وشاهد

لاصبر على أحكام الله

لما يبان لي معاك شاهد

لازم أهشه دا العصفور

أما عبده الحامولي فهو من مواليد قرية الحامول التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية، وكان له أخ أكبر منه، اختلف مع أبيه، فاتفق عبده مع أخيه على السفر للقاهرة، وجاء الاثنان للقاهرة فقيرين بائسين، يبحثان عن عمل يعيشان منه، وفي يوم استمع المعلم شعبان صاحب مقهى شعبي بالقرب من حي الإزبكية إلى صوت عبده، فأدرك أنه يمكن أن يكون مصدر رزق للمقهى، واتفق معه على الغناء كل ليلة، وسرعان ما امتلأ المقهى بالزبائن الذين أعجبهم صوت الحامولي، وخاف المعلم شعبان أن يهرب منه الحامولي بعد اتساع شهرته، فقرر أن يزوجه ابنته، وبالفعل تزوجها، إلا أنه لم يستطع الحياة معها بعد أن علم أنها لا تحبه، وأن كل ما في الأمر طمع والدها في بقائه معه، ليكون مصدر دخل له عن طريق الغناء في المقهى كل ليلة، فقرر أن يتركهما، وألا يعود إليهما مرة أخرى.

والتقى الحامولي بالصدفة مع شاكر أفندي الحلبي أحد حفظة الأدوار والموشحات، وتلقى على يديه أصول الغناء، وحقق شهرة واسعة في عالم الغناء، وكون تختا موسيقيا خاصا به، وتولى محمد عثمان والشيخ محمد عبدالرحيم المسلوب مهمة تلحين أغانيه، وعندما سمعه الخديوي إسماعيل أعجب به، وألحقه بحاشيته، وأخذه معه الأستانة، فاستطاع أن يستمع للموسيقى التركية، وقدم ألحانا تجمع بين المزاج المصري والمزاج التركي، وتحمل الطابع الشرقي، واستخدم عبده الحامولي مقامات لم تكن موجودة في مصر كالحجاز كار، والنهاوند، والكرد والعجم، واشتهر بقدرته على اختيار الكلمات الراقية الموحية، كما أنه بعكس مطربي زمانه تعاون مع كبار رجال الدولة الذين يكتبون الشعر مثل محمود سامي البارودي، وإسماعيل صبري باشا، والشيخ عبد الرحمن قراعة مفتي مصر في ذاك الوقت وعائشة التيمورية، كما طلب من بعض الشعراء والمثقفين ترجمة مجموعة من الإغاني التركية إلى اللغة العربية، وهو أيضا من أوائل من لحن القصائد التقليدية مثل «أراك عصي الدمع» لأبي فراس الحمداني، ورغم أن تراثه الغنائي ينتمي إلى القرن التاسع عش، إلا أن تأثيره كان قويا على كل مطربي العقدين الأولين من القرن العشرين، أمثال صالح عبدالحي، ويوسف المنيلاوي، وعبد الحي حلمي، وسلامة حجازي.

وفي القصر الملكي للخديوي إسماعيل استمع إلى صوت ألمظ، وقرر أن يتزوجها، وأقيم عرس أسطوري في القصر لزواجهما، وبعد الزواج منع عبده ألمظ من الغناء، وفي أحد الأيام أمر الخديوي إسماعيل بإحضار ألمظ لتغني في قصره، لكن الحامولي رفض إرسال زوجته، فعاود الخديوي الطلب، ومعه تهديد شديد اللهجة، وأرسل بعض الضباط والجنود لاقتحام بيت عبده، الذي فضل الموت على أن تخرج زوجته مرة أخرى إلى الغناء، وتدخل الشيخ علي الليثي شاعر الخديوي إسماعيل لإعفاء ألمظ من الغناء، وذلك لإخراج عبده من هذا المأزق العصيب، وبالفعل استجاب الخديوي لطلب الشيخ الليثي، ولكن دارت الأيام وأمام الضغوط التي واجهت عبده الحامولي، اضطر أن يوافق على عودة ألمظ للغناء في القصر الملكي أمام الخديوي، وعندما علم الخديوي إسماعيل بوفاة ألمظ حزن عليها جدا، وأمر أن يمر جثمانها من عابدين أمام القصر الملكي في جنازة مهيبة.

وفي عام 1901 وقبل وفاته أسابيع قليلة، سجل بعض أعماله على أسطوانات شمعية، إلا أن رداءتها لم تسمح بالانتشار السريع لها، وظل عدد كبير من هذه التسجيلات حتى اليوم، كما ظهرت ألحان وأغاني عبده الحامولي بعد وفاته بحوالي 70 سنة عن طريق فرقة الموسيقى العربية التي أنشأها في القاهرة الموسيقار عبد الحليم نويرة عام 67، وطبعت تلك الألحان على أسطوانات من جديد ولاقت نجاحا كبيرا.

