لقبه رفقاء الدرب «الغول» دلالة على عمق موهبته

Ad

"هو مرسي الزناتي، ومحفوظ أبوطاقية، وسلطان السكري، وأسماء  أخرى كثيرة كانت وستظل محفورة في وجداننا وذاكرتنا للأبد.

هو أيضاً "الغول" كما لقّبه رفقاء الدرب، كدلالة على عمق موهبته وتلقائية أدائه وخفة ظله، أضحكنا وأبكانا واحتفظ لنفسه بمكانة خاصة مميزة، لا على الخريطة الفنية فحسب، بل في قلوب الناس أيضاً.

إنه سلطان الضحك... ملك الكوميديا، وزعيم المعارضة المسرحية، وصاحب الحضور الطاغي... الفنان سعيد صالح الذي تستعرض "الجريدة" محطات مهمة في مشواره الفني والإنساني... نتوقف أمام حكايات تمزج بين السعادة والألم، والضحك والبكاء وكثير من الرضا، رغم قسوة الظروف في بعض الأحيان.

هو أبرز نجوم جيل الوسط من المضحكين، بل أخفهم دماً، على حد وصف الساخر الراحل محمود السعدني، الذي أكد في كتابه "المضحكون" أن "سلطان الضحك" الفنان سعيد صالح أحد أبرز أعمدة الكوميديا في الوطن العربي، القادر دائماً على إثارة الضحك بإشارة من إصبعه، موضحاً أنه لم يتعمد التمثيل يوماً، ولكنه خلق ليحترف هذه المهنة ويبرع فيها، ولو نجح في ضبط "إيقاع" حياته - والكلام للولد الشقي محمود السعدني- وادخر كل جهده وقوته للعمل الفني فقط، لكان له شأن آخر غير ما تحقق.

فهل "أهدر" مرسي الزناتي موهبته بإرادته الحرة المستقلة، من خلال اختيارات فنية وحياتية كانت سبباً في تراجعه عن القمة مقارنة بأبناء جيله، وفي مقدمتهم رفيق مشواره الفني وتوأم روحه الزعيم عادل إمام، أم أن المسألة "قسمة ونصيب" فحسب، وما خطه القدر لا مجال للفكاك منه، أو لعل آراءه السياسية التي ضمنها بعض أعماله الفنية، وخصوصاً المسرحية، هي السبب وراء تراجع نجوميته؟

المؤكد أن أشهر المشاغبين في المسرح المصري، زعيم المعارضة المسرحية الراحل سعيد صالح كان وسيظل قيمة فنية كبيرة، وليس مجرد ممثل له بصمته الخاصة، أيضاً نجح في رفع راياته كملحن بعدما تفجرت في قلبه ينابيع الموسيقى، أو بتعبير أدق كأن "مخزونه" الموسيقي كان يتحين الفرصة لينطلق في أفق أكثر رحابة، ما دفع الكاتب الراحل خيري شلبي إلى أن يكتب عن تلك الموهبة، قائلا: "ليست مجرد أنغام تستمد جمالياتها من عفويتها وتلقائيتها، ولكنها أنغام مدروسة جيداً، تترجم الكلمات ببلاغة، وتستجلي الصورة الشعرية في برواز لحني متقن وجميل".

المؤكد الآخر أن سيرة "ملك الضحك" دراما مستقلة بذاتها، أما تجربته الفنية والحياتية فشديدة الثراء (شارك في أكثر من 300 مسرحية، و500 فيلم)، لذا كان دائماً يتندر قائلاً: "السينما المصرية أنتجت حوالي 1500 فيلم، وأنا نصيبي منها الثلث"، كما أنه عاش أيامه بشطحاته وجنونه، ولكنه كان دائماً صادقاً في كل ما يقوله أو يفعله.

تداعيات

داخل إحدى الغرف بمستشفى القوات المسلحة، قبل أيام من ذكرى ميلاده الـ76، جلس سعيد صالح يرحب بالأب بطرس دانيال رئيس المركز الكاثوليكي للسينما، والفنانة نهال عنبر، ورغم عدم قدرته على الحديث طويلاً، فإنه بكلمات قليلة جاهد كي تبدو واضحة ومرتبة طمأن الجميع على صحته، شاكراً كل من سأل عنه.

بعد انصرافهم ظل سعيد على مقعده بجوار النافذة شاخصاً ببصره، في حين بدأت الذكريات تتداعى أمامه كأنها شريط سينمائي أعاده لسنوات مازالت حاضرة بوجدانه وعقله، لبشر ظلت محبتهم في القلب رغم غيابهم عن المشهد قهراً أو اختياراً.

