لنتحدث عن البطيخ.

البطيخ؟ إنه موضوع ظريف.

Ad

منذ بضعة أسابيع، نشر موقع «بازفيد» فيديو على «فيسبوك» يظهر فيه موظفان وهما يضعان أربطة مطاطية حول بطيخة طوال 45 دقيقة إلى أن انفجرت.

إنها فكرة لامعة.

انتشر الفيديو بشكل جنوني وشوهد أكثر من 10 ملايين مرة في الأيام التي تلت نشره على الإنترنت. ما دلالة هذا الوضع بالنسبة إلى مفاتيح النجاح في عالم النشر الرقمي؟

أولاً، يختلف العالم الرقمي بشدة عن التلفزيون والراديو والمطبوعات. ويستفيد موقع «بازفيد» وشركات رقمية أخرى من ذلك الاختلاف. لا يمكن أن نعرض برنامجاً تلفزيونياً يكتفي بتغليف بطيخة بأربطة مطاطية طوال 45 دقيقة. لكن بالنسبة إلى الأشخاص الذين يشعرون بالملل في العمل أو المدرسة، شكّل ذلك المشهد دراما مثالية وحدثاً إعلامياً رقمياً. لكنه لن ينجح مجدداً: لن تكون التجربة المقبلة التي تشمل تفجير أي نوع من الفاكهة أو الخضراوات حماسية بالقدر نفسه. لكن كشفت تلك التجربة عن رسالة عميقة مفادها أن العالم الرقمي وسيلة مختلفة.

أطلق البطيخ نقاشاً في الولايات المتحدة حول مستقبل الصحافة على الإنترنت. يعتبر النقاد البطيخ رمزاً لهوس بعض الوسائل الرقمية وأبرزها «بازفيد» بعدد النقرات ونطاق الانتشار. لكن كيف ستتمكن القصص المرتبطة بالإصلاح الضريبي أو حقوق التصويت أو أي مواضيع مملة أخرى من منافسة انفجار البطيخ على الإنترنت؟

لا يمكن اعتبار تغليف البطيخ بأربطة مطاطية عملاً صحفياً. إنه عمل ترفيهي. لكن لطالما كان مفتاح النجاح في الإعلام يكمن في خليط واسع من التقارير الجدية والنشاطات الترفيهية. لا تكسب صحيفة «نيويورك تايمز» المال من تقارير تكتبها عن العراق وسورية، بل من القسم الخاص بالاعتناء بالحدائق والطعام وحتى قصص القطط. برنامج «ذي توداي شو» ناجح جداً لأنه خليط من المشاهير ومواضيع غريبة وأنباء جدية ومقابلات.

ألا يجب أن نقلق من اضطرار المنشورات الإخبارية الجدية إلى التنافس على العملاء وأموال الإعلانات مع المنشورات الرقمية التي تركّز على نطاق الانتشار أكثر من العمل الصحفي؟

أكرّر أنّ نجاح المنشورات يتعلّق بخليط من العوامل المؤثرة. اكتشف موقع «بازفيد» مثلاً أن الناس يحبّون صور القطط. قد ندّعي أننا محرجون من هذا الواقع لكنها الحقيقة. لذا ينشر «بازفيد» صوراً كثيرة للقطط. لكنهم يستعملون المال الذي يحصدونه من صور القطط لبناء غرفة أخبار استثنائية تنشر قصصاً لا يقرأها كثيرون لكنها تنمّ عن عمل صحفي عالي المستوى.

بعد بضعة أيام على نجاح تجربة البطيخ، اتّضح أن موقع «بازفيد» لم يحقق العائدات التي كان يتوقعها. فكتبت مجلة «فانيتي فير» سريعاً أننا نشهد على الأرجح «بداية نهاية فقاعة الألفية الإعلامية». هل توافقها الرأي أم أنّ موقفها ينمّ عن شماتة بالمنافسين؟

ربما أخفق موقع «بازفيد» في تحقيق أهدافه، لكنه سجّل نمواً بنسبة 40% في السنة الماضية بفضل العائدات المهمة التي كسبها. قد يبذل معظم الشركات الإعلامية أي شيء لتحقيق تلك النتيجة. ما كنت لأسمّي هذه الظاهرة «فقاعة» لأي سبب بل إنها جزء من دورة الازدهار والانهيار. أظن أن قطاعنا سيمرّ بمرحلة تثبيت النتائج كما تفعل القطاعات كافة. ستتجاوز الشركات القوية تلك المرحلة وسيتحسّن وضعها أكثر من شركات إعلامية تقليدية كثيرة لا تزال متمسّكة بنموذج عملها القديم.

