قدّم ٥٠٠ فيلم و٣٠٠ مسرحية خلال مشواره الفني

Ad

حياة سعيد صالح مجموعة من الحكايات المفرحة والمحزنة أيضاً، بل إن نصيبه من الحزن فيها ربما أكبر من الفرح، لكنه دائماً كان راضياً بنصيبه وما خطه القدر، وبالأخص في سنواته الأخيرة، وبين الضحك والحزن كان يغني ويغني.

وفي الحلقة الأخيرة من سيرة ملك الضحك المشاغب سعيد صالح نتعرف على اللحظات الأخيرة من حياته، وكيف ودعته الجماهير التي عشقت فنه بالدموع والدعوات.

يقولون "ما من إنسان إلا وله من اسمه نصيب"، وهو كان سعيدا وصالحا، راضيا بما قسمه الله على كل المستويات، مؤمنا بأن كل محنة واجهها في الدنيا عوضه عنها الله خيرا.. هكذا بات يقينه في أواخر أيامه، وهو يراجع شريط حياته، تأكد وبما لا يدع مجالا للشك أن الله أعطاه الكثير من المنح الربانية، والتي لم ينتبه لبعضها، فيما ساعده البعض الآخر على إصلاح حياته والوصول لتلك الحالة من الرضا والصفاء النفسي.

فمتى التقط الإشارة وفهم الرسائل؟

في تجربة سجنه الأخيرة والتي أمضى فيها عاما كاملا، كان زملاؤه المساجين معظمهم في حالة اكتئاب، يبكون كثيرا على ما آلت إليه أحوالهم، بينما هو كان يضحك ويمارس حياته وكأنه في رحلة سماها صالح "رحلة إلى الله".

يقول: حينما قضي الأمر، وبات عليَّ تنفيذ الحكم، شعرت بحالة من السكينة لم أتوقعها أو أتخيلها، أدركت أن الله يضعني في اختبار، إما أكون أو لا، كانت لحظة صدق أهداني لها المولى عز وجل كي أراجع حياتي بكل ما فيها من أخطاء وتجاوزات وأجتهد في إصلاحها، والحمد لله أراد  لي الخير، خصوصا بعدما أرسل لي "ولاد الحلال" يساندونني ويأخذون بيدي للطريق السليم والذي لم أبتعد عنه من يومها أبدا، والحمد لله.

يتذكر صالح أيامه الأولى في السجن، وكيف كانت فارقة في حياته، فرغم تقبله للأمور، وقراره بأن "يسترجل" أمام الجميع مهما كانت صعوبة الأمر، إلا أنه - كما اعترف في حواراته- لم يستطع الهروب من إحساسه بالرهبة والخوف، خصوصا حينما أغلقت عليه باب الزنزانة، وتأكد أن ما يعيشه ليس مشهدا في فيلم سرعان ما ينتهي، ولكنه الواقع الذي عليه قبوله والتعامل معه، فأسقط في يده، ولولا تشجيع زملائه المساجين لما تمكن من تجاوز الأيام الأولى والتأقلم على الوضع.

يقول: كان الله رحيما بي حينما أرسل لي في تلك الأيام عم يوسف الرجل المحكوم عليه بالسجن المؤبد 25 عاما لم تنقض منها إلا بضع سنوات قليلة، بائع الكبدة الذي دخل السجن جاهلا، فتعلم وحفظ كتاب الله كاملا وتبحر في الفقه والتفسير حتى أصبح مرجعا في الأمور الدينية والدنيوية أيضا، فحينما رآني في تلك الحالة من الكآبة والبؤس قال لي: "انت مش عاوز ربنا يكلمك؟"، وقبل أن أستوعب السؤال وأبدأ في الإجابة وجدته يرد عليَّ قائلا "اقرأ القرآن"، وقبل أن أفيق من دهشتني بادرني بسؤاله التالي قائلا: "طيب مش عاوز أنت تكلم ربنا؟"، أجبته نعم فقال لي "صلَّ".

وواصل: الصلاة هي لقاؤك مع الله، اسجد واشكي له، وتحدث معه، ارمي حمولك عليه، واقرأ القرآن علشان تعرف ربنا عاوز يقولك إيه.

