يؤمن بأن الفشل ليس قنبلة يدحرجها خصومك تجاهك، بل قنبلة داخل المرء نفسه، هو الوحيد القادر على تفجيرها، أو الحفاظ عليها آمنة. إنه الأديب أشرف الخمايسي الذي يرى كتاباته محاولات تنويرية مخلصة وسط العماء الثقافي الذي نعيشه، وهي محاولة للاهتمام بالإنسان.

Ad

التقته «الجريدة» وكان معه هذا الحوار:

يقول ماركيز: «أكتب ليحبني أصدقائي»... لماذا تكتب؟ وما هي غاية الكتابة لديك؟

أكتب لأني لا أحب شيئاً آخر غير الكتابة، ومع ذلك لا أفهم ما هو هذا الشيء الذي يدعى {الكتابة}، لأعرف إن كان يمكن ممارسته على سبيل التطهر والخلاص. عندما كنت أديباً شاباً في أول المشوار، اعتقدت أن الكتابة رسالة، ثم منذ ثلاث سنوات فقط اعتقدت أن الكتابة غاية. يبدو أن الكتابة فعل "حرباوي” (من الحرباء) تختلف مواصفات غايته مع تقدم الوقت باختلاف قناعاتنا. سأكتفي بالتعامل مع الكتابة على أنها شيء أحب ممارسته.

تبدو روايتك "منافي الرب” فلسفية رمزية معقدة أكثر من اللازم يستعصي فهمها على القراء، ما رأيك؟

أعتقد أن آخر صيحات الكتابة لم تعد لها علاقة بالأحداث المتشابكة، ولا بثقل المحتوى، ولا بطرائق السرد المرهقة، بل بالسطحية شكلاً ومضموناً. كلما كان المكتوب متاحاً ومسلياً، ولا يصدع الرأس، ولا يهزّ الثوابت الصدئة في قلوبنا، كان الكاتب رائعاً، واسألوا قراء موجة كتابة الرعب والتنمية البشرية.

تعتمد في كتابتك التركيز في كل ما هو ضد الدين والتماهي في الجنس... هل تعتقد أن هذا من التوابل التي تتسبب في نجاح الرواية وانتشارها؟

أصدرت حتى الآن أربع مجموعات قصصية، واحدة منها للأطفال، وعملاً كبيراً مكوناً من أربعة أجزاء لليافعة، وثلاث روايات، وكتاب مقالات، ورغم ذلك يوجهون اتهاماتهم بناء على قراءة عمل واحد من بين تسعة أعمال. حتى هذا العمل الواحد، أقصد «منافي الرَّب» طبعاً، لم يكن منافياً لروح الدين أبداً. ربما القراء السطحيون يرونه كذلك، ربما القراء الدواعش أيضاً، لكن قارئاً منفتح ذهنياً لن تكون له وجهة النظر هذه، بل سيراه محاولة تنويرية مخلصة في كل هذا العماء الثقافي الذي نعيشه، محاولة للاهتمام بالإنسان كما اهتم به الله. ثمنت «منافي الرَّب» قيمة الألوهية غالياً، وحطت من قيمة الأهداف السلطوية. كذلك ليس من حق أحد سؤالي، كروائي، عن مدى أخلاقية عملي الأدبي. لا أكتب لسن تحت 18 سنة، ولا أكتب تنمية بشرية، ولا مغامرات ورعب. أكتب أدباً لقراء ذوي مواصفات خاصة، بلغوا سن الوعي والفهم والإدراك. وعندما أكتب أدباً فأنا أكتب الإنسان بكل دقائقه، والعلاقات الإنسانية، وأزمتها المواكبة لها في كل عصر. كيف يمكنني تجاهل تلك الخطورة لأجل الاهتمام بآراء غير ناضجة؟ أنا مسؤول عن كيفية كتابته، وإن كانت هذه المشاهد الحميمة قد أضافت إلى التناول الأدبي أم لا. وفي حين اتهم بسطاء التلقي «منافي الرَّب» بالشهوانية فإن النقاد الأكاديميين الكبار، الذين كتبوا عنها عشرات الدراسات النقدية حتى الآن، وكثير من القراء المثاليين، كانت رؤيتهم مختلفة.

أزمة ومقاربات

يقولون إن الأدب يجسد معاناة الإنسان وصراعاته الكبرى... ولكن هل يساهم بشكل فعلي في تخفيف هذه المعاناة؟ وما هي أزمتك؟

لا يجسد الأدب معاناة الإنسان وصراعاته الكبرى فحسب، بل الإنسان نفسه ويسجل قصة خلوده. كم هو هدف بالغ العمق والنبل، حتى لو لم يحقق الأدب سواه لحقق أمراً عظيماً. كذلك التسلية وسيلة مهمة من وسائل الأدب، هي الطعم الذي يتم استدراج أصحاب المعاناة إليه لقراءته، ومن ثم التسلي. أي تسلية نقصد هنا؟ قطعاً، لا نقصد الرعب والبوليسي وغيرهما من أصناف خفيفة. لا أتكلم عن كتابة تأسيسية مطلوبة للناشئة، إنما عن أدب يتعامل مع وجدان شخص ناضج، يشارك في صنع الحياة. هنا التسلية ستأخذ معنى أعمق، مشتقاً من السلوى، وفي الأخيرة طبطبة ومشاركة وجدانية. للأدب دور كبير في إعادة تركيب وجدان الإنسان بتسليته في مصائبة وإخفاقاته، من ثم إعادة الاتزان له.

