اجتاح جون فولي فيض من المشاعر المعقدة، عندما شاهد شريط الفيديو المقزز الشهير الذي يظهر فيه ابنه، الصحافي جيمس رايت فولي، وهو يُعدَم قبل نحو 18 شهراً على أيدي مقاتلين مقنعين من داعش.

قال جون أخيراً في مقابلة مع زوجته ديان:

Ad

{صحيح أن العالم بأسره كان يشاهد، إلا أنني شعرت بالأسى لأنه كان وحيداً ولم يكن أحد منّا معه. أصلّي فحسب أن يكون قد رحل مع ذكريات كل مَن أحبوه، مع أنه كان وحيداً جسدياً}.

انهمرت الدموع من عينَي جون وأضاف بصوت متهدج: {كان هذا الأمر فظيعاً. ولكن برؤية شفتي جيمي على هذا النحو في شريط الفيديو، أدركت جرأته ولمست مدى شجاعته}.

يمثل جيمس فولي بالنسبة إلى أميركيين كثر مجرد مقال، رمز، ورجل ببزة برتقالية في شريط بشع نقل إليهم مدى الخطر الذي يشكّله تنظيم داعش. ولكن بالنسبة إلى عائلة فولي، كان مختلفاً: كان جيمي الشجاع، المثالي، والنقي القلب، كان ابناً ازداد فخرهم به مع كل مغامرة كان ينطلق بها، مع أنهم كانوا يقلقون عليه. كان فولي معتقلاً طوال سنتين تقريباً في سورية قبل مقتله في سن الأربعين. وقرر والداه تبني سعي ابنهما إلى كشف الأخبار الفعلية وراء العناوين العريضة.

قد تراود سائر الأميركيين المشاعر عينها كما آل فولي بعد مشاهدتهم {جيم}. أخرج هذا الفيلم الوثائقي براين أوكس، خبير التصوير السينمائي وصديق جيمس منذ الطفولة. ويشكل {جيم} تكريماً حميماً لرجل حظي بمحبة الجميع، فضلاً عن أنه يذكّرنا بأن الحرب على الإرهاب، رغم تعقيداتها السياسية البالغة كافة، تؤثر عموماً في عائلات حائرة ومحطمة القلب تقطن في حيّ مثل حيّنا.

بعد عرضه الأول في مهرجان ساندانس السينمائي الأخير، حيث فاز بجائزة الجمهور، يُعرض {جيم} راهناً على شبكة HBO. ويصوّر الوثائقي رجلاً وُلد في بلدة صغيرة في نيوهامشير، وكان إنساناً غني الروح تمتّع بدافع فطري إلى المخاطرة سعياً وراء الحقيقة.

أخبرت ديان وهي جالسة قرب زوجها بصوت حمل خليطاً من العزم والشك: {عندما أدركتُ المخاطر الذي يواجهها، أتذكر أنني سألته: لمَ تقوم بهذا العمل؟ تحمل شهادتين جامعيتين. لماذا؟ فأجابني: أمي، عليك أن تتفهمي شغفي. ازدادت حماسته بمجرد تطرقه إلى هذا الموضوع، فأدركتُ عندئذٍ ما يشعر به}.

كان فولي، الذي تابع دراسته في جامعتَي ماركيت ونورثويسترن، روحاً حرةً. كان منهمكاً جداً بسعيه هذا، حتى إنه كان يحضر إلى مواعيده متأخراً ساعات، وكان ينسى دوماً وضع فرشاة أسنانه في حقيبة سفره، حسبما يشير الفيلم. احتاج إلى بعض الوقت في مستهل شبابه ليدرك هدفه في الحياة. تطوّع للعمل مع منظمة Teach for America وعلّم السجناء الكتابة في منطقة شيكاغو. ولكن مع تطوّر الحرب في العراق، شعر بالحاجة إلى الاقتراب من الصراعات العالمية المحتدمة وتغطية أخبارها.

نتيجة لذلك، التحق فولي بالحرس الوطني في إنديانا كصحافي مراسل. وبعيد ذلك، سافر كصحافي حرّ مع مجموعة صغيرة من أصدقائه من المراسلين الدوليين بغية تغطية حوادث ثورة عام 2011 في ليبيا. فأُسر هناك وظلّ محتجزاً كرهينة طوال 40 يوماً قبل إجراء مفاوضات لتحريره.

عاد الصحافي إلى عائلته المتماسكة، فهو الابن الأكبر بين خمسة أولاد، وكان مقرباً جداً من أخيه العملي مايكل، صوت بارز في الفيلم. إلا أنه شعر بالسأم خلال عمله في تحرير المقالات وراء مكتب، فسارع بالعودة إلى مناطق القتال. ولكن في أواخر عام 2012، أُسر في شمال سورية التي تمزقها الحرب.