تذكر كيف انطلق مشواره مع الفن، وكيف نجح والده دون أن يدري في أن يلقنه أول فنون التمثيل، حيث أصر أن يذهب للكُتّاب كي يحفظ "كلام ربنا"، كما كان حريصاً على أن يسمع له ما حفظه بنفسه، وكان دائماً يقول له "زعق"، "عليِّ صوتك"، "بين مخارج ألفاظك"، وكل هذه أهم مبادئ التمثيل أن يهتم الفنان بتوضيح مخارج الكلام ما أفاده لاحقاً.

انتبه على صوت الممرضة وهي تطالبه بأن يرجع للسرير كي يرتاح، إلا أنه أشاح بيده رافضاً طلبها، ومضى يتذكر كيف بدأ تعلقه بفن التمثيل، الذي استهله بتقليده لوالده ثم أساتذته وأصدقائه، قبل أن يتفوق على خشبة المسرح المدرسي سواء في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية انتهاءً بالثانوية، لدرجة أنه كان يتنقل بين عدة مدارس بحثا عن "النشاط المسرحي" حتى وجد ضالته في مدرسة "المبتديان الثانوية"، التي كان مديرها مهتماً بشكل خاص بفريق التمثيل فيها لدرجة أنه تعاقد مع أفضل الأساتذة لتعليم التلاميذ فني الإلقاء والتمثيل، وكان من بينهم الفنان الشاب حينها حسن يوسف، الذي علمه الكثير ما ساعده لاحقاً.

تذكر تلك الفترة حينما أصر على دعوة والده ليشاهده وهو يمثل في واحد من تلك العروض، الذي رشح لبطولته، وكيف لسوء حظه تم إلغاء العرض الذي كان من المفترض أن يلعب بطولته، ما اضطره لأن "يتحايل" على المدرس المسؤول كي يظهر بدور، وإن كان صغيراً، في أي من العروض الأخرى نظراً لوجوده والده، فوافق، إلا أنه بمجرد أن انتهى العرض غضب والده جداً، وقال له: "أوعى تمثل تاني".

في تلك الفترة وما سبقها كانت الوزارات المعنية بالتعليم تهتم بمجمل الأنشطة وفي مقدمتها التمثيل، وكانت هناك معسكرات صيفية يشترك بها الطلاب وتمارس فيها معظم الأنشطة، وطوال حياته لم ينكر صالح فضل هذه المعسكرات في تعليمه وتدريبه بشكل عملي على فن التمثيل، كذلك الفرق المدرسية والتي كانت أول محك حقيقي أظهر من خلالها موهبته.

ملامح

في "داير الناحية" أحد الأحياء الشعبية بمنطقة الدقي ولد سعيد صالح أو مرسي الزناتي ابن البلد التلقائي، الجدع، صاحب صاحبه، ويتذكر سعيد تلك الفترة، قائلا: كنت طفلا شقيا جدا، مارست في طفولتي وصباي كل أنواع الشقاوة التي ظهرت لاحقا في مسرحية "مدرسة المشاغبين"، من تدبير المقالب للمدرسين رغم احترامنا لهم، "للتزويغ" من المدرسة لمشاهدة الأفلام السينمائية، التي كنت أدخر مصروفي من أجلها، إلا أن شغفي بالأفلام كان أكبر من مدخراتي، لذا كنت أبتدع طرقا عديدة "للزوغان" من مسؤول دار العرض، لأتمكن من مشاهدة الفيلم الذي يعجبني أكثر من مرة أو في الصالات التي تعرض أكثر من فيلم، لدرجة أنني اضطررت للاختباء مرات عديدة بدورات المياه.

ورغم تفوقه في المرحلة الابتدائية لدرجة حصوله على المركز الثاني في الشهادة الابتدائية بمنطقته التعليمية، كما أكد صالح في بعض الحوارات التي أجريت معه قبل رحيله، فإنه كان ضمن 13 طالباً رسبوا في الشهادة الإعدادية، وأطلق عليهم حينها "منتخب الساقطين"، وتم نقلهم إلى مدرسة أخرى هي "توفيق القبطية" في منطقة الظاهر، ما أسهم في "توثيق" علاقته بالسينما بشكل أكبر، نظراً لقرب الظاهر من منطقة وسط البلد التي كانت تضم العديد من دور العرض، لذا كان طبيعياً أن يرسب صالح للمرة الثانية في إحدى المواد، ومن ثم أدرك أنه لا أمل في النجاة من غضب والده وعقابه، وعليه قرر الهروب من البيت وعدم الرجوع إليه مرة أخرى، بل وصل به الأمر للتفكير في "الطفشان من البلد كلها" رغم أن عمره كان 12 سنة.

