بعد إخفاق أوباما عام 2013 في فرض «الخط الأحمر» الذي أعلنه ضد استعمال قوات بشار الأسد الأسلحة الكيماوية في سورية، صار على الولايات المتحدة اليوم بناء مصداقيتها بشأن تهديداتها باللجوء إلى القوة عبر خطوات فعلية للتصدي لدول مثل إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية التي تهدد النظام العالمي. دعا مقال ستيفن بيدل وجاكوب شابيرو الأخير في صحيفة Atlantic بعنوان "لا تستطيع الولايات المتحدة فعل الكثير بشأن داعش" إلى احتواء هذا التنظيم، وشكك في قدرة الولايات المتحدة على تدميره، لكن المشكلة الأولى في هذا التحليل تكمن في طريقة تعريف الكاتبَين عبارة "تدمير داعش"، فقد قارنَا القتال الذي لا شكل محدداً له ضد تنظيم القاعدة بالقتال ضد "داعش"، مستفيضَين في الكلام عن كيفية التوصل إلى جذور عقيدته الإرهابية ومعالجة المساحة غير المضبوطة التي تقدّم له الملجأ الآمن، ونتيجة لذلك ما انفكا يخلطان بين تدمير "داعش" بشكله الحالي كشبه دولة ومهمة إنهاء الحرب الأهلية في سورية وردم الهوة السنية- الشيعية في العراق، علماً أن هذه مهمة ضخمة وصعبة، لكن العكس صحيح، فإذا حُددت المهمة بالشكل المناسب فستستطيع الولايات المتحدة تدمير "داعش"، لا بل عليها ذلك.لا يرتبط تعريف "داعش" كدولة بحل المعضلة السورية كمشروع اجتماعي، وتاريخي، وثقافي، وديني، وسياسي، وينطبق الأمر عينه على العراق، صحيح أن "داعش" يتغذى على الصراعات في كلا البلدين ويزيد الوضع فيهما سوءاً، ولكن من الممكن إنزال الهزيمة بداعش كـ"دولة" وكـ"قوة" عسكرية- اقتصادية (أي مواجهة الجزء الخطر حقاً) من دون الحاجة إلى حل الأزمتَين السورية والعراقية أو التخلص من داعش كمجموعة من الخلايا الإرهابية أو كمصدر إلهام عقائدي.سيبقى علينا بالتأكيد مواجهة الحرب الأهلية السورية وحالة التفكك العراقية، حتى لو قضينا على داعش كدولة، لكن هذا ما نواجهه اليوم فضلاً عن "داعش"، الذي يشكّل مصدر تحديات إضافية بالنسبة إلى المنطقة والغرب.لا شك أن اعتماد رزمة دعم غير مباشر أكثر فاعلية تضم مستشارين، ومدفعية، وهجمات مروحية، عدداً أكبر من غارات العمليات الخاصة، وقواعد اشتباك أكثر تحرراً مما هو متبع اليوم عند تنفيذ الهجمات الجوية سيؤدي إلى انتصارات أسرع، وبالإضافة إلى ذلك، يتيح لنا إنزال عدد محدود من الجنود الأميركيين على الأرض (لواءان يضم كل منهما 5 آلاف جندي مدعومان من قوات حلف شمال الأطلسي، فضلاً عن الحلفاء المحليين) لتحقيق تقدّم أسرع. وستكمّل هذه الخطوة عمل الخمسة آلاف جندي أميركي تقريباً الذين يعملون راهناً في العراق على تدريب القوات المحلية، فضلاً عن المئتَي والخمسين عنصراً من القوات الخاصة الذين نُشروا أخيراً في سورية. إذن، يكفي أن نُدخل تعديلات بسيطة إلى الدعم الأميركي غير المباشر الراهن ونضيف دعماً قتالياً أميركياً مباشراً محدوداً لنقضي على "داعش" بسرعة نسبية كـ"دولة" و"جيش". صحيح أن هذا لن يحلّ مشكلة "ما يلي ذلك"، إلا أننا نكون قد دمرنا "داعش" كدولة.تبدأ كلفة الاحتواء مع حملة عسكرية كبيرة، سواء من ناحية الوقت (نحو سنتين حتى اليوم وما زالت النهاية بعيدة)، والقوات (آلاف الجنود الأميركيين على الأرض، ومساهمات كبيرة من الائتلاف، ومئات الطائرات، ومئات آلاف القوات النظامية العراقية والقوات غير النظامية العراقية والسورية)، إلى جانب المال (7 مليارات دولار حتى اليوم، مع إنفاق العراقيين عدداً أكبر من المليارات)، وكل ذلك بهدف "احتواء" داعش وتفكيكه تدريجياً.من الاعتبارات الأخرى التي يجب التفكير فيها عند أخذ أي قرار بشأن التعاطي مع إحدى مشاكل السياسة الخارجية، تأثيره في العلاقات الخارجية الأوسع، فعلى سبيل المثال، قررت الولايات المتحدة عام 2007 ألا تضرب هي بنفسها مفاعل "الكبر" النووي السوري السري، الذي دمرته إسرائيل بغارة جوية في تلك السنة عينها، ولا يعود ذلك إلى أن العمل الأميركي يُعتبر أقل خطورة من الهجوم الإسرائيلي، بل إلى أن الولايات المتحدة كانت آنذاك منهمكة في حربين في الشرق الأوسط، فضلاً عن المفاوضات بشأن برنامج إيران النووي والصراع الإسرائيلي- الفلسطيني.ولكن بعد إخفاق أوباما عام 2013 في فرض "الخط الأحمر" الذي أعلنه ضد استعمال قوات الرئيس السوري بشار الأسد الأسلحة الكيماوية في سورية، صار على الولايات المتحدة اليوم بناء مصداقيتها التي تثبت أنها ستدعم تهديداتها باللجوء إلى القوة بخطوات فعلية للتصدي لدول مثل إيران، وروسيا، والصين، وكوريا الشمالية التي تهدد النظام العالمي، ولا شك أن القتال ضد "داعش" يمثّل الموضع الأفضل لبناء مصداقية مماثلة مع تعزيز فرص النجاح والحد من خطر التصعيد.أخيراً، كانت الحجج التي طرحها بيدل وشابيرو ستبدو منطقية، لو أنها قُدمت أيضاً ضد تدخل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سورية، لكنه مضى قدماً في قراره هذا، وتمكن بقدرات دبلوماسية وعسكرية لا تعادل سوى جزء من القدرات الأميركية من تحقيق انتصار محدود مهم، متفادياً في الوقت عينه "المستنقع" الذي توقعه أوباما، أفلا تستطيع الولايات المتحدة القيام بالمثل؟
مقالات - زوايا ورؤى
لننسَ الأسباب الرئيسة ولنقضِ على «داعش»!
03-05-2016