ما يجعلك متأكداً من أنك لا تفرط في التفاؤل؟ أصبحتَ محللاً مشهوراً في «وول ستريت» في حقبة فقاعة الإنترنت ثم منعتك «هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية» من العودة إلى «وول ستريت» نهائياً. هل يدفعك هذا الوضع إلى زيادة التشكيك بما يحصل اليوم؟

كانت تجربة فقاعة الإنترنت درساً مؤلماً طبعاً. لاحظتُ تراكم فقاعة كبيرة وطالبتُ في مناسبات عدة بالحد من المخاطر. لكني لم أتوقّع حجم الدمار المرتقب أو فشل أكبر الشركات أو انهيار جميع الأسهم. لكن يجب أن نبقى متفائلين بالمستقبل كي ننجح في أي جهود مهنية. خلال السنوات الأولى التي تلت نشوء «بيزنس إنسايدر»، قال لي بعض المستثمرين: أنت حذر أكثر من اللزوم، يجب أن تكون أكثر عدائية وتستثمر أموالاً إضافية وتأخذ المجازفات. إنها فرصة كبرى لكنك تبقى متحفظاً!

أخطاء... وأرباح ضئيلة

ليس الجميع مستعدين لمسامحتك على أخطائك. كتب عنك رئيس تحرير سابق في «بيزنس ويك»: «كان بلودجيت مخادعاً وتشاؤمياً جداً. يُفترض أن يكون الصحافيون عكس ذلك. يؤلمني أن أراه وهو يتابع عمله بشكل طبيعي». ووصفك الكاتب ديفيد كالاهان بـ»سيّد الضجيج» العظيم.

ما حصل معي كان محبِطاً ومهيناً. شعرتُ بسوء في تلك الفترة. شعرتُ بأنني خذلتُ كثيرين. لكنّ ذلك الوضع شجّعني على استعادة ثقتهم. كنت أستدعي كل من يصدر أحكاماً مماثلة عليّ كي يقيّم عملي الصحفي وأقرأ ما كتبتُه. يحب معظم القرّاء هذه المواضيع.

بدأت مهنتك كصحافي مستقل قبل أن تنتقل إلى «وول ستريت» في عمر الثامنة والعشرين. هل رضختَ لإغراءات المال؟

كان والدي وجدّي يعملان في عالم الأموال. لم أعلم ما أريد فعله حين أنهيتُ الجامعة. كنت أعرف أنني أحب الكتابة وسرد القصص. لكن حين عملتُ في قسم أخبار الأعمال في قناة «سي إن إن»، أدركتُ أن الأسواق تبهرني كثيراً وأردتُ أن أعمل في هذا القطاع.

خسر والد جدك ثروته في حقبة انهيار سوق الأسهم في عام 1929. ألم تبعدك تلك الحادثة عن «وول ستريت»؟

أصبحت تلك القصة أسطورة في عائلتي: كان والد جدي الناجح يملك ثروة طائلة ثم تواجد في سكة الحديد العابرة لسيبيريا في عام 1929، وحين نزل من القطار أصبح فقيراً. أظن أن الحقيقة مختلفة بعض الشيء، لكن كانت تلك القصة جزءاً من طفولتي. في أواخر التسعينيات، كنت أسأل عدداً كبيراً من الناس الأكبر سناً: هل عدنا إلى حقبة العشرينيات؟ كان يجيبني الجميع بالنفي لأننا أصبحنا أكثر ذكاءً واحترافاً بكثير الآن! لكن تبيّن أن الوضع كان مشابهاً لتلك الحقبة وأسوأ منها بعد. كما يحصل مع أي فقاعة، يظن الجميع أن الوضع مختلف في كل مرة.

نُشرت أنباء سيئة كثيرة في قطاع الإعلام الرقمي خلال الأشهر الأخيرة: استقرت نسبة المشاهدات في بعض المواقع وخسر كثيرون وظائفهم. وفق تشخيص صحيفة «نيويورك تايمز»، يسود «هلع هامشي» في عالم النشر الإلكتروني. وحتى موقع «بازفيد» استعمل عبارة «حمّام دم في الإعلام الرقمي». رغم هذه الأجواء كلها، هل يبقى الوضع غير مقلق؟

من المفيد بحسب رأيي أن نُكَوّن رؤية على المدى الطويل. حين انطلقت قناة «سي إن إن» في بداية الثمانينيات، قال الجميع إن شبكة تبث الأخبار على مدار الساعة لن تنجح. لكن انطلق العمل وأبلت القناة حسناً وكادت تفلس بسبب مجازفات أخذتها، لكنها نجت. بعد 25 سنة، أصبحت «سي إن إن» ما هي عليه اليوم وتحوّلت إلى ماركة عالمية ضخمة. أظن أن المسار نفسه يتكرر في العالم الرقمي.

