بعد أيام تحل الذكرى السابعة والعشرون لوفاة والدي، رحمه الله وغفر له، ومع اقتراب الذكرى تتداعى إلى عقلي الكثير من الذكريات والأحداث والدروس التي تعلمتها منه، وما زلت عليها محافظا ولها متبعا ولمعانيها مدركا، وإن كانت هذه الأحداث من الأمور الذاتية التي لا يهتم بها غيري إلا أن ذكرى والدي تثير في نفسي الكثير من الخواطر حول الموت ذاته، الموت في حقيقته بعيدا عن شخص المتوفى، دور الموت في فكر الإنسان وعقله لا دور المتوفى في شخصيته وحياته.

Ad

* عملية الدفن: إن حضور جنازة والمشاركة في عملية دفن شخص واحد أبلغ تأثيرا وأشد عمقا من قراءة 100 كتاب حول الموت، حيث ترى بعينيك حبيبك (صديقك، زميلك، قريبك) الذي كنت تحدثه ويحدثك، تضاحكه ويشاركك البسمة، هذا الحبيب الغالي تضعه في التراب تحت الأرض وتتركه وتذهب، تتركه وحيدا فريدا لا مؤنس له ولا جليس معه، لا حول له ولا قوة، جسدا مسجى التراب فوقه وأسفله وعن يمينه ويساره، لا يستطيع دفع أذى أحقر الكائنات، فأي كتاب أو درس يساوي ما تراه أمامك؟!

* حقيقة الحياة: «الموت هو الحقيقة الوحيدة في الحياة»، هل يمكن أن تكون هذه العبارة صحيحة؟ وما المقصود منها؟ وهل يمكن أن تكون حياتنا، باستثناء الموت، مجموعة من الأكاذيب؟ ومن كذب على من؟ ومن خدع من؟

* الموت سنة الحياة: عبارة تتردد كثيراً، خصوصاً في سرادقات العزاء، فهل فكر أحد كيف يمكن أن يكون الموت سنّة الحياة؟ الموت نقيض الحياة فكيف يكون سنّة لها؟ فالسنّة كما هو معروف صفة من صفات الشيء أو زيادة فيه، فسنّة الصوم مثلا الصوم المعتاد في غير شهر رمضان (الفريضة)، كذلك سنّة الصلاة زيادة في الفعل، ولكن من جنسه (نؤدي الصلاة بالكيفية المعروفة ولكن غير الصلاة المفروضة)، فكيف يكون الموت وهو نهاية الحياة سنّة لها؟ وكيف تناقل الجميع هذه العبارة؟ يعتقد البعض أن المعنى المقصود بالسنّة هنا إبراز الشيء وتوضيحه، أي أننا بالموت نعرف الحياة، أو بالموت نعشق الحياة، فهل هذا هو المقصود؟

* حكمة الموت وتوقيته: دائماً ما يعترض الجميع على توقيت الموت، وهذا ليس اعتراضا على حكم الله، ولا ردا لقضائه، ولكنه رفض للفراق والحزن والأسى الذي يسببه، ولكننا لا ندري حكمة الله في ذلك، فكم من أب مات وترك صغارا، وكم من زوجة ترملت وهي شابة صغيرة، ولكل حالة حكمتها التي لا يعلمها إلا الله. قال تعالى «وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا * فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما». صدق الله العظيم

* ختاما: اللهم اغفر لأبي وارحمه ووسع عليه في قبره وبرّد عليه مضجعه، وأعطه الراحة بعد الموت، وصعّد روحه مع أرواح الصالحين، واجمع بينه وبين نبيك وحبيبك سيدنا محمد في الفردوس الأعلى في دار تبقى فيها الصحبة ويذهب عنا فيها النصب واللغوب.

أشتاق إليك دوما

بالعين أبكيك دمعا

كانت الحياة معك أملا

ومن درسك أزداد عِلما

علمتني الأخلاق كلها

وبرحيلك الصبر درسا

أشار إليك الجمع فردا

وبين الورى كنت عَلما