كانت الآمال كبيرة حين اندلعت الانتفاضات في أكثر من بلد عربي مع مطلع العقد الحالي؛ إذ كانت تلك الانتفاضات بمنزلة حجر كبير أُلقي في بركة بدت آسنة وعصية على الجريان.

لقد ورد مصطلح "الربيع العربي" إلينا من الغرب، ومع ذلك فقد استخدمه كثيرون بيننا بحسن نية، باعتباره "مقدمات لتغيير سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي، سيأخذ تلك المنطقة التي تخاصم الحداثة وتعاند التاريخ، إلى مصاف الدول المتقدمة، عبر عمليات انتقال ديمقراطي حان وقتها".

Ad

ما زال بيننا من يستخدم هذا المصطلح (الربيع العربي) حتى وقتنا هذا، لكن ما جرى في تلك البلدان التي شهدت الانتفاضات لا يمكن أن يصب أبداً في "خانة الربيع"، باستثناء نادر يتعلق بتونس، وهو استثناء ما زالت تحيط به الشكوك على أي حال.

أوصلت الانتفاضة التي اندلعت في يناير 2011، تنظيم "الإخوان" إلى الحكم في مصر؛ وهو تنظيم عقائدي، ثبت لاحقاً تورطه في أعمال الإرهاب والعنف، كما اتضح أنه اتخذ موقفاً معانداً للمطالب الوطنية التي نادت بها الانتفاضة، وعبرت عنها في الشعار الشهير: "عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية".

عبر التعديل الدستوري الذي أصدره الرئيس "الإخواني" محمد مرسي، في نوفمبر 2012، كشف التنظيم عن نيته في تكريس دعائم دكتاتورية جديدة، تفوق ما أنتجه مبارك في عقوده الثلاثة في الحكم، وتزيد عليه النزعة الفاشية الدينية.

انتفض المصريون مجدداً، وأطاحوا حكم "الإخوان" بمساندة الجيش، قبل أن يصل السيسي إلى سدة الرئاسة، وتصبح أهداف الحكم محددة بدرجة كبيرة في استعادة الدولة، وتثبيتها، ومواجهة التحدي الإرهابي، وعلاج التشوهات الاقتصادية الهائلة التي سببتها سنوات الانتفاض.

لقد وافق المصريون على تعديلات دستورية في يناير 2014، وبات لديهم دستور جيد، وأجروا انتخابات رئاسية وبرلمانية، لم يتم التشكيك في نزاهتها الإجرائية، وبدأت الدولة تستعيد ركائزها، لكن مشروع "الانتقال الديمقراطي" بات على "شعلة الموقد الخلفية"، بل ثمة من يشير إلى "انتكاسة"، ويتحدث عن "إنتاج سلطوية جديدة".

لم تمر تونس بالمسار المعقد ذاته الذي اتخذته مصر، ومع ذلك فقد أفضت انتفاضتها إلى دستور وبرلمان ورئيس، كان أحد وزراء عهدي بورقيبة وبن علي.

تبدو تونس في وضع أفضل من ذلك الذي باتت فيه مصر، وبتكاليف أقل، لكن المصاعب التي تواجهها ما زالت كبيرة، وليس هناك ما يؤكد أنها على السكة الصحيحة لتحقيق انتقال ديمقراطي.

أما اليمن، فقد قادته الانتفاضة، والاقتتال على الحكم، والتمرد الحوثي، والتدخلات الإقليمية الحادة إلى أن يصبح أشلاء وطن وبقايا دولة، وبعدما كان نشطاء الانتفاضة يتحدثون عن "ربيع يمني يقود إلى انتقال ديمقراطي في دولة موحدة"، بات الجميع يتحدث عن الحرب الأهلية والاقتتال الطائفي وضياع السيادة وانهيار الوحدة.

ليست تلك أسوأ الأزمات التي شهدها العالم العربي في أعقاب الانتفاضات؛ إذ تبقى سورية أكبر تجسيد لانهيار الدولة، وتفتت المجتمع، والانخراط في الاقتتال الأهلي، والارتهان للإرادات الإقليمية والدولية.