أما عن أزمتي الخاصة، فأزعم أني إنسان لا أعاني أزمة كبيرة. تقابلني مشاكل وعقبات كأي إنسان، لكني أتمتّع بروح متحدية للغاية، وأومن بأن الفشل ليس قنبلة يدحرجها خصمك، أو منافسك، تجاهك، بل هو قنبلة داخل المرء نفسه، هو الوحيد القادر على تفجيرها، أو الحفاظ عليها آمنة. كذلك أتمتع بروح غير قابلة للزج بنفسها وسط صراعات لأجل الحصول على مكاسب ما. لا أعاني أزمة، إن كنت تقصدين أزمة متعلقة بالهاجس الإبداعي. ربما ما زلت ضحل الإدراك كي أفهم أن ثمة أزمات، لكن أرى العالم يمضي أمامي، وقد أبلغتنا الكتب بأنه ظل يمضي قديماً من دون توقف، وأجزم بأنه سيظل يمضي مستقبلاً. الأزمة انبعاث تدميري ينتج فقط عندما نفجر قنبلة الفشل داخلنا.

يقول عنك الكاتب أحمد خالد توفيق «ديستوفيسكي مصر» وأحسن كاتب ظهر في آخر 20 عاماً... هل ترى أنت ذلك؟

التقدير كله للدكتور أحمد خالد توفيق، إنها روح حلوة يندر وجودها فعلاً وديستوفيسكي كاتب عظيم، وأحد الآباء المهمين للفن الروائي، والمقاربة به شرف كبير قطعاً. ومنذ أكثر من 20 عاماً وصفني أستاذنا جمال الغيطاني، رحمه الله، بـ «ماركيز مصر». مقاربتان مشرفتان.

في مرحلة ما من عمر الأديب تكون المقاربات الجيدة مفرحة، تبعث فيه الثقة، وفي مرحلة أخرى لا تكون كذلك، إنما دليل على فشله في العثور على صوته الخاص. شخصياً، لا أعرف عن ديستوفيسكي غير أنه روائي روسي قديم، ولم أقرأ له حتى الآن سوى ربع رواية «الجريمة والعقاب». ليس هو فقط صاحب الحظ السيئ معي، بل معظم الروائيين أيضاً. لم أقرأ لكونديرا على الإطلاق حتى الآن، وألقي روايات ساراماغو من النافذة بعد قراءة خمسين صفحة منها على الأكثر.

أفضّل أشرف الخمايسي على الجميع، فهو أنا لا غيره، وهو يمنحني قيمتي الحقيقية لا هم، وإن كان حتى الآن لم يكتب بالشكل الذي أرجوه له، لكنه يملك أصول العبقرية والجنون، ولديه قدرة هائلة على السرد ستظهر بكامل بهائها مستقبلاً.

قراءة وكتابة

يقول الكاتب الراحل رجاء النقاش إنه كلما حضر إلى المقهى وجد الأدباء يجلسون فيتساءل «متى يكتبون والأهم متى يقرأون»... متى يكتب أشرف الخمايسي ومتى يقرأ ولمن يقرأ؟

لست من الكتّاب هواة الجلوس على المقاهي. لا تمثل الأخيرة لي أكثر من مكان ألتقي فيه الأصدقاء بعيداً عن منطقة وسط البلد التي تعج بالقليل من الأدباء، وبالكثير من المدعين، وهي أجواء لا أحبها. من ثم أنا متفرّغ تماماً للكتابة والقراءة وممارسة الحياة من سفر داخل مصر ومسامرة الناس الطيبين من أهلنا {الغلابة}. ليست لي مواعيد محددة للكتابة، ولا للقراءة، ولا أقرأ لأحد بعينه، وأقرأ الغث والثمين، ومنذ أكثر من 20 عاماً اندهش الأستاذ مصطفى عبدالله، رئيس التحرير الأسبق لجريدة «أخبار الأدب»، عندما رآني أقرأ كتاباً ضحلاً، فأخبرته بأنني قادر على استخلاص ما يمكن الاستفادة منه رغم ضحالته.

عندما تشرع في كتابة رواية جديدة، كيف تتراكم فكرتها في خيالك أو ذهنك؟

الرغبة في كتابة رواية أول خطوة في طريق كتابتها، لكنها ليست الأهم، فكثيرون يرغبون في كتابة روايات، حتى بسطاء الناس تهمهم كتابة قصص حياتهم التي يرونها جديرة بالكتابة. تدفع هذه الرغبة في الكتابة في اتجاه بلورة فكرة موجودة أصلاً في ذهن الراوي، تلحّ عليه، ويمكن ألا تكون ثمة أية أفكار على الإطلاق، فيبقى يبحث عن فكرة.

الفكرة هي الخطوة الثانية في طريق كتابة رواية، لكنها ليست الأهم، في ذات الوقت لا توجد رواية عظيمة قائمة على فكرة غير عظيمة، لكن حتى بسطاء الناس أحياناً يملكون أفكاراً عظيمة، والمأثور الشعبي يؤكد ذلك.

 الصياغة هي الخطوة الثالثة، والأهم على الإطلاق. وهي بمثابة الجسد من التكوين الإنساني، بغير وجوده لا وجود للإنسان، وعلى الراوي المبدع خلق جسد روائي أقرب ما يكون إلى «كامل الأوصاف». والرواية الصادقة، من وجهة نظري، هي تلك التي تنبني كشجرة، أو كجسد كما ذكرت، ما يعني أن من الأفضل كتابتها بشكل تراكمي، سطراً يتلوه سطر.

تعتمد إحدى المدارس مثلاً على كتابة الرواية بأجزاء متفرقة، متباعدة، ثم ترتيبها بجمل رابطة أشبه بعمليات الإخراج السينمائية. لا أعتبر هذه الطريقة سيئة، لكني أرى أن البناء التراكمي للرواية هو الأصدق، لأنه يعبّر عن حالة صادقة للمبدع نفسه الذي يعيش تطور شخصياته بشكل تصاعدي طبيعي.