إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل هزيمة يونيو، أو إلى ما كانت عليه في 2010، ليست نصراً في حد ذاته، وليست هدفاً يحظى بإجماع أو توافق وطني مناسب، وليست كافية لدحر الإرهاب والقضاء على فاشية «الإخوان»، وبالتالي فهي هدف قاصر، وتبنيه أمر يثير الشكوك.

Ad

على عكس نزعته المتفائلة، وميله الدائم إلى بث الأمل، والتعهد المتكرر بالنجاح وتحقيق الإنجاز، أظهر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قدراً من التشاؤم والتحفظ، عندما حاول أن يشرح أوضاع البلاد والمشكلات التي تواجهها، خلال مداخلة هاتفية أجراها مع أحد البرامج الفضائية المسائية، الأسبوع الماضي.

أراد الرئيس، خلال مداخلته، أن يعلق على أزمة يثيرها شباب "الأولتراس"، الذين يطالبون بمحاكمات وإجراءات لمعاقبة المتورطين في مذبحة قتلت 74 شاباً منهم، في عام 2012، تحت حكم المجلس العسكري.

إن مشكلة "الأولتراس" مع الدولة المصرية معقدة، وهي جديرة بالبحث والتحليل، لكن الطريقة التي تحدث بها السيسي على هامش تلك القضية أظهرت تطوراً جوهرياً في رؤيته المعلنة لأوضاع البلاد، وتعهداته حيال تلك الأوضاع، خلال فترة ولايته.

لقد أتى السيسي إلى الرئاسة عبر حملة انتخابية اتخذت شعاراً إيجابياً متفائلاً هو "الحلم المصري"، وكانت العبارة الأكثر ترديداً عشية انتخابه، سواء على لسانه، أو لسان أنصاره، هي: "مصر أم الدنيا، وستصبح أد الدنيا".

تمت ترجمة ذلك الاقتراب بالطبع في جملة من السياسات والتدابير والتصريحات؛ بعضها يتصل بالمشروعات العملاقة التي تم الإعلان عنها؛ مثل "محور قناة السويس"، أو "زراعة مليون ونصف المليون فدان"، وبعضها الآخر يتعلق بالأداء السياسي والأمني، خصوصاً في ملفي السياسة الخارجية ومواجهة الإرهاب.

لكن الرئيس الذي أمضى نحو عشرين شهراً في السلطة، عبر عن قدر من الإحباط في مداخلته الهاتفية، حتى إنه خفّض عملياً سقف التوقعات من ولايته، حين قال: "استراتيجيتي تثبيت الدولة، ومنع انهيارها"، و"التحديات فوق الخيال"، و"البلد ظل في أوضاع ثورية لمدة أربع سنوات، ولم نهدأ، ولم ننضبط"، و"البلد كان في طريقه إلى الانهيار في 2011"، و"كلما وضعت يدي في مكان أجده مملوءاً (كناية عن كثرة المشكلات)"، قبل أن يختم بتقييم قاطع مفاده أن "مصر كانت أشلاء دولة في 2011، لأنها تُركت منذ حرب 1967، وتلك تداعيات خمسين عاماً".

سيكون وقع هذا التقييم أوضح حينما تتم مقارنته بما قاله الرئيس غداة إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية في يونيو 2014، حين أكد أن "المستقبل صفحة بيضاء، وفي أيدينا أن نملأها كما نشاء عيشاً، وحرية، وكرامة إنسانية، وعدالة اجتماعية".

يشير الاختلاف بين ما قاله الرئيس قبل أسبوع وبين ما قاله غداة انتخابه مباشرة إلى جوهر الصراع الذي تشهده مصر راهناً، وهو صراع بين مفهومين متناقضين عما جرى في "30 يونيو".

فثمة طريقتان لتقييم مسار "30 يونيو"، الذي أسفر عن تولي الرئيس السيسي رئاسة البلاد؛ إحداهما تتعامل معه بوصفه حلاً حتمياً لأزمة هددت كيان الدولة وأمن المواطنين، أما الأخرى فتتعامل معه باعتباره مساراً سياسياً كاملاً يجب أن ينطلق من مشروع ورؤية وأهداف محددة وواضحة، ويجب أن يُقّيم بناء على درجة وفائه بتلك الرؤية وتحقيقه لتلك الأهداف.

