حِرتُ في فهم معناي أنا كإنسان، فسألت علم البيولوجيا، فقال: أنت كومة خلايا تناسقت جيناتها فصممت بشرا، أما السيكولوجيا فرأتني أرشيف شعور واع ولا واع؛ والحكماء الأقدمون من الحضارات جميعها اختلفوا، فمنهم من قال إني ابن إله، ومنهم من قال إني روح سرمدية تدور على الكائنات، وبطبيعة الحال هذه خزعبلات مرفوضة! فسألت الفيزياء، فقال: أنت تجميعة ذرات تشكلت مع نشأة الكون، ولكن المفاجأة جاءت من الفلكي الذي قال إنني ابن نجمة من الفضاء.

ذكر عالم وكالة الفضاء «ناسا»، كارل سيجان أننا خلقنا من أدم الأرض، والأدم هو اسم لتربة الأرض، وكوكب الأرض هذا لم ينشأ إلا بعملية انفجار النجوم التي أطلقت طاقة اجتمعت بسببها حبيبات الغبار المبثوثة بالفضاء، ثم بفعل قوة الجاذبية، دارت الحبيبات حول بعضها إلى أن تراصّت وتكبكبت على بعضها بشكل دائري فغدت كوكباً؛ وبأمره سبحانه اهتزّت وربت، وصلحت للحياة، ومنها خلقنا سبحانه، ويؤيد ذلك صريح الحديث: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِن ْقَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْض فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ». ولكن هل أنا ذرة أم نجمة أم خلية؟ تعددت الأسباب والإحياء واحد.

Ad

كل ذلك مجرد شرح لآليات خلق، ولكن السيارة مهما كانت آلية تصنيعها جاءت لغاية السير، والطائرة للطيران؛ والمذياع للإذاعة، فمهما كانت آليات الصنع، تبق الغاية هي التي تجيب عن سؤال ماهية هذه الأشياء... فما غايتي التي بها أعرف ما أنا؟ لحسن الحظ، سيشاركنا الأديب جلسة التفكير هذه، فلنسأله عن غاياتنا، مع العلم أن كل رواية كتبها هو، ما كان لشخصياتها قيمة لولا القصة التي وضع فيها ظروفا تحددت بها صفات شخصياته، فيا أديب، هل أنا مجرد قصة؟

يجيب الأديب: بالتأكيد أنت قصة، اسمع لهذه الحادثة، أقدم لك شخصياتي الثلاث؛ تعبت جداً وأنا أصممهن (سها ومنى وعنود)، البُنيات الثلاث كُنّ طموحات، أردن أن يفعلن ما لم تفعله شخصية خيالية من قبل، وذات يوم، نجحن في الفرار من عقلي، فخرجن لعالم فارغ، فإلى أين يذهبن بدون قصة؟ بل بالأحرى أين هن؟! وكيف يرجعن؟ صرن شخصيات بلا شخصية، فلا معنى لهن ولا قضية! استوعبت ذلك أذكاهن «عنود» فصاحت: «ما أنا؟ ما أنتِ؟ ماهذا؟»، تحاول أن تهَدّئها منى، فقالت: «لمَ الخوف؟ المفروض أن تزغردي!»، زغردت قائلة: «نحن الآن نصنع حكايتنا بأنفسنا! نحبكُ حبكتنا! ونُشَكل شخصيتنا!». فأوقف ذلك الفرح والحماس صوت المفكرة عنود: «الشخصيات لا تتشكل إلا بتحديات خارج سيطرتها يا بنت! ولا تسمية لحبكة تحبكينها بنفسك غير اسم أكذوبة! أنا وأنت ومنى نكون لا شيء بدون مؤلف!».

قال الأديب: نعم، هذه حقيقتك يا من تسأل «ما أنا؟»، أنت عبدٌ لله الذي يُقدر، لا مفر منه إلا إليه، فأنت لست شخصية وهمية، وتعالى سبحانه عن تشبيهه بالمؤلف الذي يتخيل، بل هو المُوجد للواقع والخالق لكل ما كان ويكون وسيكون، وما الابتلاء سوى الامتحان الذي نحياه، فأحياناً نكون برخاء يستوجب شكره عليه بالقول والعمل، وأحياناً نكون بعسر معه يسران «فإن مع العسر يسرا* إن مع العسر يسرا». فلا معنى لنا سوى أننا كلنا الدور الذي ابتلينا به.