في كتاب ستيفان زفايج عن الكاتب الفرنسي رومان رولان، يتحدث المؤلف في الفصل الخامس عن رولان وهو في الثانية والعشرين من العمر، مكتنزاً لا بحب المعرفة، والتعلق بالشعر والموسيقى فحسب، بل بدوار الحيرة الروحية التي تصور له النفس بين كفتي ميزان دائماً: بين الحياة وطلاقتها والنظام، بين الحرية والانضباط، بين التوق الرسالي والامتثال. هذه الوقفة المترددة في مفترق الطرق.

Ad

في تلك المرحلة كان رولان بالغ الشغف بالموسيقى وببيتهوفن بالذات، وبالشعر وبشكسبير بالذات. ثم اكتشف تولستوي فتعلق به تعلق المريد بالشيخ. حينها، ولكي يُعمق قدرُ المبدع حيرةَ الشاب الروحية، كان تولستوي قد أصدر كُتيباً بعنوان "ما الذي يمكن فعله؟" يتضمن لائحة اتهام شرسة للفن، واحتقار حطم كل ما هو عزيزٌ على قلب رولان. فبيتهوفن الذي كان محراب صلاة الشاب الفرنسي، يراه تولستوي، والموسيقى عموماً، مثيراً للافتتان والشهوانية. وكان يرى شكسبير شاعراً من الدرجة الرابعة. لقد كنس الفن الحديث بأسره مثل قش من قاعة الدرس. قدس أقداسِ القلب الفتي أُلقي في الظلمة. "وبالرغم من أن أحداً من مثقفي المرحلة لم يأخذ رأيَ تولستوي مأخذاً جدياً، فإنه اقتحم ضمائر الشبان مثل إعصار".

الضرورةُ المريرة اضطرت هؤلاء الشبان إلى الاختيار بين بيتهوفن وتولستوي المقدس في قلوبهم. يقول رولان: "الخير، والصدق، والاستقامة المطلقة التي يتمتع بها هذا الرجل جعلت منه بالنسبة إلي دليلاً معصوماً من الفوضى الأخلاقية السائدة.... ولكن حبَّ الفن، في اللحظة ذاتها، كان يصحبني منذ الطفولة. الموسيقى، بخاصة، كانت غذائي اليومي؛ أنا لا أبالغ في القول بأن الموسيقى كانت بالنسبة إلي غذاءً ضرورياً للحياة كالخبز".

في حالته الملتبسة هذه، عزم الطالب على حل مدهش. جلس في أحد الأيام في علية البيت، وكتب رسالة إلى تولستوي، يصف فيها الشكوك التي أوقعت ضميره بالحيرة.

أسابيع مضت، نسي فيها رولان ساعة اندفاعه تلك، ولكن في أحد الأماسي، وهو عائد إلى غرفته، وجد على الطاولة علبة صغيرة تحتوي على جواب تولستوي. ثمانيةٌ وثلاثون صفحة مكتوبة باللغة الفرنسية، من كاتب أكبر من حجم الحياة، إلى شاب مغمور. ولكن أحسب أن تولستوي رأى في مصطرع هذا الشاب النقي ما يجعله بحجم الحياة أو أكبر. تعود الرسالة إلى 14 أكتوبر 1887، أعلن في مطلعها قائلاً:

"تلقيتُ رسالتكم الأولى. لقد مست قلبي، وبللت عيني بالدموع". ومضى تولستوي في شرح أفكاره عن الفن. فهو يرى أن ما له قيمة هو الذي يوصل الناس بعضهم بعضا؛ والفنان الوحيد الذي يستحق هذه التسمية هو الذي يضحي من أجل ما يؤمن به. الشرط المسبوق لكل نداء حقيقي يجب أن يكون، لا حب الفن، بل حب الكائن الانساني. هؤلاء الذين تمتلئ قلوبُهم بمثل هذا الحب هم فقط الذين يمكن أن يكونوا قادرين، كفنانين، على إنجاز ما يستحق الإنجاز.

لقد علمته ذكرى استجابة تولستوي لحاجته، ذكرى المعونة التي تلقاها من مفكر أجنبي، أن يتعامل مع كل أزمة ضمير باعتبارها شيئاً مقدساً، وأن ينظر إلى تقديم المعونة كواجب أخلاقي أساسي للفنان.

من رسالة تولستوي انطلق أكثر من رولان واحد. من الآن فصاعداً، صار الأدب بالنسبة له مقدساً، ذاك الذي أنجزه وفاء لسيده. الساعة التي كتب تولستوي فيها إلى مراسله غير المعروف إنما أنتجت آلاف الرسال بعثها رولاند إلى أناس مجهولين في كل العالم. كمية لا حصر لها من البذور تحلق عبر العالم، بذور نشأت من هذه الحبة المفردة من عمل الجميل.

إن ثمرة عبقرية تولستوي، وثمرة لوبات روح وعقل رولان واحدة، مؤداها في صيغة بالغة البساطة تقول بضرورة الانتصار للإنسان، لا للفكرة. "الشرط المسبوق لكل نداء حقيقي يجب أن يكون، لا في حب الفن، بل في حب الكائن الانساني".