وبإضافة العراق، الذي كان قد بُشر بـ"ربيع مبكر"، عبر الغزو الأميركي، تكون تلك الانتفاضات ومحاولات التغيير أنتجت أوضاعاً مأساوية في تلك البلدان.

لم تنجح الولايات المتحدة بالطبع في زرع الديمقراطية في هذا البلد، ولم تنجح أيضاً في استعادة الدولة والحفاظ على مؤسساتها.

وفضلاً عن وجود نحو 3.3 ملايين لاجئ ونازح من هذا البلد، فإن "تنظيم الدولة الإسلامية" استطاع أن يقضم مساحة معتبرة معه، وأن يهدد بقية أراضيه بأعمال إرهابية، في وقت زادت النزعات الانفصالية، وتكرس ارتهان الحكومة لسيطرة إيران وتدخلاتها، وبات العراق عاجزاً عن التأهل ومواجهة استحقاقات وجوده الوطني والإقليمي.

لا تبرر تلك الحقائق استخدام تعبير "الربيع العربي" بأي صورة من الصور، وحتى الدفع بأن "الثورات تأخذ أوقاتاً كبيرة"، و"تتعرض لمصاعب ومشكلات"، لا يمكن أن يصمد أمام عمق المأساة التي تعيشها تلك البلدان.

يقودنا هذا إلى محاولة الاستفسار عن الأسباب التي حرفت تلك الانتفاضات عن اتجاهاتها المرجوة، إلى حد أن قطاعات كبيرة من المواطنين العرب أضحت أكثر اعتقاداً في أن تلك الانتفاضات كانت "مؤامرات تخريبية مدبرة" بهدف "إسقاط الدول العربية" التي اندلعت فيها.

إن الانتفاضات أو الثورات ليست مطلباً أو هدفاً في حد ذاتها لأي دولة أو مجتمع، ينتفض الجمهور أو يثور حين يكون التغيير ضرورة، وحين يكون الطريق إليه مسدوداً.

ويمكن القول إن هذين العاملين توافرا بشكل أو بآخر في معظم الدول التي شهدت التغيرات الحادة، لكن تحول تلك الانتفاضات أو الثورات إلى عملية انتقال ديمقراطي، تأخذ المجتمعات التي اندلعت فيها إلى أوضاع أفضل، هو مسألة أكثر صعوبة وتعقيداً.

يكشف استعراض تجارب الانتقال الديمقراطي عبر الثورات والانتفاضات، خصوصاً تلك التجارب التي وقعت في شرق أوروبا، عن الكثير من العوامل التي يجب أن تتوافر حتى تنجح عملية الانتقال الديمقراطي.

من تلك العوامل أن يكون هناك طلب فعلي لدى قطاعات فاعلة في الجمهور على الديمقراطية، بما تستلزمه من موارد وقيم أساسية؛ مثل المساواة، وعدم التمييز بين المواطنين، واحترام حقوق الإنسان، وصيانة حرية الإعلام وحرية التعبير عن الرأي.

إن هذه القيم الأساسية تتناقض بطبيعة الحال مع الارتكاز الديني الذي تستخدمه الجماعات الإسلاموية، كما تتناقض أيضاً مع الاعتبارات الطائفية التي تحكم التفاعل السياسي في أكثر من دولة.

ومن بين تلك العوامل أيضاً أن يمتلك المجتمع الراغب في تحقيق الانتقال الديمقراطي بنية سياسية أساسية، تنطوي على حياة حزبية صالحة للبناء عليها، أو تنظيمات مجتمع مدني قوية، ونقابات مسؤولة وفعالة.

ليست تلك كل العوامل التي يجب أن تتوافر لكي تتحول الانتفاضات والثورات إلى عملية انتقال ديمقراطي ناجعة، لكن التفاعل الإقليمي والدولي، وخصوصاً إرادة الفاعلين المؤثرين والكبار، تؤدي دوراً حاسماً في هذا الإطار، ويبدو أن هذا العامل الأخير بالذات عمل ضد مطالب التغيير الديمقراطي، وحقق نجاحاً ملحوظاً.

* كاتب مصري