يواصل: ورغم بساطة كلماته، إلا أن عمق معانيها، أضف لها حالة السلام والصفاء التي كان يتحدث بها، أصابتني في مقتل، زلزلت كياني كله، فرغم تربيتي الدينية، ودخولي الكُتاب صغيرا، وحرص والديَّ على أن أحفظ كلام ربنا، إلا أنني كنت كمن يسمع ولأول مرة كلاما عن الصلاة أو القرآن، ومن هنا كانت البداية، إذ بدأت في حفظ القرآن على يد عم يوسف، ومع كل آية كنت أستعيد ذاكرتي عندما كنت أحفظ القرآن في طفولتي، وبفضله بعد الله بدأت أصلي وأواظب على الصلاة، وبعد خروجي من السجن عاهدت الله ألا أعصاه أو أحيد عن رضاه، وداومت والحمد لله على الصلوات، بل حرصت على أداء فريضة الحج والعمرة مرات عدة، وأذكر أنني في أحد الأعوام لم أستطع قهرا السفر لأداء العمرة، فكافأني الله بعدها بالحج.

يواصل: الحياة داخل جدران السجن كانت بالنسبة لي فرصة للتأمل والتقرب إلى الله، وداخل جدرانه شعرت بالراحة والأمان، عرفت فيه الحق من الباطل، والأهم حصلت على إجازة تفرغ أقضيها مع نفسي كي أقومها وأهذبها بما أحب وأرضى، فداخل جدرانه ورغم أنني مصاب بفوبيا من الأماكن المغلقة، شعرت بالسعادة لأن الله منحني فرصة حقيقية للتوبة، ندمت لأنني لم أكن يوما قريبا من الله، خفت من يوم الحساب، غير أنني كنت أتعشم في رحمة ربنا، واثقا من أنه سيغفر لي.

تداعيات

قبل سنوات من رحيله، كان سعيد صالح قد تعرض لأزمة صحية قاسية، وذلك عقب إصابته بضيق في شرايين القلب، ما تطلب إجراء جراحة قلب مفتوح، بالإضافة إلى إصابته بمرض السكري، ما زاد الأمر سوءا، وبعدها تجددت الآلام، ما استدعى احتجازه بالمستشفى لتلقي العلاج، ورغم محاولاته المستميتة في إيهام من حوله بأنه "تمام"، إلا أنه وقبل أيام من رحيله بدأ التدهور يبدو ملحوظا خصوصا بعدما أصيب بجلطة في المخ استدعت نقله إلى العناية المركزة.

في الفترة الأولى لم يكن غيابه عن الوعي يتجاوز بضع دقائق، كان يفيق بعدها واعيا بمن حوله، يسأل عن زوجته شيماء، وابنته الوحيدة هند، يتعرف على بعض الأصدقاء الذين حرصوا على زيارته، ثم يغيب لدقائق أخرى باتت تطول أكثر، قبل أن يفيق مجددا فيتذكر واقعة يسردها، صديقا يسأل عنه، حكاية من الشرق وأخرى من الغرب، تتداخل التواريخ والشخوص أحيانا، وفي مرات أخرى يكون واعيا جدا لما يدور حوله، ومرات أخرى لا يتذكر أحدا حتى أولئك الذين اقتسموا معه الأيام، مثلما حدث مع الفنان منير مكرم - أحد النجوم الذين شاركوه عروضه المسرحية - لذا أجهش في البكاء بعدما فشل سعيد في تذكر اسمه أو أي شيء عنه.

حتى الكاتب والمنتج سمير خفاجي والذي يعتبره سعيد أباه الروحي، ويدين له بالفضل الكثير، لم تفلح ذاكرة سعيد في استحضاره، ما أحزن خفاجي جدا، ولكنه حرص دوما على السؤال عنه، رغم معاناته هو الآخر مع المرض.

الطريف أنه في مرة من المرات التي استعاد فيها وعيه راح يحكي لزوجته عن أبيه الروحي، وكيف كان "ينبوعا جياشا من العطاء"، وأنه سانده كثيرا، وصنع نجوميته مع غيره من النجوم، مؤكدا أنه "آخر الناس المحترمين في المسرح المصري"، وأنه إذا كان تاريخ المسرح 100 عام، فلخفاجي منفردا 60 عاما منها، ولو المسرح يضم 100 نجم ونجمة، فله الفضل في اكتشاف 80 منهم على الأقل.