يركّز النصف الثاني من فيلم {جيم} على ما كانت عليه حياة فولي القاسية في الأسر. فقد احتُجز مع نحو 12 صحافياً أوروبياً في مراحل مختلفة. وباستثناء البريطانيين، أطلق سراحهم كلهم. وتقدّم أصواتهم نظرة مفصّلة إلى حياة فولي كإنسان غربي وراء خطوط داعش.

ابتكر السجناء ألعاباً لوحية من مواد خام قليلة توافرت لهم. كذلك حوّلوا البرتقال إلى سكاكر. ويجب ألا ننسى جلسات التعذيب. فكما يذكر أسير سابق في الفيلم، لم يتعرضوا لألم جسدي بقدر ما عانوا الغموض النفسي.

جوهر جيمي

لما كان فولي متفائلاً باستمرار، فإنه كان سنداً للجميع طوال هذه المحنة. ولم يتردد في تقديم المساعدة والدعم، حتى لو عنى ذلك تناسيه ألمه الخاص.

ذكر جون فولي، الذي يعمل طبيباً، بصوته الرقيق: {مرّت إحدى اللحظات الأكثر تأثيراً في الفيلم، والتي عكست روح جيمي خلال مشاهدتي الفيلم، عندما كان البعض غير واثقين مما إذا كانوا سيُحرَّرون، فأحاطهم جيمي بذراعيه ودعمهم، مع أنه كان يدرك تماماً أنه لن يعود إلى الحرية مطلقاً}. وأضاف بصوت يكاد يختنق: {هذا هو جوهر جيمي}.

أشار أوكس، الذي عرف جيم فولي جيداً خلال فترة أمضياها معاً في بلدتهما في نيوهامشير: {كان شاباً ترغب دوماً في تمضية الوقت معه. فكلما دخل جيم الغرفة، كان يبدل جوّها من دون أن ينطق بكلمة}.

صحيح أن الفيلم يتفادى السؤال عما إذا كان بإمكان فولي إنجاز عمله كصحافي في الخارج بطريقة تقليدية، إلا أنه يوضح بشكل جلي فوائد الجرأة التي أعرب عنها. كان جيم وزملاؤه من بين أول مَن نقلوا الصور المريعة والقصص المخيفة من منطقة تجرأ قليلون على السفر إليها لأنها تُعتبر بالغة الخطورة (من أهداف المنظمة التي أسسها جون وديان بعد موت ابنهما تقديم شبكة أمان أفضل لعدد متزايد من الصحافيين المستقلين في مناطق الصراع).

أسئلة... ونهاية مؤثرة

يدفعنا الفيلم إلى طرح عدد من الأسئلة، خصوصاً عن سياسة التفاوض بشأن الرهائن الصارمة التي تتبعها الولايات المتحدة. صحيح أن جون وديان رفضَا التطرق إليها أخيراً، إلا أنك تستشفّ من الفيلم مدى استيائهما من جهود الحكومة. فكما أشار محرر فولي، أُطلق سراح كل الأوروبيين. علاوة على ذلك، قد يتساءل بعض المشاهدين: لمَ يُسمح لمدني بالتوجّه إلى مناطق ساخنة مثل سورية، خصوصاً بعد نجاته من الموت قبيل ذلك بوقت قصير؟ ولكن كما يشير أحد أصدقائه في تشبيه يتلاءم مع فيلم Spotlight الذي يُعرض في دور السينما راهناً، لا تنتقد رجل إطفاء يهرع إلى مبنى يحترق ليؤدي عمله. فلمَ ننتقد صحافياً يقوم بالمثل؟

من الطبيعي أن يعتبر والدا فولي هذه المسألة حساسة. قال جون: {عانينا كثيراً لنأتي بجيمي من ليبيا. لم نرد أن نضغط عليه. لكني ما زلت أشعر أحياناً أننا لو لمناه ربما كان سيمتنع عن السفر مجدداً إلى بلد مماثل}.

وأضافت ديان بهدوء: {كان بإمكاننا أن نلومه}.

تشمل نهاية الفيلم لحظة تهزّ مشاعر أشد القلوب قسوة. يقرأ أخو جيم مايكل رسالة وداع إلى حد ما كتبها فولي قبيل إعدامه. يسرد فيها هذا الصحافي بكلمات مؤثرة ما يحبه ويتذكره عن كل فرد من أفراد عائلته، مثل معانقته أحد إخوته خارج نادٍ للفكاهة وتمنياته لجدته.

متنهدةً بعمق، قالت ديان، فيما تعدِّد بعض التفاصيل الواردة في {جيم}: {تدرك أنك لا تعرف أولادك عندما يصبحون بالغين. ينطلقون في الحياة ويحظون بوظائف وأصدقاء. فتبقى جوانب كثيرة من حياتهم غامضة بالنسبة إلى الأهل}.

ختم جون: {عرفنا جيمي من خلال هذا الفيلم}.

* ستيفن زيتشك