إذا أخذنا بطريقة التقييم الأولى؛ فسيكون "بيان مهمة 30 يونيو" هو النص الذي ألقاه الرئيس السيسي (وزير الدفاع آنذاك) في 3 يوليو 2013؛ وفي هذا النص لم تكن هناك وعود استراتيجية أو رؤية أو أهداف موضوعية تتصل بالمستقبل.

لقد كانت أهداف "30 يونيو" التي أعلنت في هذا اليوم، بحضور معظم أطراف العمل الوطني، تتصل بمسائل إجرائية من نوع تعطيل العمل بالدستور، وتشكيل لجنة لتعديله، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً مؤقتاً للبلاد، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وأشياء من هذا القبيل.

على هذا الصعيد الإجرائي، فقد تم تنفيذ استحقاقات "30 يونيو"، بعد إجراء الانتخابات البرلمانية، والتئام مجلس النواب، في شهر يناير الماضي، وبدء اضطلاعه بمسؤولياته الدستورية.

وفق هذه الطريقة، سيمكن القول إن مسار "30 يونيو" نجح بامتياز، خصوصاً أن ما أتى بين سطور "خطاب 3 يوليو" للسيسي بخصوص حماية البلاد من الحرب الأهلية، والحفاظ على مؤسساتها، ودعم الوحدة الوطنية، وتثبيت الدولة ومنع انهيارها، والتخلص من فاشية "الإخوان" كلها أهداف تحققت بالفعل.

التعامل مع "مسار 30 يونيو" باعتباره عملية سياسية وجماهيرية آمنة للتخلص من "الإخوان" من دون أخذ الدولة إلى الانهيار أو إغراقها في حرب أهلية سيعني أن هذا المسار نجح بوضوح حتى الآن.

لكن هناك طريقة أخرى لتقييم "مسار 30 يونيو"، تتعلق بالحشد الجماهيري والسياسي الذي كان وراءه، وبمتطلبات هذا الحشد وأهدافه، التي يجب أن تكون بالضرورة "توجيهاً استراتيجياً" لقادة هذا المسار، واستحقاقات ملحة يجب العمل من أجل تفعيلها والوفاء بها.

بغض النظر عما يقوله "فلول الحزب الوطني"، وبعض أنصار نظام مبارك وغلاة مؤيديه، لم يكن مسار "30 يونيو" لينجح من دون المشاركة والدعم الكبير الواضح من رموز "ثورة يناير" وقادتها وأنصارها، وبالتالي فإن مطالب تلك "الثورة" يجب أن تكون منهج عمل، وهذا هو تحديداً ما يوحي به كلام السيسي نفسه غداة انتخابه رئيساً.

إن مسار "30 يونيو" ليس سوى خطوة إجرائية جوهرية وحتمية على طريق تثبيت وتفعيل مطالب "ثورة 25 يناير" واستحقاقاتها، لكن هذا المسار ليس قادراً على بناء قاعدة سياسية، ولا بلورة رؤية واستراتيجية عمل، ولا الانقطاع عن الدعم الفعال والمستمر والحيوي الذي يمكن أن يحصل عليه من تلك "الثورة".

إن إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل هزيمة يونيو، أو إلى ما كانت عليه في 2010، ليست نصراً في حد ذاته، وليست هدفاً يحظى بإجماع أو توافق وطني مناسب، وليست كافية لدحر الإرهاب والقضاء على فاشية "الإخوان"، وبالتالي فهي هدف قاصر، وتبنيه أمر يثير الشكوك.

إن تلك الأوضاع التي سبقت هزيمة يونيو، وإطاحة مبارك لاحقاً، ليست هدفاً يجب السعي إليه، لأنها ببساطة قادت مصر إلى الوضع الذي وصفه السيسي بأنه "أشلاء دولة".

ولكي يحقق السيسي النجاح، ويثّبت الدولة، وينقذها من التحول إلى أشلاء، عليه أن يعمل على طريق "العيش، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية"، وعكس ذلك سيزيدنا جميعاً إغراقاً في التشاؤم.

* كاتب مصري