وفي مرات أخرى كان يحكي عنه، كيف تحمله ماديا في فترات "الضنك"، لدرجة أنه وفي أحيان كثيرة كان يقبض راتبه مرتين وثلاث مرات في السنة، وفي كل مرة كان يعطيه ما يريد، وعندما كان يسافر للخارج كان يحرص على شراء بدلة له وأخرى للزعيم عادل إمام، مؤكدا أنه كان كريما جدا، وعاش عمره كله للفن.

وفي مرة أخرى راح يسأل عن المخرج الراحل حسن الصيفي، وعندما أخبروه أنه رحل منذ زمن بكى، وراح يحكي عنه وعن الأعمال العديدة التي لعب بطولتها.

الراحل القدير نور الدمرداش هو الآخر كان حاضرا بذاكرة سعيد صالح في واحدة من اللحظات التي استعاد فيها وعيه، أو ربما كان غائبا معهم في ملكوت آخر، خصوصا حينما تذكر صديقه الفنان الراحل إبراهيم عبدالرازق والذي وافته المنية أثناء عمله بمسرحية "كعبلون"، وقبل وصوله إلى المستشفى الذي تم نقله إليه، ما دفع صالح لأن يقول "كان نفسي أموت وأنا واقف على خشبة المسرح، الذي كنت وسأظل أعشقه حتى آخر لحظة في عمري".

الثلاثي

أيام "الصعلكة" أو كما سماها الثلاثي عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدني، هي الأخرى كانت حاضرة في الذاكرة بمزيج من السرية والحنين، وكيف جمعتهم الصداقة ولا تزال.

فـ "رفيق السلاح" هو اللقب الذي كان العمدة صلاح السعدني يحب أن ينادي به رفيق مشواره الفني، ورغم العلاقة القوية التي ربطت بينهما، إلا أنه -وكما صرح في أحد حواراته- كان "يتوتر جدا" إذا ما جمعهما عمل، لأنه –على حد توصيفه– لا يستطيع أن يتنبأ بالجملة الحوارية التي سينطق بها سعيد أثناء التصوير، تماما مثل المبدع الراحل محمود المليجي، فهما كانا يقرآن دوريهما ويعرفان الإطار العام، وفي حدوده كان ينطلق كل منهما بإبداعه الخاص.

أما عادل إمام فهو الحاضر الغائب دائما، وكأنه بالحديث عنه يستعيد جزءا من تاريخه هو شخصيا، غير أنه وفي آخر مرة تحدث فيها عن صديق عمره كان "الموت" حاضرا، إذ راح يرصد الأعمال التي شاركه بطولتها، ثم توقف لثوان قبل أن يستأنف حديثه، وكأنه اكتشف شيئا جديدا لم يلتفت له من قبل: "ده أنا مت في معظم أفلامه، لا.. لا.. أنا مش حامثل معاه تاني"، رغم أن الموت هو المصير الحتمي لكل البشر، إلا أن الراصد للأفلام التي شارك فيها سعيد صالح صديق عمره الفنان عادل إمام سيجد أن الموت فعلا كان مصير معظم الشخصيات التي جسدها سعيد في تلك الأفلام، فمثلا في "المشبوه" والذي جسد من خلاله شخصية شقيقه الشرير، والذي أصر على إعادته للسرقة بعد أن تاب عنها، مات قبل أن ينعم بالمال الذي خطط ودبر لسرقته، كذلك في "سلام يا صاحبي" حينما يموت بعد أن يتأكد من براءة ووفاء صديقه عادل إمام له.

وفي "رجب فوق صفيح ساخن"، جسد شخصية النصاب الذي يخدع الفلاح الساذج، ولكنه يموت في نهاية الفيلم، وهو يحاول إنقاذه من طعنة غادرة أصابته من أحد المقامرين، وفي "أنا اللي قتلت الحنش" لعب دور الصديق الوفي الذي يضحي بالزواج من حبيبته ليتزوجها صديقه، وفي نهاية الفيلم يموت على يد "الحنش".

سلام طيب القلب

في 31 يوليو من العام 1938 ولد سعيد صالح وفي نفس اليوم من العام 2014 دخل صالح في غيبوبة لم يفق منها حتى رحل عن عالمنا صباح يوم الجمعة الأول من أغسطس، وإيمانا بأن "إكرام الميت دفنه" قررت هند ابنته الوحيدة أن تكرم أباها، وتسارع بدفنه في مسقط رأسه بقرية مجريا بمحافظة المنوفية، والتي خرج أبناؤها جميعهم لاستقباله والصلاة عليه، لم تنتظر أيا من رفقاء الدرب ليشاركوا في وداعه الأخير، مؤكدة أنهم سيتفهمون موقفها.