إذا نظرنا إلى الجيل الأصغر سناً، سنلاحظ مستوىً هائلاً من استهلاك الوسائل الرقمية بينما يبقى استخدامهم المطبوعات أو التلفزيون التقليدي شبه معدوم. في النهاية ستتبع المصالح المادية هذه النزعة. يبقى أن تتحدّد هوية الشركات التي ستربح والمدة اللازمة لتحقيق الهدف ونوع النموذج الذي يجب تطبيقه. لكن سيكون المستقبل رقمياً طبعاً.

حتى الآن، حقق بعض المواقع الإخبارية الرقمية نجاحاً على مستوى الانتشار لكن بقيت الأرباح ضئيلة إذا وُجدت أصلاً. متى سيتغير هذا الوضع؟

أظنّ أن قطاعنا يشبه وضع الصحافة في النصف الأول من القرن العشرين. كانت خمس صحف تنشط في كل مدينة وتشتد المنافسة بينها. وكان يصعب أن تصمد الصحف لكنّ تلك التي صمدت حصدت أرباحاً طائلة مع مرور الوقت. أظن أنها مسألة وقت بكل بساطة.

لكن يسهل أن يتوتّر المستثمرون الذين دفعوا أموالاً طائلة في تلك الشركات.

لحسن الحظ يكون معظم المستثمرين في تلك الشركات محترفين، لذا يعرفون أنهم لا يستطيعون الاستفادة مستقبلاً من دون أخذ المجازفات.

منذ 15 سنة، لم يظن أحد أن هذا المحتوى قد يشكّل قطاعاً مهنياً بحد ذاته. كان يستحيل كسب المال واقتصرت الاستثمارات الأولية على 10 آلاف دولار ونادراً ما كانت تصل إلى 100 ألف دولار. لم تتدفق الرساميل الضخمة في هذا القطاع إلا في آخر سنتين أو ثلاث سنوات، مع ظهور مواقع مثل «فايس» و»بازفيد» و»كوارتز». هكذا اشتدّت المنافسة.

طموحات

أصبحت المدونة التكنولوجية الصغيرة التي أنشأتها بعد عملك في «وول ستريت» موقعاً إخبارياً يزوره 94 مليون مستخدم كل شهر. هل يتماشى ما حققتَه مع «طموحك الصحفي»؟

تقضي مهمّتنا بتحديد النموذج الصحفي المناسب للإعلام الرقمي واكتشاف طريقة اختيار القصص التي يحبها القراء في أي زمان أو مكان يختارونه.

ألمحتَ إلى أن بعض الصحف مثل «فاينانشل تايمز» أو «وول ستريت جورنال» تركّز بشكل مفرط على قيمة المساهمين؟ إنه تصريح مفاجئ بالنسبة إلى شخصٍ كان جزءاً من هذا النظام.

بالنسبة إلى بعض المنشورات التجارية على الأقل، تتعلق أهم قيمة بمستوى الأرباح. لكنها ليست أفضل رؤية لبناء نظام رأسمالي سليم. في موقع «بيزنس إنسايدر»، أردنا أن نحتفل بشركات لا تكتفي بإعطاء قيمة للمساهمين فيها بل تهتم أيضاً بعملائها وموظفيها والشركات العالمية وأبرزها «غوغل» أو «أمازون».

هل تريد بهذه الطريقة أن تُزيح صحفاً مثل «فاينانشل تايمز» أو «وول ستريت جورنال» عن عرش المنشورات التي يستحيل تفويتها؟

في العالم الرقمي الجديد، لم تعد المنشورات التي يستحيل تفويتها موجودة.

إذا كنت تعمل في عالم الأموال في لندن، يجب أن تقرأ ما تكتبه صحيفة «فاينانشل تايمز».

لكن سيتغير هذا الوضع حتماً إلا إذا تكيّفت «فاينانشل تايمز» مع آخر المستجدات مع مرور الوقت.

ألم تتخذ «فاينانشل تايمز» طابعاً رقمياً أكثر من معظم الصحف الأخرى؟

لا شك في أن «فاينانشل تايمز» صحيفة مدهشة وينطبق الأمر نفسه على «وول ستريت جورنال» وصحف أخرى كثيرة. لكن يستهلك الجيل الجديد وسائل الإعلام بطرائق مختلفة جداً. في موقع «بيزنس إنسايدر»، لدينا فرصة لتبنّي هذه النزعة بالكامل. لا نملك أي إرث في عالم المطبوعات ولا يُعتبر العالم الرقمي مجالاً ثانوياً لنا بعد الصحيفة المطبوعة. بل إنه مجالنا الوحيد.

تحولات البشر

تكمن قوة النشر الرقمي في قدرته على معرفة ما يحبه القراء والقصص التي يقرأونها وتلك التي لا يقرأونها، من ثم يستطيع زيادة المواد التي يحبونها. تجازف هذه النزعة بإنشاء فقاعة ترشيح.

