حين وصفت (سيمون دو بوفوار) نفسها بقولها: "إنني أجمع في نفسي بين قلب امرأة وعقل رجل"، كانت تقيس بدقة نظرة مجتمعها للمرأة مطلع القرن العشرين، وفي مدينة متحفزة للمتغيرات مثل باريس، وإبان فترة نقلة ثقافية كانت تمور بصرعات الفكر والفلسفة والأدب. وهي إذ تشير إلى كونها (عقل رجل) فإنها تعبر عن تحفظ مجتمعها إزاء النساء أمثالها، ممن شببن عن الطوق وارتدْن باقتدار سبل الفلسفة والأدب التي كانت مقتصرة على الرجال، بيد أن سمة الأنوثة الحقة ظلت مكينة في قلوبهن.

ولدت سيمون دو بوفوار عام 1908م، حين كانت التقاليد الاجتماعية والأسرية ماتزال مُحكمة ورصينة. نشأت في أسرة محافظة تجمع بين أم متدينة وأب مثقف، وصداقات عائلية تعكس وجوه المجتمع البرجوازي وأعرافه في العلاقات والزواج والرياء الاجتماعي. ومنذ صباها الباكر حين كانت القراءة والتأمل وبناء الذات شواغلها الأولى، كانت مهمومة بسجن التقاليد والرغبة العارمة في التحرر من أسْر العائلة ومن فكرة الزواج التقليدي الذي ترتبه العائلات، ومن المساحة الضيقة المتاحة للفتاة للتحرك والتعبير، ومن التمييز المعلن بين الذكور والإناث.

Ad

ولعلها وجدت في الانكباب على الدرس والتحصيل في جامعة السوربون وفي تخصصات الأدب والفلسفة ما أتاح أمامها الفرصة للتحرر والعمل والانغماس في زخم حياة. وهكذا جاءت الصداقات مع من يشابهها في التطلّع والتمرد مدماكاً أساسياً ساهم من تكوينها وإنضاجها فكراً وروحاً. وقد وقفت (سيمون دو بوفوار) طويلاً في مذكراتها عند صداقاتها مع الشباب من أبناء جيلها، وأكدت دورَ هذه الصداقات في تلوين حياتها بالحب والفكر والمشاركة العميقة. ولعل أهم هؤلاء جان بول سارتر الذي زاملها في الدراسة الجامعية وكان يكبرها بعامين، ثم ما تبع ذلك من علاقة مديدة معه بسبب تقارب الفكر والوجدان والتوجه الفلسفي، والأهم من ذلك التشابه في التمرد على النظم والقوالب الجاهزة، واشتراكهما في التأسيس للفلسفة الوجودية.

في كتابها "مذكرات فتاة رصينة"، تتحدث سيمون دو بوفوار عن سنوات تكوينها الأولى، وعن اختلافها، وعن تجاربها وخيباتها في الحب، وعن تمردها العارم ضد المعتقدات الدينية ودخولها في صراعات مع أسرتها وأقربائها بسبب ذلك. ولعل أهم الشخصيات التي حامت حولها في (المذكرات) صديقها (جاك) الذي جرّبت معه تناقضات الحب وتقلباته وشكوكه وآلامه حتى انتهى بهما الأمر إلى الفراق البائن. لقد ظل (جاك) رغم حبها له تلك الشخصية الهشة المتقلبة التائهة التي رأت فيه صورة مناقضة لشخصها، والذي انتهى به المسار – كما وصفت – إلى الضياع والإدمان فالموت المبكر حين فشل في إدارة حياته وتحديد أهدافه.

أما الشخصية الأخرى التي صاحبت دو بوفوار في مذكراتها وحياتها فهي صديقتها (زازا) التي كانت ضحية لتعنّت الأم وتسلطها. ورغم محاولات سيمون لاحتوائها ودعم كيانها الهشّ المفرط في الحساسية والشجن، إلا أن (زازا) تظل تنوء بحب مستحيل وحظ عاثر إلى أن تفارق الحياة تحت وطأة حمى التهاب السحايا، وتموت شابة يانعة.

وهكذا تتأسس فكرة سيمون دو بوفوار عن الحياة على ما يحيط بها من صداقات وعلاقات وظروف أسرية ومجتمعية تضعها جميعاً أمام تأملات عميقة حول المعنى المرتبك للوجود، وحول الموت والحب والعبث. ولم تكن هذه الارتباكات في الفكر والسلوك بقادرة على أن تمنعها عن الإحساس العارم بالمسؤولية إزاء نفسها وإزاء ما تؤلفه وتنتجه من أدب وفكر وفلسفة. وحين توفيت عام 1986م كانت قد تركت العديد من الروايات مثل (المدعوة) و(المثقفون) وكذلك السير الذاتية، إلى جانب الكتابة في الشأن النسوي والدراسات الفلسفية والاجتماعية.