وهكذا رحل سلطان، مرسي الزناتي، أكثر من أضحكنا ومازالت "إفيهاته" و"قفشاته" تعيش بذاكرتنا، رحل دون أن يشارك في وداعه أي من رفقاء الدرب، وفي مقدمتهم الفنان عادل إمام الذي وصله الخبر أثناء وجوده في الساحل الشمالي برفقة أسرته، إلا أنه حرص على تقديم واجب العزاء في اليوم التالي، كما حرص على حضور العزاء الذي أقيم بجامع عمر مكرم، وحضره العديد من النجوم من مختلف الأجيال، كذلك جماهير غفيرة حرصت على توديع نجمها المحبوب.

كان من بين النجوم الذين حرصوا على تقديم واجب العزاء كل من الفنان عادل إمام وأولاده رامي ومحمد، محمود عبد العزيز وزوجته الإعلامية بوسي شلبي، فيفي عبده، ميرفت أمين، نادية لطفي، دنيا عبد العزيز، فاروق الفيشاوي، سمير غانم وزوجته دلال عبد العزيز، يسرا، شيرين، رندا البحيري، نجوى فؤاد، لبلبة، وفاء سالم، خالد صالح، أشرف عبد الغفور، محمد أبو داود، محمد رمضان، سامح الصريطي، فاروق فلوكس، نبيل الحلفاوي، محمود حميدة، سمير صبري، حسين فهمي، والمنتج القدير سمير خفاجي الذي حضر على كرسي متحرك، كما حضر أيضا كل من الموسيقار هاني مهنى، المخرج عمرو عرفة، المخرج محمد ياسين، السيناريست خالد جلال، المنتج عادل حسني، المخرج وائل فهمي عبد الحميد، حسن عبد الفتاح، مجدي بدر.

هذا ولم يسلم عزاء الراحل من مشادات بين ابنته هند وزوجته شيماء فرغلي، كانت السنوات الأخيرة من حياة صالح قد شهدت تراشقا بالاتهامات بين زوجته الشابة شيماء فرغلي والتي تصغره بنحو 30 عاما، وابنته الوحيدة هند التي اتهمت زوجته بسجنه في منزله وعدم السماح لأي من أقاربه بزيارته أثناء مرضه، وأنها تمنعها هي شخصيا من زيارته والاطمئنان عليه، فيما نفت زوجته مرارا تلك الاتهامات، مؤكدة أنها لم تمنع أحدا عن زيارته وبالأخص أهله وابنته.

أعمال وأرقام وتكريم

• بلغت أعمال الفنان سعيد صالح خلال مشواره الفني أكثر من (500) فيلم سينمائي وأكثر من (300) مسرحية، ومن أبرز أعماله السينمائية "العذاب فوق شفاه تبتسم"، "الهلفوت"، و"يا عزيزي كلنا لصوص"، و"المشبوه"، و"مع حبي وأشواقي"، و"سلام يا صاحبي"، و"بلية ودماغه العالية"، و"زواج بقرار جمهوري"، و"أمير الظلام"، و"صعيدي رايح جاي"، أما آخر أفلامه فكان فيلم "متعب وشادية" عام 2012، وانتقد بسبب مشاركته كثيرا.

أما أبرز أعماله المسرحية فمنها "هاللو شلبي"، و"مدرسة المشاغبين"، و"العيال كبرت"، و"كعبلون"، و"نحن نشكر الظروف"، و"كرنب زبادي"، و"حلو الكلام"، و"غراميات عفيفي"، و"سرى جدا جدا".

أما آخر مسلسل تليفزيوني قدمه سعيد صالح فهو "9 جامعة الدول" مع الراحل خالد صالح وعدد من النجوم، وذلك عام 2012، كما شارك بست كوم.

• نال سعيد صالح العديد من التكريمات من المؤسسات الأهلية والرسمية، حيث تم تكريمه في الدورة الثانية لمهرجان "المسرح الضاحك"، الذي نظمته "الجمعية المصرية لهواة المسرح" عام 1996، ومهرجان المركز الكاثوليكي للسينما عام 2007، بالإضافة إلى مهرجان الرواد المسرحي بدورته الثانية عام 2009، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة من المهرجان القومي للسينما عن دوره في فيلم "الزهايمر".

النهاية