ماذا تعنين بفقاعة الترشيح؟

تصبح القراءة شكلاً من التفعيل الذاتي والمرجع الذاتي ولا يصلني من سيل المعلومات إلا تلك التي أحبها وأريد مطالعتها. تنتقي منشوراتي على «فيسبوك» و«تويتر» معلومات تتماشى مع رؤيتي عن العالم.

لا أظن أنّ الوضع كذلك. لدينا معلومات تفوق ما كنا نملكه يوماً، ومن الأصعب اليوم أن نتجنّب معرفة رأي الطرف الآخر. صحيح أننا نركّز على منشورات تؤثر فينا، لكن هذا ما كان يحصل منذ 20 أو حتى 100 سنة.

في الولايات المتحدة، يشترك مليونا شخص بصحيفة «نيويورك تايمز» لكن يعتبرها ملايين الناس الآخرين صحيفة ليبرالية مريعة لا يمكن أن يقرأوها. يمكن أن نقرر طبعاً وضع نفسنا في فقاعة لا تشمل إلا من يوافقوننا الرأي. لكن في العالم الرقمي، تتعدد الطرائق التي تدعونا إلى التفكير بخيارات متنوعة.

إلى أي حد تتماشى فكرة تقديم المزيد من معلومات يحبها القراء مع دور الصحافيين في المجتمعات الديمقراطية، أي نشر معلومات ترتبط بالتعايش الاجتماعي حتى لو لم يقرأها ملايين الناس وإجراء تحقيقات والكشف عن الفضائح وقضايا الفساد؟

قبل ظهور الإنترنت، كانت المنشورات الكبرى أشبه بخراطيم مياه في الصحراء. كانت قليلة نسبياً وكنا نحتاج إلى كل واحدة منها ولطالما تحكّمت بالمعلومات التي تصل إلينا. لكنها تشبه اليوم الجداول الصغيرة التي تتدفق نحو المحيط الهائل. قبل عصر الإنترنت مثلاً، كان الصحافي يكتب مقالة عن شركة معينة، فتعتبر تلك الشركة المقالة غير منصفة أو أخفقت في جانب معين. كانت تكتفي بكتابة رسالة إلى المحرر ثم تنتظر الرد وقد تُطبَع بعد أسبوع أو لا تُطبَع مطلقاً. أما اليوم، فيمكن أن يدخل أيٌّ كان إلى موقع medium.com وينشر بسرعة رداً طويلاً ويقول إن الصحافي نسي نقاطاً معينة ولم يأخذ بعض العوامل بالاعتبار وأخطأ في تحليله. ثم يشارك الجميع في هذا الجدل بسرعة. لذا أصبح المجال أكثر ديمقراطية لطرح الأفكار.

تكون عناوينك الرئيسة مباشرة غالباً وقوية وعامية؟ ماذا عن الأساليب الأكثر هدوءاً وعمقاً؟

في عالم المطبوعات، حين كان القراء يشترون الصحيفة، لم يكن مهماً أن يقرأوا القصص فيها. لكن يجب أن نجذب القراء اليوم إلى كل قصة ننشرها. في السنوات السابقة، أجرينا تدريبات مكثفة في هذا المجال. كان شخص يرصد قصة ممتازة وينقلها إلى غرفة الأخبار، فيقول له الجميع إنها ممتازة ويعطونه الإذن بكتابتها. يكتبها الصحافي مع عنوان رسمي لن يرغب أحد في قراءته، ثم نرفض ما كتبه وندعوه إلى التراجع عما قاله. إنه شكل من التغريدات أيضاً. يحبّ الناس صوت المحادثات التي نجريها.

هل ما زلتَ تقرأ صحيفة مطبوعة؟

نادراً ما أقرأها. تبث فيّ هذه التجربة مشاعر الحنين. كنت أقرأ النسخة المطبوعة من «نيويوركر». منذ بضع سنوات، كان أولادي في طور النمو فأدركنا أنا وزوجتي فجأةً أنهم يحدّقون بهواتفهم ولا يقرأون. قررنا أن نجلب صحيفة! اشتركنا في صحيفة محلية فبدأت تصل في كل صباح وكان من واجبي أن أذهب لجلبها لكني كنت أنسى دوماً. كنا نخرج إلى المدرسة ونعود إلى المنزل وتبقى الصحيفة في مكانها. في نهاية الأسبوع كنت أضعها في صندوق إعادة التدوير فتختفي الصحيفة من دون أن يقرأها أحد. هكذا أدركنا سريعاً أن الأوان قد فات. نحن أسرة رقمية! أتمنى ألا تكون في الأمر مشكلة!

* إيزابيل هيلسن