 وبالفعل خطط للسفر إلى الإسكندرية كي يتسلل لسطح أحد المراكب الكبرى، رغم أنه لم يكن يملك إلا ثلاثة قروش فقط، وعليه بدأ مخططه بحفل وداع للسينما التي عشقها، والتي كانت سبباً في رسوبه، ثم اشترى "ساندوتش" لزوم "الزاد والزواد" قبل أن يستقل القطار المتجه للإسكندرية، وعبثاً حاول "الزوغان" من محصل التذاكر، إلا أنه أصر على ترحيله في قطار العودة للقاهرة ليفشل مخططه في الهجرة، ويضطر للعودة إلى منزله ليكتشف أنه نجح في المادة التي رسب فيها بعد تطبيق "درجات الرأفة".

سلام يا صاحبي

دق هاتفه المحمول فأفاق سعيد من شروده، وفور أن وصل إليه صوت المتصل على الطرف الآخر، علت وجهه ابتسامة لطالما غابت عنه مؤخراً، إذ كان رفيق عمره ومشواره الفني الزعيم عادل إمام.

عادل: ازيك يا مرسي، عامل ايه دلوقت.

ضحك سعيد، ورد قائلاً: الحمد لله، واحشني يا أباصيري

كالعادة تبادلا حديثاً حميمياً لم يخل من بعض الضحكات والقفشات، والكثير من الذكريات، ثم انتهى الحوار على وعد بلقاء قريب.

بين عادل وسعيد "كميا خاصة" منذ ربطت بينهما الصداقة في المرحلة الثانوية، فلقد جمعهما النشاط المسرحي بالقاهرة الجنوبية التي كانت منطقة سكن الأول، ومجال دراسة الثاني، وذلك قبل أن يضمهم المسرح الجامعي، حيث التحق صالح بكلية الآداب، في حين درس الزعيم بكلية الزراعة، ولكن على الرغم من الصداقة و"الاهتمامات المشتركة"، إضافة إلى مسرح التلفزيون الذي شهد بدايتهما، فإن أول تعاون بينهما كان من خلال رواية "سري جدا جدا" مع فرقة الفنانين المتحدين، ومع نفس الفرقة قدما "مدرسة المشاغبين" التي حصدا خلالها نجاحا كاسحا لم يحققه أي عرض مسرحي آخر.

بعد "مدرسة المشاغبين" قدما معا عرضا مسرحيا آخر هو "قصة الحي الغربي" بطولة نفس فريق "المشاغبين"، بعدما انضم إليهم كل من الفنان حسن يوسف، وصلاح السعدني ولبلبة، وتدور قصة العرض حول المنازعات التي تحدث بين مجموعة من الشباب بعضهم ينتمي إلى حي راق، في حين البعض الآخر إلى حي شعبي، في إشارة للفروق الطبقية والاجتماعية، ولكن نظراً لكم الانتقادات والإسقاطات السياسية التي تضمنها العرض لم تتحملها مؤسسة الرئاسة وتم إغلاق العرض من دون تصويره.

 بعد "قصة الحي الغربي" افترق صالح وإمام مسرحياً واستمر التعاون بينهما سينمائياً، حيث قدما ما يقرب من 13 فيلماً كان آخرها "زهايمر"، وأشهرها "سلام يا صاحبي"، و"بخيت وعديلة" الذي شارك فيه فور خروجه من السجن بعد انتهاء مده عقوبته.

يقول سعيد: "البعض انتقد مشاركتي في فيلم "بخيت وعديلة" نظرا لصغر مساحة الدور، مقارنة بأعمال أخرى شاركت فيها عادل إمام، إلا أنني وبالفعل كنت سعيدا جدا بهذا الفيلم، الذي بدأت تصويره بعد 367 يوما و11 ساعة قضيتها داخل جدران السجن، وما لا يعرفه البعض أنني تعاقدت على الفيلم قبل أيام من خروجي، ولم أكن قد قرأت السيناريو بعد أو أعرف شيئا عن الفيلم.

كان التصوير في قلعة قايتباي، وعندما ارتديت ملابس الشخصية وصرخ المخرج سكوت حنصور، ودارت الكاميرا شعرت أنني في مكاني الطبيعي، وأن العام المنصرم حذف تماما من ذاكرتي، كانت سعادتي بالعودة لا توصف ولا تقدر بثمن حتى لو كانت مجرد مشهد واحد فقط.

"أمير الظلام" دور آخر صغير قبل سعيد تقديمه ليس مجاملة لصديق عمره ولكن لنجله، المخرج رامي إمام، الذي كتب من خلال هذا الفيلم شهادة ميلاده الفنية، الطريف أن سعيد لم يكن مرشحاً لأي دور بهذا الفيلم، إلا أنه عندما علم بأن عادل سيصور فيلماً من إخراج ابنه رامي إمام طلب أن يشارك فيه، لأن رامي بمثابة ابنه الذي ولد وكبر على يديه، لذا أصر أن يسانده في أولى تجاربه.