ومن أشهر أغاني عبده الحامولي: «الله يصون دولة حسنك»، «أنت فريد في الحسن»، «كنت فين والحب فين متع حياتك بالأحباب»، «كادني الهوى».

وتم أيضا إنتاج مسلسل تطرق لسيرة الثنائي الشهير ألمظ وعبده الحامولي، وهو مسلسل «بوابة الحلواني» الذي حكى تاريخ مصر في 4 أجزاء، وتناول فترة حكم الخديوي إسماعيل من خلال سيرة أسرة الحلواني في قرية الفرما التي أصبحت بورسعيد بعد حفر قناة السويس، المسلسل كان تأليف محفوظ عبدالرحمن، وإخراج إبراهيم الصحن، وجسدت دور ألمظ المطربة شيرين وجدي، بينما جسد دور عبده الحامولي الفنان علي الحجار، وضم أيضا العمل مجموعة كبيرة من النجوم منهم سهير المرشدي، وعزت العلايلي، وسعاد نصر، وإيمان الطوخي، ونشوى مصطفى، ونجاح الموجي، وحسن كامي، وليلى طاهر، وصلاح قابيل وسمية الألفي.

أغنية: روحي وروحك حبايب

كلمات: صالح جودت

ألحان: فريد الأطرش

غناء: وردة الجزائرية

روحي وروحك حبايب من قبل ده العالم والله

أنا فؤادي متيم من قبل يوم التلاقي

وربي هو اللي يعلم محبتي واشتياقي

يكتب لي في الحب نايب ويطل على العشاق طلة

روحي وروحك حبايب من قبل ده العالم والله

حلفت خدك بخاله حلفت حسنك بعبده

أنك تحقق وصاله وتنوله نجم سعده

يطلع على قلب دايب ويهل ويقول اسم الله

روحي وروحك حبايب من قبل دا العالم والله

عادل مأمون في سطور:

بطل فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» واسمه بالكامل، محمد عادل محمد مأمون جمعة، وُلد في حي «الجمالية» في القاهرة عام 1932، وحصل على بكالوريوس التجارة، وهو عازف ماهر على العود، أما والده فقد كان عازفا على آلة القانون، وبعد أن أعجب وزير المعارف بموهبته عندما استمع له في حفل بالأزبكية، قرر إلحاقه بمعهد الموسيقى في منحة مجانية، ثم حصل مأمون على دبلوم العزف في الكمان، وتأثر عادل بأداء وألحان محمد عبد الوهاب، الذي طلب منه غناء أغانيه القديمة التي لم يكن لها تسجيلات جيدة، كما طلب منه أن يمثل دوره في المسلسل الإذاعي الذي قدمته الإذاعة عن قصة حياة عبدالوهاب. ومن أشهر أغانيه: «مش قادر أنسى»، «ياللي سامعني»، «أنت واحشني»، «عاشت الأسامي»، «فين طريقك فين»، «أبعد عن الحب وغني له»، كما أعاد غناء عددا كبيرا من أغاني عبدالوهاب مثل «هان الود»، و«لا مش أنا اللي أبكي»، ومثل في السينما 3 أفلام فقط بعد فيلمه الأول «ألمظ وعبده الحامولي»، وهذه الأفلام هي «عبيد المال» عام 1953 و«نساء بلا رجال» عام 1953، و«العزاب الثلاثة» عام 1964، وتزوج من المطربة هدى زايد، وأنجب منها ابنتين هما نهلة وهالة.

أبرز مشاهد الفيلم

احتل فيلم «ألمظ وعبده الحامولي» مكانة مهمة في التاريخ السينمائي، لأنه صُور ببراعة ورصد مصر في عهد الخديوي إسماعيل، وكيف كان يتصرف في شؤون مصر، ومن أبلغ المشاهد التي قدمها الفيلم، المشهد الذي يجيئ فيه ديلسبس، ويطلب مقابلة الخديوي، فيرفض إسماعيل لأنه يعلم أن ديلسبس يطلب جزءا من أملاك الدولة في قناة السويس إلى جانب الامتيازات التي حصل عليها، ثم يهمس خليل أغا في أذن الخديوي أن الرجل جاء ومعه فتاة فرنسية شديدة الجمال، فيبتسم الخديوي، ويأمر بضمها إلى الجواري في الحريم، ثم يقابل ديلسبس، ويوقع معه العقد في نفس اليوم، أما أبرز انتقاد تم توجيه للفيلم فهو أن أغانيه ليست تراثية، ولا تليق بطبيعة القصة التي تتناول حياة ألمظ والحامولي، رغم أنه تم غناؤها باللهجة المصرية، وهو ما جعلها قريبة من المصريين.