أما "المشبوه" فقد رشح لاقتسام بطولته من مخرجه سمير سيف مع الفنان فاروق الفيشاوي في أولى بطولاته السينمائية والسندريلا الراحلة سعاد حسني.

يضحك سعيد، وهو يتذكر هذا الفيلم قائلا: "لأول وآخر مرة في حياتي أوافق على "أوردر صباحي"، فمن الوارد أن أواصل التصوير حتى صباح اليوم التالي، ولكني لا أحب أن أبدأ في الصباح، إلا أنني أبلغت من قبل الإنتاج بأن عادل إمام والسندريلا سيوجدان بموقع التصوير في العاشرة صباحا، فاضطررت للموافقة قهرا لا اختيارا، إلا أنني اكتشفت فور وصولي أنه حدث تغيير في المواعيد وأن التصوير سيبدأ في الخامسة مساءً، فما كان مني إلا العودة لمنزلي ولم أحضر إلا بعد أن تأكدت من وجود الجميع.

أما أهم وآخر عمل جمعهما فكان فيلم "زهايمر" الذي حصد عنه سلطان الضحك جائزة تمثيل خاصة من المهرجان القومي للسينما، ونال دوره قبولا نقديا وجماهيريا كبيرا، وصفه سعيد بأنه أحد أبرز أدواره، وأنه أهم لديه من 300 مسلسل، مؤكدا أنه لم يستعن بأية توجيهات من أطباء متخصصين في مرض "الزهايمر" كي يتمكن من تجسيده بهذه الحرفية والإتقان، مشيرا إلى أنه اجتهد في تفهم الدور كما ورد بالسيناريو، وعبر تعليمات مخرج الفيلم عمرو عرفة الذي رشحه للدور  لكنه كان يخشى ألا يوافق نظراً لصغر مساحته، والتي لا تتجاوز عدة دقائق، إلا أن عادل إمام تحمس لهذا الترشيح، مؤكداً للجميع أنني لا أهتم بعدد المشاهد، ولكن بمحتوى الدور فقط.

البقية في الحلقة المقبلة

عزاء والد عادل إمام

وقف عادل إمام في عزاء والده محاطاً بصديقي عمره صلاح السعدني وسعيد صالح، في حين كان شقيقه عصام ونسيبه الفنان الراحل مصطفى متولي يتوليان استقبال الناس في مدخل العزاء، ليلتها ظل المقرئ يتلو القرآن دون انقطاع ساعة كاملة، دون أن يلجأ إلى ما جرى عليه العرف في العزاءات المزدحمة، أن يقرأ بعض الآيات ثم يتوقف ليخرج المعزون الموجودون في العزاء ليتيحوا الفرصة لمن هم بالخارج، فإذا بسعيد صالح يذهب إلى المقرئ لكي يطلب منه بصوت مسموع أن يقول (صدق الله العظيم) لكي يتيح الفرصة لمئات الواقفين في الخارج لأداء العزاء، غير أن المقرئ واصل القراءة والترتيل والتغني بالقرآن، فعاد سعيد من جديد وهذه المرة علا صوته في الخناق معه، لدرجة أن البعض بدأ في إبعاد سعيد عنه لكي لا يجذب الميكروفون من أمامه، في مشهد عبثي، لكنه كان دليلاً واضحاً على أن سعيد صالح لا يعتبر نفسه مجرد صديق لعادل إمام بل هو واحد من أفراد الأسرة.

ذكريات «شلة المشاغبين»

"مش عارف ليه ولاد الحرام بيحاولوا يوقعوا بينا"... هكذا علق سعيد بعدما أنهى حديثه مع "الزعيم"، وواصل حديثه الداخلي اللي بيني وبين عادل أكبر من كل ما يقال، الصداقة والمحبة "معششة" في قلوبنا.

تذكر كيف كانت لقاءاتهما اليومية حتى في عدم وجود عمل يجمعهما معا، فلقد جمعتهما "الجيرة" إضافة إلى الصداقة والزمالة، كان دائما حريصا على أن يعرض مساعدته ماديا وأكثر من مرة، وهو ما رفضه دائما صالح، وبشدة، رغم المحن العديدة التي مر بها، خصوصاً في سنواته الأخيرة.

"زمان مكناش بنفترق، كنا ساكنين جنب بعض، حتى لو مش بنشتغل سوا لازم نتقابل، ده حتى يوم وفاة أمي خلصت المسرح وخرجنا سوا ومرضاش يسيبني إلا الصبح، بس دلوقت كل واحد بقى في مطرح بعيد".

قالها سعيد بأسى وواصل النظر من النافذة، كانت الذكريات مازالت تتداعى، تمر أمامه كأنها شريط سينمائي يحفظه عن ظهر قلب، اللمة الحلوة، مسرح الجامعة وشلة المشاغبين.